ما الذي يميّز التونسي عن بقية العرب؟
هذا السؤال طرحه عليّ صديقي أبو نايف الإماراتي ونحن منطلقون من مدينة الشارقة إلى مدينة دبي في سيارته «الشفروليه» الفارهة لنحتفل برأس السنة الميلادية وكانت زوجته الفلبينية «ميليسا» تجلس إلى جانبه وفي الخلف إلى جانبي «ألبير» اللبناني بشعره الطويل الذي ينسدل على كتفيه و قد غرق في دخان سيجارته ….. ألبير هو سبب قدومي، فقد ألحّ عليّ لمرافقتهم رغم علمه بنزلة البرد التي لازمتني أياما........واصل أبو نايف مداعباته قائلا:
اللبناني يتكلم دائما ثلاث لغات في جملة واحدة حتى يبرز أنه مودرن modern ولكن التونسي لا نستطيع أن نحدد شخصيته؟ يا أخي نحن الخليجيين كلنا سُمْر فإذا تكلمنا عرفونا من أي بلد خليجي نحن ولكن التونسي لهجته غير مفهومة وشكله غير محدد فيمكن أن يكون أسمر أو أشقرأو أبيض....
ثم التفت إليَّ ويداه على المقود:
ما الذي يميّز التونسي عن بقية العرب؟ خبّرني يا طويل العمر أو بالأحرى يا طويل البنطلون!! انفجرنا ضاحكين فقد كان يعرف أن تلك العبارة نذكرها دائما على سبيل التندّر....
وبعد مدة قصيرة بدأ التوتر يتفجّر كالعادة بين أبونايف وزوجته مليسا، فقد كانت هذه الأخيرة تريد أن تتعشى في مطعم صيني في حين كان هو يريد الذهاب إلى مطعم عربي وبعد نقاش حاد وتافه بلغة انجليزية عرجاء انقاد لها وذهبا معا إلى مطعم «الباب الذهبي» الصيني ليتناولا الأرز بأفخاذ الدبابير المشوية المقرمشة وأفخاذ الضفادع المحمّرة، في حين توجهت أنا وألبير إلى مطعم لبناني غير بعيد عن موقف السيارة قريبا من شارع المرقبات وسط مدينة دبي...بعد ساعة تقريبا عدنا إلى السيارة ومرة أخرى عاد التوتر بين مليسا وزوجها أبو نايف الذي كان يريد التوجه إلى فندق «سويس رزيدانس» لأنه يسمح للإماراتيين بالدخول بلباسهم التقليدي، كانت زوجته تريد الذهاب إلى فندق «حياة رجنسيا» لأنه أفخم وبرنامجه تلك الليلة أكثر احتفالية وتنوعا وكالعادة يرضخ أبو نايف لإرادتها...... كانت المدينة تموج بالسيارات والمشاة وقد عمت الزينات والفرح الطرقات والشوارع عندما أوقف أبو نايف سيارته في مواقف الفندق السفلية المزدحمة.... كانت الساعة تشير إلى الثامنة ليلا...في تلك الأثناء كان أبو نايف المتضايق يغيّر ملابسه في الموقف حتى يُسمح له بدخول الفندق وقد لبس بدلة وحذاء وربطة عنق...كان وهو في تلك الملابس يبدو كائنا غريبا وربما مضحكا....
دخلنا الفندق ومررنا مباشرة إلى العلبة الليلية التي كان بابها مدججا بالأمن....وما إن ولجنا بوابتها الكبيرة حتى تهنا في شكلها وشساعتها....كانت أشبه بقبة المنزه، يلفّها الظلام، أنوارها خافتة متراقصة و موسيقاها عالية متوترة، كانت النادلات يضعن قبعات صفراء بلاستيكية عليها مصابيح مضيئة تماما مثل عمال المناجم و ذلك حتى تعرفن طريقهن، كانت مظلمة عدا بعض النور الخافت المنبعث من نوافذ صغيرة ضيقة في الأعلى، كانت مكتظة إلى درجة أنك لا تدري من بجانبك و ما الذي بصدد فعله؟!، وما إن دخلنا حتى ذهب أبو نايف ومليسا إلى المرقص يقفزان كالمجانين أما أنا وألبير فقد توجهنا إلى البار، في تلك اللحظة وجد ألبير ضالته في لبنانية قادمة إلى البار ابتسم لها عرف من اسمها أنها من نفس طائفته و بعد كلمات قليلة لم تتحمل لباقته القاتلة فتوجّها معًا إلى المرقص، و هكذا ظللت وحدي ظلاّ من الظلمة...وفي لحظة خاطفة برزت لي فتاة من الظلمة..... فارعة الطول..تنشرالضياء و النور مع كل خطوة تخطوها، شعرها كستنائي طويل و عيناها لماعتان يمتزج فيهما خضرة شجر الغار بزرقة البحر..برزت لي من خلف الظلمة والدخان والأنوار الخافتة المتراقصة و كأنها قادمة من زمن آخر....و ما إن اقتربت مني حتى أشارت بإصبعها إلى أعلى وهي تقول بلغة ثملة مغرية:
ثم واصلت وهي تنظر ساهمة و كأنها في عالم آخر:
دوشتيا....دوشتيا سناروجي...
عرفتْ أنني لم أفهمها فأصبحت تشير بيديها إلى جسمها وكأنها تقدم نفسها و هي تقول بلغة أنجليزية متشنّجة:
فقدمتُ لها نفسي و قد بدت شاردة...مشوشة الذهن... سألتْني عن بلدي، فقلت لها: تونيجيا (تونس)..أنا من تونيجيا...
فردّت وكأنها تريد التأكد:
أندونيسيا..؟!
لا لا تونس...شمال أفريقيا..
فقالت بفخر وحماس:
أنا من روسيا..
فأردفت بسرعة:
وجهك أسرّ لي بذلك....
فابتسمت، كانت تفهم الانجليزية لكنها لا تستطيع أن تعبر بها بطلاقة...سألتها عن مقهى "بوشكين" و مسرح "البولشُوي" في موسكو هل زارتهما؟....و ما أن سمعت الاسمين حتى صارت تقفز كالمجنونة و ارتمت عليّ تعانقني كطفل صغير ثم عادت لتمسك يدي ساحبة إياي إلى الخارج وهي تصرخ:
دوشتيا...دوشتيا..
ورغم أنها اكتسحتني بعفويتها، تساءلتُ باستغراب: أيّ ليلة طويلة التي ستجعلني أجهد نفسي مع هذه الفتاة؟!! دعوتُها إلى كأس، وقفنا على البار وسط حشد هائل من الناس ، طلبت دوشتيا كأسا B52 وهو خليط من الكحول يُقدَّم في كأس يشتعل نارا و قد أُخذ الاسم من أكبر طائرة عسكرية أمريكية، شربتْه " دوشتيا " دفعة واحدة..... قلتُ في نفسي لا يذيب ثلوج روسيا إلا نيران أمريكا الصديقة....!!
أمضيت الليلة معها أحتسي الماضي و أرقص للفجر و أتلحّف بالعيون............و الصمت يطوّقنا في جلال ودعة، لقد ضمّني إليها عمق الذكريات و أسى الغربة و خيانة الفجر لنتجاوز عذابات اللحظة ووطأة الغد و هزء الخريف...ولذا لم أرد أن أخنق المتعة بالكلام..... و عند منتصف الليل غبنا في عناق الضياء و جنون الموسيقى و الأنخاب المتدافعة.... نسينا الزمن و غرقنا في أسرار الظلام البهية... ذبنا في بحر احتفال مجنون وسط أمواج من البشر ظلالا من السواد المتدافع في رقص محموم يطارد المتعة الهاربة.....
في تلك اللحظة تذكرت أصدقائي و أهلي، مرّت أمامي صورة لقريتي محفورة في كياني..قريتي " وذرف "......"وذرف " القريبة..البعيدة..الساحرة...القاتلة....تلك التي تسند رأسها غافية عند حافة الوادي تاركة ساقيها للبحر والريح.....صورة لها تتمطى من النهرالأفعواني إلى البساتين النائمة إلى شذى المرقوم يحيكه صبر النساء الفقيرات و جوع التجار المضاربين الأبدي ليُنمّق كِبْر زوجات الأثرياء خيوطا من الصوف والبرد و أصابع من العوز والدموع....كان صوت الموسيقى بإيقاعاتها السريعة يمتزج في ذهني بصوت دقات "خْلالة" عمتي تسوّي خيوط "مرقومها" في المنسج....دقات تتزامن مع أهازيجها المثخنة بالوجع...أصوات حزينة تبكي أخًا مات يافعا وزوجا رحل صغيرا فتركها حبيسة الشتاء و الذكريات في "مخزنها" الدافئ برائحة الوشم والشاي والنعناع كانت خيوط المرقوم تنهش عيونا من برد و أصابع من صقيع وكانونا خبا جمره إلى الأبد........مدت "دوشتيا" العاجية إلى كتفي لترجعني إلى المكان المحموم..............
و حتى أنسى كل تلك المرارة النائمة دفنتُ قيظ قريتي في أنهار روسيا المتجمدة... الساعة الثالثة صباحا جاءني ألبير يريدني أن نذهب أربعتنا إلى شقة صديقته اللبنانية "كوزيت " في دبي فهناك يمكننا أن نتم الاحتفال وأن لا فائدة من العودة إلى الشارقة، رفضتُ ذلك و قلت له:
نحن أتينا مع أبو نايف ولا بد أن نعود معه هكذا اتفقنا من البداية...
فقال بصوت ثمل:
يمكننا أن نستأذنه ثم إن كوزيت لديها سيارة و شقتها ليست بعيدة عن الفندق و لاشك أنك تعرف حوادث المرور ليلة رأس السنة في دبي…....
رفضت رفضا قاطعا رغم أنني لاحظت ارتياح "دوشتيا" لـ "كوزيت"....بعد ساعة تقريبا جاء أبونايف مبتسما متعرّق الوجه وقد فتح أزرارقميصه وبيده ربطة عنقه، يمسح أعلى صدره بمنديل ومعه مليسا، عرضا عليّ الخروج فلم أمانع في العودة إلى البيت فقد أصبحت الحرارة لا تطاق في الداخل و هكذا خرجنا من الفندق، كان المطر يهطل بغزارة في الخارج، ركضنا تحت المطر وودعنا بعضنا و توجهنا نبحث عن سيارة أبونايف، لم أشأ أن أترجى دوشتيا أن تذهب معي قلت في نفسي ربما سيوصلاها إلى الفندق الذي تقيم فيه ثم إنها كانت فقد أخذت ترقص تحت المطرحتى تكاد تسقط وهي تشير لي بأصابعها أننا سنلتقي غدا، لم أعرها أهمية، كانت قد اتكأت على كتف كوزيت وهي تمازحها باللغة الروسية، كنتُ منفعلا وغاضبا من ألبير لأني أكره أن يتراجع رجل عما اتفق عليه.....في الطريق كانت حركة المرور خانقة ولكن مازاد انفعالي و غضبي هو كلام مليسا فقد اقترحت عليه أن نبيت في شقة مفروشة وبدأ هو يعارضها، قلتُ في نفسي صاحبة العيون الضيقة هذه تتلاعب بنا، كنت أعلم أنه سيرضخ لها و لذلك رجوت أبونايف أن يتوقف، سألني عن السبب، ادعيت أن مثانتي ستنفجر بالبول،أوقف السيارة على ناصية الشارع و المطر مازال يهطل بغزارة و بعد أن نزلتُ انحنيت قليلا وراء السيارة حتى يراني وأشرت إليه أن يواصل طريقه، رأيت الاستغراب يكتسحه فنزل وهو يقول:
ما بك يا ريّال يالله اطلع..
فأجبته و أنا أضع يدي في جيبي سترتي الجلدية اتقاء للبرد والمطر:
يمكنكما أن تذهبا الآن إلى شقة مفروشة..
يا ريال مليسا مجنونة....نصف ساعة ونكون في البيت..هيا اطلع....
أطلت مليسا مستغربة عندما كنت أبتعد عنهما بخطوات مرتجفة، غيرأن أبونايف ظل يصرخ مازحا:
يا طويل العمر تعال...يا طويل البنطلون هيا تعال.....أُحسًّ كأني مومياء في هذه البدلة... ولكنني رأيته يركب سيارته ليوقفها بشكل صحيح خارج الطريق المعبد و ينزل هو ومليسا و عندما كانا سيقتربان مني رأيت ابونايف يلتفت إلى سيارته يضغط على المفتاح ثم يقول في ذعر:
أغلقتُ السيارة و هي لا تريد أن تُفتح إنها لا تستجيب...
اقتربتُ منه، أخذت المفاتيح، حاولت فتحها، تلمّست مقابض الأبواب بلا فائدة، كانت مطفأة تماما، قلت له:
إن بها عطل كهربائي و هي لا يمكن أن تفتح....
و هكذا الساعة الرابعة فجرا، على حافة الطريق، وقفنا ثلاثتنا صامتين تغسلنا حبات المطر، ننتظر سيارة أجرة....
مساء الغد كنت في شقتي طريح الفراش، لقد أصبت بنزلة برد حادة عندما دخل عليّ ألبير و أبو نايف و مليسا...قال ألبير:
لم نجدك في مقهى التوانسة في المدينة فعرفت أنك مريض...ثم بحركة مسرحية من يديه صرخ قائلا أقدم لك الوجوه الجديدة اكتشافات سنة....:
كوزيت اللبنانية و لورا الروسية
و دخلت كلتاهما، كانت عينا "دوشتيا" اللماعتين قد شابهما انتفاخ بسيط..... و أمام ابتسامي و استغرابي واصل ألبير في صخب :
اعلم يا صديقي أن "دوشتيا" بالروسية يعني المطر و البارحة كانت تريدك أن تخرج معها لترى جمال المطر في الليل كوزيت هي من فسرت لي ذلك....أليست هذه أحسن مفاجأة لعام جديد...
أجبتُه مبتسما:
بالنسبة إليّ سيبقى دائما اسمها " دوشتيا"...
اقتربت دوشتيا من جانب الفراش بوجه ثلجي هادئ و ابتسامة مضيئة لامعة وبيدها باقة من الورد كبيرة عليها إهداء، أمسكتْ بيسراها يدي، عند ذلك صرخ أبو نايف قائلا:
يا طويل البنطلون..... افتح الإهداء.....لقد كتبناه مع بعض...
كان ظرفا صغيرا أصفراللون ، فتحتُه كان به ورقة صغيرة كُتب عليها:
" إلى صديقنا التونسي...عساك بعافية (ليست عافية تونسية طبعا ) وكل عام وأنت بخير...مع العام الجديد، البارحة عرفنا مالذي يميّز شخصية التونسي:
التونسي: سريع الالتهاب.