..كنت حينها طريح الفراش، أتصبّب عرقاً، فلا أكاد اَمسحه على جبيني حتى اِقتحمت غرفتي، وصاحت بصوت مدوّ تزعزع السقفُ له فارتعش جسدي واِرتفعت حرارتي أكثر مما كانت عليه:
يا فتى، قُم فنومك طال، وخُمولك اِختال، وصَيتك زال، ولم يبقَ لك شانٌ وحال.
وكان لها من الكلام ما لا تطيقه الأصاغي، حيوية وقاسية، فتدنو مني حين تلمح ذلك السّكون الغريب الذي كان يعتريني آنذاك، ثم جلست بجنبي وقالت:
أنت مريض !
ووضعت كفّها على رأسي لتلفَحه تلك الحمّى، ثم ابتسمت، كانت ابتسامتها نحيفة تمتزج بعتاقة الأمومة حينا ودفءٍ ورديٍ حينا آخر، لا أرى الألوان بوضوح وقتها ولكن محيّاها اِرتسم في طوق الجفون تسلّطاً، عطوفاً، فتأخذ بمنشفة مبللة وقعت مني بينما كنت نائما ثم تجعلها فوق جبيني عسى أن تخفف عني بعض الآلام، وتحمل كيسا من الثلج وتمسح به على وجهي. حنانٌ بتجاعيد حاكها الدّهر، وتظلُّ تلك المرأةُ جدّتي التي تأبى أن تشيخ روحها بيد ما لها من أوشام، واحد يعلو جبينها وكأنه رمز فخر واعتزاز بتقاليد أجدادها.. جميل ! وآخرٌ نُقش بلون قرمزي على أحد أطرافها يضفي بهاءً بسيطاً، ها هي تقوم اذن، أَ تُراها تغادر ؟ أم أنها تبحث عن ألفاظ أشد قساوة؟
لا بل تمسح عن لباسها الفضّي الفضفاض، وتحرك حُليَّها المرصّعة ثم تنظر الى عِقد بعُنقها، وتلي تلك النظرات تمتمة ثم وكأنها تخاطبني عن أشياء لا أجد لها علاقة بي وتذكر أسماء أشخاص لم يسبق لي أن سمعت عنهم، وطال حديثُها، فكانت من حين لآخر تسألني فأجيب بهمهمة الهذيان على كل سؤال وأنا أتخبّط ألما على فراشي اللّعين، لا أملك طاقة كافية لأتمايل صوب الجهة الأخرى، تقترب ثم تجلس، تضع كفّها في كفي وتقول:
يا بني، طال الزمان، واختلطت الأديان، ونتِنت ذات الانسان..
(لا تكمل حديثها.. بل يغزوها صمت متثاقل، كانت شاردة الذهن لفترة..)
تستعد للوقوف، تلمَس جبيني مجددا لتتفقد حالي ثم تنصرف، كان رحيلها أليفا، خطواتها متوازنة، تحمل بعضا من مدوناتي كانت مبعثرة وتضعها على طاولة بقربها وتستدير قائلة:
إن غرفتك جد دافئة، ولم ترمِ سراويلك على الكرسي؟ فالخزانة هنا! ثم تلمح المرآة على شِمالها، تتجاهلُها وتفتح الباب ثم تصيح كعادتها وكأنها تتناسى مرضي:
اِنهض يا فتى، فتمارضُك ليس بالحيلة الكافية لتنطلي علي.
غريب أمرُها حقاً، تلك كانت جدتي، جملٌ من العُقد البسيطة والواقعية، اكتسبتها من أرياف زيّنها دويُّ انفجارات المستعمر آنذاك وطغى عليها العنف والاستبداد ولكنها تبقى شامخة ساخرة، تمزج ما بين الأنوثة والشهامة وما بين الكفاح والرأفة فتراها ودوداً تارة وقاسية تارة أخرى.. ربما تريد أن تُوصل لي فحوى ما كابدت لذا سأرضخ لما تريد..