عزيزي،
أعرف أنك لا تفهم غضبي، ولن تفهم شعوري بمرارة خيانتك فأنت لم تفعل أكثر من دعوة صديقتي إلى صندوقك الرمادي لتقيم معك هناك، كانت تشعر بالوحدة والبرد ففرشتَ لها زوايا صندوقك لترتاح بداخله، وأنا بدأت الآن أفهم معنى تلك الخيانة وبدأت أتعايش معها، ولكن ثمة ما بدأ يزعجني هذا الصباح، أهو صوت الموسيقى الغريبة المنبعثة من جهاز التلفاز، أو صوت المغني المنبعث من سماعات جهاز الحاسوب، أم أنها تلك الأغنية التي تناديني منذ الصباح وتدعوني للرد على مكالمة هاتفية من رقم مجهول؟
بدأت الآن أدرك أن ما يزعجني لم يكن سوى ذلك الشكل الهندسي المستطيل أو المكعب أو شبه المنحرف الذي يتشكل في النهاية صندوقا الكترونيا غريب اللون في غرفتك.
باتت تقلقني الأشكال الهندسية، يتعبني النظر إليها، لأني كلما نظرت نحوها تذكرت نظرية سوزان ديلينجرز في كتابها "التواصل رغم اختلافاتنا" وهو كتاب يساعدنا على معرفة شخصيتنا وشخصية من يتعامل معنا، حيث وضعت من خلال الأشكال الهندسية طريقة يمكننا بواسطتها التعرف على معتقدات و قيم من نتعامل معهم من البشر وكذلك على مواقفهم وتصرفاتهم واتجاهات سلوكهم، وأنا كثيرا ما أتوقف عند تلك النظرية وغيرها من النظريات التي تضع البشر في قوالب وصناديق وتعطي انفعالاتهم وتفاعلاتهم وردّة الفعل لديهم أشكالا هندسية معينة وتضعها في قوالب التصنيفات والعموميات؛ متناسية أننا لا نعمل في مختبر كيميائي حتى يمكننا أن نحصل على النتيجة ذاتها أو النتيجة المتوقعة في كل مرة.
هذا الصباح لم يزف لي هاتفي خبر اتصالك بعد، ولم أستنشق رائحة قهوتك ولم أشعر بدفء رغبتك وأنت تضمني، ما حدث فقط هو أني افتقدت وجودك فبحثت عنك..... ملامح الليلة الماضية ما زالت تطاردني وتدعوني لاستقبال صباحي الشاحب دون قبلة، وجدت سريرك فارغا، فنجان قهوتك الباردة كان يستوطن حافة الشرفة، ربطة عنقك كانت تستلقي على الأريكة بإهمال، مفاتيحك على الطاولة ما زالت تحمل بصمات أصابعك. لم تغادر بسيارتك ولم تذهب إلى عملك لكني سمعت مواء قطتك الجائعة عند الباب فقررت أن أبحث عنك في أرجاء المكان، عندها وجدت انك قد نسيت صورة آخر خياناتك على شاشة حاسوبك الشخصي دون وداع.
عند المساء وضعت رأسي على الوسادة واستحضرت صورة وجهك الخائن في الظلام، انتظرتك لتعود إلى سريرك ولكني لا أعرف كيف سرقني النوم من صحوتي وتفكيري! ربما لأني عرفت أخيرا أن أفكارك لم تعد بحاجة إلى الظلام لتظهر، فأنا أراها أمامي وقد أنضجتها حرارة شمس النهار.
عند الفجر تسللت من سريري نحو غرفة مكتبك، كان ظل كلماتك يكوّن شكلا هندسيا، صندوقا مستطيلا يملأ رحابة الفضاء، وكان الألم القاتم في نفسي يطغى على حيوية المكان. كنت أعرف أن الظلام يستبد الآن بهذا الصندوق الالكتروني الرمادي حين تتلاشى مبررات وجود الضوء، وكنت أتلصص عليك من ثقب فضاء المكان.
خلال رحلة بحثي الالكترونية عنك وجدتك جالسا في الفضاءات القريبة تبحث عن بقايا صديقاتي، موفقة كانت رحلة بحثك عن تسلية جديدة تشبهك؛ وعند الصباح قررت أن أترك لك الباب مواربا لتستمر في رحلة بحثك دون أن أسمعك أو أراك وتعمدت أن أنسى حقيبة يدي على الطاولة لأترك لك حرية الغوص باحثا في مكنوناتها عن رقم بقايا صديقتي ....... تركت لك عنوان بريدها الالكتروني مكتوبا بحروف واضحة على مفكرتي التي سقطت سهوا من حقيبة يدي فوق السرير قبل أن أغادر.
خرجتُ باكرا هذا الصباح؛ فأنا أعرف أن روعة المطر لا تكتمل إذا لم تسبقها لهفة اللوعة والانتظار....... كنت محملة بألف قرار وقرار وأنا أصعد درجات المطعم القريب لأشرب قهوتي الصباحية برفقة زوج صديقتي قبل أن أتوجه إلى عملي، لكني كنت أترك الصعود أحيانا لألتقط أنفاسي فأرتاح قليلا، فأنا قد تركت لك اليوم وقتا كافيا لتحتفل بنصر جاء به جسدها إليك، كان زوجها يصعد درجات السلم خلفي كمن يتسلق ظلام الليل بمخالب اليأس.......... وهو يحلم بأن يستجدي بعض الراحة معي رغم ساعات نهارنا المتخمة بالألم والوجع.
وجدت الخيانة تباغت يومي هذا الصباح، فقد بدأت الآن أفهم إيماءات عينيه وأصابعه بدقة، وكنت ألف ذكرياتي معك تبغا وأرتشف ثرثرتنا التي افتقدتها هذا الصباح سكرا لقهوتي، كان طعم الماء مليئا بالصدأ وأنا أشرب قهوتي برفقته و كانت الشهوة تحاصرني فأستسلم للشكوك؛ وأنت تعرف أن الشكوك تزداد عادة عند الصباح.
يحتلني الذهول من بلادتي كلما تذكرت أنك تجلس الآن معها على حافة سريرنا وكأنك تجلس تحت قوس قزح وتشعر بالهزيمة من أفعال عادة ما كنت تفتخر بها.
تمردت حينها على قانون الجاذبية الأرضية وأنا أستحيل شهوة في عينيّ رجل وسيم ينتظر مني تآلفا مع طقوسه الجديدة لأنام على حافة النسيان دون أن أثير دهشة مرايا غرفة نومه الفاخرة.
أتعرف عزيزي؟ لقد اكتشفت اليوم أن تلك الأجهزة الالكترونية ما هي إلاّ صناديق رمادية اللون، شاشاتها امتداد لزمن جديد ما بين الحقيقة التي تسكن في الداخل وبين حقيقة أخرى تنتظر منا العبور إليها، وأنه كلما كان الصندوق صغيرا كانت المساحة خلفه أكثر اتساعا ورهبة. بعض جنون الخيانة كطعم شراب الزنجبيل قوي ، حاد ولاذع لكنه ينفع لعلاج العديد من المشاكل، شكرا لشراب الزنجبيل وألف شكر للتكنولوجيا التي جعلتني أدرك أخيرا أن الخيانة ملح كل علاقة عاطفية ناجحة.
اليوم أعترف لك أنه ليس بيني وبين النجوم خصام ولم تكن ظلالي الثقيلة هي التي دمرت عشقي لك ولم يكن لصوتك الذي كثيرا ما كان يضم صديقاتي له عبر مساحات الأثير أي أثر، ولكنها قد تكون هي تلك العلاقة الغريبة التي تربط العتمة بالضوء، نقيضان يجتمعان مرتين في اليوم، صباحا تنام العتمة في حضن الضوء وفي المساء يعاود الضوء مغادرة الأفق لينام في حضن العتمة مطمئنا.
كم هو جميل بالكون الرحب أن يستشعر دفء شمس واحدة، وكم هو جميل بالرجل الكبير الروح أن تستحوذ على كيانه امرأة واحدة فقط..........!