استيقظ مصطفى من نومه مبكرا، كعادته يوميا، نظر نحو سقف الغرفة التي يقطنها برفقة تلك المروحة الهوائية، التي ترسل هواءً حارا، وذلك العرق الذي تصبب منه، اخذ وهلة في فراشه تذكر أهله، زوجته، بعد أن تركها وجاء إلى العراق، بحثا عن عمل يحسن وضعه من خلاله، شأنه شأن كل المصريين الذين قدموا إلى العراق لنفس السبب، رافق الأحداث منذ فترة ليست بالقصيرة، ولا زال باق حتى بعد سقوط النظام، استمر بعمله ككرسون في نفس المقهى الذي بدأ العمل فيه، وكيف أن زوجته ستلد قريبا؟! بعد أن مر على زواجه فترة ليست بالقصيرة من الزمن دون أن يرزق بمولود، لكن شاءت قدرة الله وأثناء زيارته الأخيرة لأهله بان تحمل زوجته، ذلك الخبر أفرحه كثيرا، تذكر كم فرح بالخبر وقد أخبر كل الناس الذين يعرفهم تقريبا، بأنه سيرزق بمولود، وزع المشروبات الغازية على اغلب رواد المقهى الذي يعمل فيه.
جسمه، مصدرا صوتا هادرا يخرج فيه كل خمول، شاحذا كل العضلات المتراخية، جلس بعدها على حافة السرير، بعدما أخذ يفرك وجهه بيديه قائلا لننفسه: هيا أنهض لأخذ دوش حمام، لتستعيد وعيك، وتطرد الكسل، ولتبدأ العمل بعد أن تتوكل على الله، هكذا بدأ يومه متوجها للمقهى ليفتح أبوابها كما في كل يوم، كانت عادته في أثناء مروره إلى محل عمله يلقي بالسلام والتحية على كل من يلاقيه في الطريق، صباح الخير أبو علاء ..
صباح الخير يا مصطفى ....،
صباح الخير يا حاج كاظم كما في اللهجة المصرية... إلا أن الحاج كاظم رد عليه قائل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أبو محمد ..،
الله يكرمك يا عم الحج ويخليلك أولادك، استطرد في نفسه إن الحاج يحب أن أسلم عليه بتحية الإسلام، وفي كل مرة أنسى ذلك، المهم انه ناداه بأبو محمد وهذا جعله مبتهجا مسرورا طوال الطريق، وصل إلى مكان المقهى فتح بابها... مسميا باسم الله كما تعود أن يفعل كل صباح، شرع بترتيب الطاولات والكراسي، إضافة لتحضير الشاي، الحامض، وشيَش الاركيلة، وإشعال كوره بالنار، هكذا بدأ عمله، سار ذلك اليوم كغيره من الأيام، بدأ رواد المقهى بالتوافد، فليس هناك أكثر من المقاهي في العراق، لأن البطالة فيه صارت كثيرة جدا، أغلب الناس باتت ترتاد المقاهي لقضاء يومها للتسلية، ولضياع وقت هذا اليوم وغيره، طولا وعرضا، فالكل له قصة وحكاية, ومن الزبائن من يجعل المقهى مقرا لعمله في مقابلة بعض الناس، والعديد يتواعدون في المقهى من اجل قتل الوقت في مكان واحد، لا للتخبط هنا وهناك، فالكل متشابه، حتى أن مصطفى حفظ الوجوه والأسماء لكل رواد المقهى عن ظهر قلب، عمله متعبا.. خاصة أنه يدير المقهى بمفرده، وبالكاد يجد لحظة راحة لنفسه، انه أشبه بدوامة تدور في مكانها، شعر بالإرهاق كما يحصل كل يوم في فترة ذروة العمل، المساء!! ما أطول ليل المساء فيك يا عراق؟؟ انه كتأريخك ممتدا بجذور سبعة ألاف عاما من الحضارة والتطور، إلا أنك باق كما أنت لم تتغير، أما الناس كما الأمس، وكما اليوم، كثيرا ما يقوم بالتحدث مع بعض رواد المقهى، عن مدى التقارب بين العادات العراقية والمصرية، نعم هناك من التشابه فيها، هذا ما يردده، لكن بعض الرواد يبدي القبول وينصت لما يقوله، والبعض الآخر منهم يرفض هذه الفكرة، بل الحديث برمته، ويقوم بالتشدق وإلقاء بعض النكت على المصريين، الصعايدة، والفلاحين، تارة يجاوبهم بنكته عن العراقيين أيضا، فأغلب الأحيان لا يجدون هؤلاء المتشدقة الأذان الصاغية لهم، وكثيرا ما يُردَعون من قبل رواد المقهى، إنهم يحبون مصطفى، ولا يريدون أن يغضبه احد، أو شيْ يكدره، غالبا ما يرد على المتشدق بأن العراقيين فيهم ... وفيهم، شعر بزغللة في عينيه!!! لم يلتفت إليه أحد ولا لارتعاشه، ووقوفه بعد أن امسك برأسه وأخذ يفرك عينيه، لكن لم يلاحظ احد شيء بسبب انشغالهم، أما بالكلام، أو اللعب فالمقهى مزدحم، ونادرا ما يلاحظ احدهم الآخر من كثرة الد خان المتصاعد من الاركيلات، كأنهم في عالم ضبابي، لا يُرى فيه سوى ما أمامه على الطاولة التي يجلس عليها، الكل لاه باللعب، أما بلعب الطاولي ورمي النرد، أو بلعب الدومينو وضرب أحجاره بقوة على الطاولة، فقط ليبين اللاعب مدى مهارته، وسرعة حدسه لخصمه المقابل له، لم يلحظ أيا منهم أو يبالي بما شعر به مصطفى، لكن... مصطفى لم يكترث لذلك، أو حتى لنفسه، أستمر في عمله غير مبال، كثرت طلبات الرواد، بدء بالحركة كرقاص الساعة، صائحا بأعلى صوته ... حاضر ... أيوه ... جاي .... كأنه إخطبوط له ألف يد ويد، لا أحد يكترث لذلك الكرسون أو بما يشعر، الكل يريد طلبه أن يلبى قبل غيره، غير مبالي بمن يخدمه، أو يقوم على خدمته، لكأنه ولد لخدمتهم!!! ترتفع الأصوات في المقهى بتزايد، ذلك الصخب في الحديث، والضحك، بسبب أو من دون سبب، فالكل ينادي: مصطفى شاي .. مصطفى نار .. مصطفى الاركيلة ... مصطفى تعال شوف الحساب، يلتفت مصطفى مجيبا الجميع ايوه .. حاضر .. جاي ..على الطريقة المصرية، كَرَهوان؟؟ بخفة يحمل الطلبات، وبحركة بهلوانية يستدير ...... لكن فجأة!؟؟ تسكت الأصوات!!! وضرب أحجار الدومينو على طاولات المقهى، ينظر الجميع إلى بعضهم البعض!!؟؟ لقد سقط الكرسون بتلك الحركة .... مات؟؟؟ لقد مات مصطفى، ذلك الكرسون البهلوان، ليعلن بتلك الحركة ولجميع رواد المقهى، انه صاحب الموقف، ورجل المسرح الأول في مقهى الحياة.