يعد دخوله... صفق الباب خلفه بقوة، إلا أن لهاثه وروعه غطيا على صوت إغلاقه، خاصة انه كان مواربا، لم يكن مغلقا، نظر إلى يديه المرتجفتين وهي ملطخة ببقع من الدم، وقد انتشرت عليها بسبب تساقط قطرات ماء المطر عن رأسه ووجهه المبتلين من غزارته، همس في نفسه: يا إلهي!!! كيف حدث ذلك؟ وراح يسترجع الأحداث... حتى صرخ لا يمكن!! فجأة وضع يده على فمه ليخنق صوته، تذوق طعم الدم دون إرادته، شهق يا الله؟!! هل من المعقول أن أكون باردا ودون إحساس لهذا الحد؟ حتى أراني أتذوق طعم الدم، لاشك أني مجنون... لا بل مختل نفسيا.
رمى بجسده على الأريكة دون أن يخلع معطفه المبتل، وضع رأسه على كفيه مستغربا، شاهد حذائه المليء بالطين، سار بعينيه نحو خطواته التي قادته نحو المدخل، رفع رجليه كأنه أدرك أن الأرض قد اتسخت، وعليه أن ينظف المكان قبل أن يأتي عبد الله زميله في السكن، بالتأكيد سيوبخه، ومن ثم يبدأ بتوجيه الأسئلة إليه، فك رباط حذائه، دفع به إلى الخارج، خلع المعطف دون شعور، علقه في المكان المعتاد لذلك، كما يفعل عبد الله الذي وبخه عدة مرات وهو يحاول تطبيعه على أن الأشياء المتسخة والمبتلة، يجب أن تترك... المتسخة في الخارج، تعلق... المبتلة هنا في مكانها المخصص حرصا على نظافة السكن، كم مرة حاول عبد الله تطبيعه على ذلك، لكنه لم يكترث لتلك المحاولات، غير أن الطبع غلب التطبع، دخل غرفة المخزن، أخرج الممسحة لتنظيف وطأ ة حذائه الممرغ بالطين، مسح الأرضية بشكل جيد جدا، تذكر يديه الملطخة بالدم، عاد إلى الممسحة فغسلها هي أيضا بعد تلوثها بالدم من مسكها بيديه، كان عقله شاردا، لم يحسن التفكير، أو حتى الترتيب والعمل على تهدئة خفقان قلبه أو نفسه، تساءل؟؟... ماذا سأقول متى ما سألني عبد الله عن أحمد؟ خاصة أنه أرسلني إليه لجلب المغلف منه، لا أعرف لم أرسلني وهو يعلم جيدا أن علاقتي به متوترة ولا أطيق أحمد هذا، هو بالمثل يشعر نحوي، ترى هل خطط لذلك؟؟؟
لكن ليس هذا من شيمه أو طباعه، هو صديق الصبا وزميلي في السكن من سنين كثيرة، لا يمكن أن أتخيله يفعلها ويكيد لي أو حتى يرغب في إيذائي، انه يحبني كأخ له... لا ... لا يا لي من أحمق، كيف سمحت لنفسي، مجرد الظن، يا لها من بلاهة وحماقة.
عاد إلى المعطف بعد أن تذكر المغلف، أخرجه من الجيب الداخلي، قَلَبَهُ عدة مرات، مرره أمام الضوء في محاولة لمعرفة ما في داخله، إلا أن سماكة المغلف حالت دون ذلك، استغرب ثقل وزنه وكبر حجمه، لم يسعفه الوقت حين استلمه من أحمد أن ينظر إليه، أو حتى يسأل عما فيه، بسبب توتر العلاقة بينهما، والتي أدت إلى شجار غير متوقع بينهما نتيجة استهزاء أحمد به حين قال له: أراك تعمل الآن ساعي بريد، هل قادتك حاجتك وعادتك السقيمة لان تقوم بخدمته؟ لم ينتظر بعدها سماع الباقي من الاهانة والاستهزاء، عمد على دفع أحمد بشدة، سقط على الأرض دون حراك، جن جنونه!!؟؟ انحنى ليمسك برأس احمد، الذي فقد الحركة، ضغط على الجرح ليوقف نزف الدم، إلا إن كثرة تدفقه هالته إضافة إلى توقف تنفسه جعلته يهلع مُرعَبا، خرج هاربا دون أن يغلق الباب خلفه، كانت خطوات إقدامه وهنة رغم جريه، عزمه على الهرب أكله جُبناً بخوف، صرخ .... يا لي من أحمق... المعطف؟؟ جيوب المعطف، لقد تذكر أنه قد وضع يداه في جيوبه، لا بد أنها تلطخت بالدم هي الأخرى، أخذه عن مكانه، دفع به إلى ماكينة التنظيف، ومن ثم أدراها لغسله، وإزالة تلوثه من الدم، اتكأ على حافتها، كأنه يريح قلبه من شيطان الخوف، الذي ينفخ في حجراته بوساوسه، سمع همسا يقول: ماذا ستقول لعبد الله عن أحمد؟ هل تنكر ذهابك إليه؟ أم ستدعي أنك لم تذهب، بماذا ستجيبه حين يسألك عن المغلف؟؟!!
المغلف؟؟؟؟ يا لحماقتي إنه بجيب المعطف، أوقف تشغيل ودوران ماكينة التنظيف، مد يده... سحب المعطف الذي كان يغط غرقا بفقاعات صابونية، دفع بيده إلى جيبه الداخلي، أخرج المغلف الذي تغيرت معالمه برمتها، ظهر ما كان خافيا بداخله، إنها رزمة من الأوراق المالية، مع علبة كتب عليها.........؟؟
لم يتسنى له قراءة ما كُتب، فاجأه فتح الباب... أنه عبد الله، والذي دخل قائلا: عمت مساءً يا وليد، كيف حالك اليوم؟؟ هل أنت بخير وعلى ما يرام؟جميل أن أراك بخير فبالأمس قلقت عليك كثيرا، حاولت الاتصال بك عدة مرات، لكنك لم تجب على اتصالي، أين كنت يا صديقي العزيز؟؟؟ مد رأسه من المطبخ لكي يرى عبد الله وهو يسأل مستغربا، ماذا يقول؟؟؟!!! بالأمس لم أعد للبيت... أين كنت يا ترى؟ أتراه يريد إنكار إرسالي إلى أحمد؟ ربما علم بشأن ما حدث؟! لا .. لا يمكنه ذلك، إن الذي حصل كان منذ بضعة ساعات، كيف له أن يعلم بما حصل إذن؟ لكن ما الذي يجعله الادعاء بأني لم أكن في البيت بالأمس؟!ولمَ يسأل عن حالي؟ وهل أنا بخير أم لا!!؟؟ وبهدوء أرجع المعطف إلى بطن الماكينة، ثم وضع المغلف في أحد جوار ير المطبخ القريبة من يده، خرج بعدها ليجد عبد الله يحضنه بقوة قائلا: لقد اشتقت إليك يا صديقي العزيز، لا تفعلها مرة أخرى وتجعلني أموت رعبا عليك، إنك صديقي بل أخي وأقرب الناس إلى نفسي، أرجوك يا وليد لا تحاول الانتحار أو مجرد التفكير به... كان وقع الكلام عليه كصعقة كهربائية، جعلته يتنافر مبتعدا عن عبد الله، ماذا يقول هذا؟؟؟ انتحار، هل حاولت قتل نفسي؟ ما هذا الجنون الذي يدعيه!! خرجت نظرة الاستغراب قبل النطق بالسؤال، ماذا تعني أحاول مجددا؟؟؟ وهل أقدمت فعلا على محاولة الانتحار!!؟؟ أتهزأ بي... أم تراك تمزح، ولكن... لماذا أقدم على الانتحار؟ ولأي سبب؟؟
شعر عبد الله بعدم استقرار حالة وليد، وذلك من طريقة كلامه وشروده، خاصة أن حرارة جسمه مرتفعة جدا، لابد أنها سببت له الهذيان ونسيان ما حدث، أمسك بيده وقال له: تعال... أجلس هنا.. استرح، دعني أحضر لك كأس من الماء لتشرب، هاك... خذ هذا المنديل وأمسح وجهك ورأسك من العرق، كان إحساس وليد غريبا، صحيح أن حرارته مرتفعة والعرق ينصب منه بكثرة، كأنهما فوهة بركان يغلي، تطلع نحو عبد الله وهو يضع يده على الجار ور الذي خبأ فيه المغلف، صرخ عليه ... لا تحاول فتح هذا الجار ور... أبعد يدك عنه، سار مترنحا باتجاهه، اتكأ عليه محاولا إبعاد عبد الله عنه، ثم قال: ماذا تريد أن تثبت بما تقول وتفعل؟ أتراك تحاول الدفع بي إلى الجنون!؟ بعد أن عرفت أني اتعاطى حبوبا مهدئة، كما أني أستغرب عدم سؤالك لي عن المغلف الذي طلبت مني جلبه لك من أحمد هذا اليوم!! دعني أسألك... لماذا بعثت بي إليه؟؟ رغم علمك أن هناك خلافا بيني وبينه؟ أكان قصدك التخلص مني ومنه في آن واحد، كن مطمئنا لم يحدث ذلك، لقد جلبت المغلف منه، وتركته بأحسن حال، رغم ما وجه لي من إهانة واستهزاء بشخصيتي.
عبد الله: عن أي مغلف تتحدث!؟؟ فأنا لم أرسلك إلى أي أحد، فبالأمس القريب كنت قد ذهبت لإخراجك من المشفى، بسبب تعاطيك عدد كبير من الحبوب المهدئة، تلك التي كادت أن تودي بحياتك، فلولا أحمد والذي جاء إلي هنا قبل موعده ليجدك ممدا على الأرض، غارقا بدمك، وقد شج رأسك نتيجة ارتطامه بحافة الطاولة تلك، كما انه هو من قام على الاتصال بالإسعاف، في محاولة إنقاذك، لا شك أنك تهذي أو عدت لابتلاع الحبوب المهدئة مرة أخرى.
وليد: ماذا تقول؟؟؟ أحمد حي!!! لكني دفعت به بقوة، رأيته يسقط هاويا بعد أن ارتطم رأسه بالأرض بشدة، كان ميتا دون حركة لقد رأيته!!! هذا ما حصل قبل بضعة ساعات... كنت هناك عنده في البيت، حدث ذلك بعد أن أعطاني المغلف... فتح الجار ور وقال: هذا هو أنظر... ها هي رزمة الأوراق المالية والعلبة، إنها كثيرة، وهذه العلبة الفاخرة، لم يتسنى لي الوقت لرؤية ما بداخلها، كنت أنت قد داهمتني بدخولك فجأة، لذا خبأتها بسرعة، خذ إنها لك، استغرب عبد الله من تصرف وليد فقال: أنصت إلي جيدا سأوضح لك الأمر، إن هذا المغلف ليس لي، وأنا لم أرسلك إلى أحمد، بل أنت من أتصل به وبي هذا الصباح، ثم دعوتنا إلى تناول العشاء معك، أنت من قمت بالدعوة، بعد أن نزعتم فتيل الخلاف بينكما، أما المغلف... فقد كنا نريد أن مفاجئتك بثمرة جهودنا، وما جنيناه من الازدهار في عملنا سوية، إن هذه النقود هي نصيبك من العمل، أما العلبة فهيا أفتحها واقرأ ما كتب بداخلها...، سحبت يده المرتجفة العلبة ليقرأ من أحمد وعبد الله إلى وليد بمناسبة الشفاء والنجاح، شهق!! أحس بالدوار، أمسك عبد الله به، أجلسه على الأريكة... هدأ من روعه .. لكنه عاد ليسأل ماذا عن الدم الذي على يدي؟ مستطردا... وبجيوب المعطف؟ ماذا عن الطين؟؟!!! أجابه عبد الله قائلا: أنه دمك أنت، فلا زال جرح رأسك لم يبرأ، ويبدو أنك قد وضعت يديك على الضمادة حين خرجت، كنت قد اتصلت بي تخبرني بأنك ستذهب إلى المشفى لتغيير الضمادة، بعد أن شعرت بالألم في رأسك، ورؤية بعض نزف من الدم على يدك، رغم إلحاحي عليك بضرورة انتظاري لمرافقتك، أصريت على الذهاب وحدك، قلت أنك بخير، وتستطيع إن تتدبر الأمر دون مساعدة كعادتك، أما المعطف فأنه لأحمد، وليس معطفك، أما المغلف الذي رأيت كان أصلا في جيب المعطف، يبدو أنه نسيه هنا أثناء وبعد الحادث، وأنت لبسته ظنا أنه معطفك، نعم كانت الجيوب ملطخة بالدم، نتيجة محاولته وقف نزف جرحك، ونتيجة قلقه وبحثه عن الهاتف للاتصال بالإسعاف لإنقاذك، أما الطين فهو ربما بسبب آثار أقدام المسعفين أثناء دخولهم بسرعة للمنزل، أو بسبب حذائك المغطى بالطين كما رأيته في خارج البيت، فقد كانت الباحة الأمامية موحلة بسبب المطر الشديد، أعتقد هذا هو سبب وجود الطين في المدخل، لا شك يا وليد إن المطر والبرد ونزولك للمشفى وحدك، ناهيك عن ارتفاع حرارتك قد سببت لك الهذيان، فنسج خيالك القصة التي رويت لي، إن ذلك كله كان بسبب تعاطيك وإدمانك الحبوب المهدئة.