انتصفَ النهار واشّتدَ الحر، حَرقت الرياح الملتهبة الوجوه، كما تحرق نار جهنم الأجسادَ يوم الحساب. لذا كانَ الظهور في الطرقات في مثل هذا الوقت، أمراً عسيراً...، دخلَ سامي ابن العشرة أعوام منزلهم، عائداً من المدرسة، وعصافير معدته توصوص من الجوع. كانَ نحيف الجسم، صاحب عيون صغيرة جداً، وكأن لا مكان لها في وجهه، متفوقاً دراسياً بشكل ملفت للنظر وموضع للحسد من قبل زملائه في المدرسة، عاشَ متأملاً، مفكراً، وهو في هذا العمر، لذا تراه... نادراً ما يتكلم، إلا إذا طلب منه أو سؤل، فيجيب مقتضباً، مختصراً، وكأنه يوزن كلماته قبل النطق بها.
ما أن رمى حقيبته المدرسية في إحدى الزوايا، حتى تقدمت زوجة أبيه منه بحزم، مادةً يدها له وهي تعطيه حق تذاكر الحافلة، باتجاه واحد، وهي تلمظ شفتيها، وتقول له بصرامة وكأنها تؤنبه:
اذهب إلى العمل حالاً، وها هي ثمن التذاكر... وقل لصاحب المتجر الذي ستعمل عنده منذ اليوم، بأنك جائع، وواصلت... هو سيتكفل بأمرك. وسيعطيك عند المساء أجرتك وحق العودة.
ينظر لها سامي بخوف، يتطلع لها وكأنها أفعى، لا ينوي الاقتراب منها، والجوع ينهش معدته وهو صامت كالصنم، لا ينطق.
هيا يا سامي، ما لي أراك باهتاً، كالأبله ألم تسمع ما قلته؛ فهو الآن بانتظارك، وهذا ما اتفقنا عليه اليوم صباحاً، ثمَ علا صوتها، وهي تلوح بيدها عالياً كالسيف، محذرة إياه: يا ولد، اذهب فوراً ولا تتأخر أكثر، ثمَ استطردت: أعوذ بالله، ما هذا؟ أي نوع من الأطفال أنت؟ وبدأت تندب حظها العاثر، الخائب، الذي جعلها زوجةً لأبيه، كعادة النساء العربيات عموماً، في نقد حياتهن!
يمد سامي يده الصغيرة، وهو يرتعش هلعاً، من منظر زوجة أبيه الغاضبة، يتجه بنظره إلى ناحية المطبخ، بعد أن كانَ قد شمَ رائحة الطعام، الذي يتوق لتناوله الآن، عندها صرّ على أسنانه، وكأنه يمضغ قطعة من اللحم، وأخذَ اللعاب في فمه يلهو كما يطاب له في أوقات كهذه! وهو يتراجع متقهقراً بتضرع، وبخيبة أمل قاسية، لم يستطيع إلا الخضوع لأوامر لا يمكن رفضها، فمضى مسرعاً، حاملاً جوعه معه... وإلى قدره المرسوم...
وصل السوق، بممراته الضيقة الملتوية، وكأنها الأمعاء، الذي يضم في حناياه، متجر بنيامين اليهودي، بائع العطور المعروف حينَ ذاك في بغداد. لكنه تفاجأ، عندما رأى المتجر مغلقاً، مد يده إلى بطنه التي تؤلمه، فالجوع ينهش في معدته، كآفة المرض، أسند ظهره إلى الحائط منتظراً، قلقاً، لا يعرف كيف يتصرف... بعد أن غزا السكون عقله، الذي له صوت الصمت. فلم يهتدِ إلى طريقة للخلاص من هذا الموقف المتأزم الذي يصادفه، وهذه اللحظات الطويلة، بعمر الدهر بالنسبة له، والتي أبت أن تمضي، فأستسلم لقدره، بضعف طفولي مهلك...
نظر حوله، فرأى متجراً يبيع الخبز، تقدم نحوه دونَ شعور كالحالم، وأشار لصاحب المتجر بإعطائه قطعة واحدة من الخبز الذي تفوح منه رائحة زكية، عطرة، فتذكر أمه وهو يلتهم الخبز سريعاً، فتكسرت على خده، دمعة ملتهبة كحرارة الخبز الذي بين يديه... ثمَ فجأة ودونَ ارتباك، صاحَ بصاحب المتجر بعناد وصرامة: هيا أريد أن أذهب، ، اني على عجلة من أمري، وزوجة أبي في انتظاري! ثمَ أردف بكل عنفوان المنتصر، خذ حقك، وأرجع لي باقي النقود!
نظرَ له صاحب المتجر، والعرق يتصبب من على وجهه المنهك، المحروق بسبب حرارة الجو والفرن المتقد، وأجابه باستخفاف: ماذا تريد؟ باقي نقودك! فضرب كفاً بكف، وكأنه يصفق وقال صارخاً: يا لكَ من وغد، لص وشرير... ثمَ بصق بقوه في وجهه، تفوه... وأضاف، لم تكتفِ بمحاولة الأكل مجاناً، بل تسرق؛ ثم علت الأصوات التي تجمعت فجأة، وكأنَ حريقاً هائلاً قد شب... بدأت السواعد القاسية، الخشنة، تمرر يدها على سامي من كل صوب وجانب، فهذا من يشده من أذنه، وأحدهم يمرر أصابعه في موقع... لا يفقه سامي لتلكَ الأصابع الجريئة المرتعشة من معنى! وآخر يضربه على قفاه، وثالث يركله بكل وحشية، وكأن الطفل، قاتل أبيهم؟! بينما ظلَ سامي يتحمل الآلام والصفعات وهو صامت، جامد، كالحجر، وكأنه يستقبلها عن طيب خاطر!
وسط الجموع المحاصرة كالجراد، ظهرَ صوت بنيامين اليهودي، وهو يردد: انتظروا... أنه عاملي الجديد، أرجوكم، كفوا عن ضربه، ليأخذنكم الشيطان، ألا ترون أنه ما زالَ طفلاً! اعتقوه لوجه الله، أرجوكم...
دفعَ بنيامين حق الخبز، واستمع من سامي، القصة كاملة، أخذه من يده وهو مثخن بالجراح، وكأنه خارج من معركة للتو. أشار له بأن يعمل اليوم مجاناً دونَ أجر، نظراً لتصرفه غير الأخلاقي! واكتفى بما دفعه من نقود، حقاً للخبز المنهوب.
حلَّ المساء، وتذكر سامي زوجة أبيه وهي تنتظر، كي تستولي على نقوده التي لم يحصل عليها... ودعه بنيامين بكلمات مبهمة، لم يفهم منها سامي شيئاً، فقد كانَ غارقاً في ورطته التي لم يجد لها منفذاً، لحلها.
جلسَ في الشارع يتأمل المارة كعادته، وهم يسيرون على عجلة من أمامه، كالأشباح، كلاً في سبيله، ونحو هدفه، إلا هو ما زال ينتظر المعجزة التي تنقذه، ولكن هيهات أن يكون القدر عادلاً! ولماذا يكون عادلاً؟
رفعَ رأسه الصغير إلى السماء، وبكى، ثمَ نبح، كالجرو: كيفَ سأواجه غضبها تلك اللئيمة القاسية، المتحجرة القلب، الفارغة من الشعور؟ فندت عنه صرخة مدوية وهو يمضي مسرعاً في الطرقات يبحث عن حل لورطته الخانقة، الثقيلة، كالهم، بوزن الحجر، وهو جاثم على صدرهِ، يعدو إلى المجهول، طالباً، ساعياً... لعله يهتدي إلى جواب، يكون مقنعاً وشافياً، تصدقه زوجة أبيه، لتغفر له، ما اقترفت يداه من أثم لا يغتفر!