لأول مرة أدخل حانتي المفضلة بالقنيطرة ولا أجد الساقية. ساقيتي التي.. والتي.. والتي.. أدخلها فأجد الزبناء حزينين كأنهم فقدوا أمهاتهم أو أحد أبنائهم. هناك من يحك مؤخرته بلا انقطاع ومن يحك جلده بأظافر صديقه ومن يحك رأسه لأنه حائر لا يعرف ما العمل.
عندما تكون الساقية حاضرة، من الزبناء من يتحدث حول الفلسفة ومنهم من يتحدث حول الثقافة ومنهم من يتحدث عن الحداثة وأزمة النص والثورة. منهم من يلعب دور الفارس الذي تعب من المعارك ولا يريد إلا النوم على كتف امرأة تفهم نفسيته ونقط ضعفه ومنهم من يلعب دور الرجل الذي تعب من عالم النساء ولم يأت إلى الحانة إلا لنسيان عيون الجميلات ومنهم من يلعب خصوصا إذا كان وحيدا دور الإنسان الذي يحمل على ظهره هموم الطبقات الكادحة.
الساقية غائبة والزبناء بدورهم غائبون. منهم من لم يشرب إلا نصف كأس ثم انصرف. منهم من بقي واقفا حتى تيقن ألا ساقية في الأفق ثم غادر ومنهم من تظاهر أنه لم يأت للشرب بل فقط للبحث عن الحقيقة الضائعة.
غابت الساقية فغاب معها ضجيج الحانة ومواء القطة الحنون. غابت فشعرنا جميعا بالغبن واليتم ومتاهة الحياة. غابت أم الجميع وعشيقة الجميع ومتنفس الجميع فهرولنا صوب حانات أخرى للبحث عمن لها صدر رحب لاستقبال مشاكلنا ومآسينا. غابت فلم يسأل عنها أحد ولم يحاول أي منا الاستفسار عن سبب غيابها. غابت فماتت كأنها لم تكن.
غابت الساقية لأن الذي كانت تسقي قلبه بحليبها المر مات قبل طلوع الفجر. مات المسكين لأنه من كثرة العيش وحيدا في الليل والانتظار أن تعود حبيبته أمه من الحانة كان يقضي وقته في الرضاعة من ثديي أم الفئران.
وأصيبت أم الفئران بمرض خبيث فماتت ومات هو فغابت الساقية وبقي زبناء الحانة يتامى لا يدرون أيشربون أم يصرخون أم يفتشون لهم عن فأرة للنوم بين أحضانها ليحكوا لها أسرارهم وأسرار زوجاتهم؟