في كل مرة تهب الريح الدافئة، وبلطف تداعب خيوط ذكريات قاسم. وفي لحظة يرجع به الذاكرة إلى ذلك اليوم المشئوم الذي فكر فيه«ولد الفلاح» الدخول إلى عالم أخر غير عالم الهدوء والسكينة.
ابن الدوار الذي مر بدوره من «السكويلة» بمدرسة سيدي جابر.بعد أن تعلم الحروف وبدا يركب الكلمات غادر إلى الفلاحة تلبية لرغبة الوالد.
بمسقط رأسه الأرض المعطاء، بحقولها التي لا تبخل على من أحبها- ودلك حسب تعاقب الفصول ومرور السنوات- فهي ارض تجود على العباد إلا على من أهملها، وتكون معذورة بالطبع في الأعوام التي تسمى بالعجاف. لوصف شخصه، لا يسعفني وصف لون الأرض- لون ترابها-، كسحنة «ولد الفلاح».
من أسلافه ورث حسن الأخلاق وكذلك الصبر والمثابرة. تعلم في الكتاب ما تيسر من القراءة والكتابة وفي الميدان احترف الفلاحة.زراعة الحقول وتربية المواشي. هده المهنة الشريفة جعلت منه رجلا ميسور الحال ومرتاح البال.
كل من عرفه سابقا وصفه بالكرم ومن سمع عنه رغب في معرفته والتقرب إليه. الهندام تقليدي وأنيق، الجلباب والعمامة بيضاء، وسيم الوجه بالشوارب والرأس حليق. حديثه كلام الظرفاء.
لاحظ في الأيام الأخيرة بان كل من التقى به يصافحه بحرارة وينادي عليه «بالرايس».
أصبحت كلمة «الرايس» تلازمه كلما التقى بأحد معارفه من بعيد أو قريب. لما استفسر اقرب الأصدقاء لمادا أصبح الكل يناديه مجاملة «بالرايس». لم يكن الجواب صعبا. البعض نصحه بان يتقدم بترشيحه للانتخابات القادمة والبعض الأخر وعده بصوته وصوت أسرته.
«ولد الفلاح» تم اختياره في دائرته الانتخابية. وفي مرحلة لاحقة لم يتبقى في الساحة من ينافسه على الرئاسة. بعد كثرة السجال وطول الانتظار تم الاختيار.
ولد الفلاح أصبح يمثل الجماعة القروية. اعتبره مركزا للافتخار وللجاه فكان له ما تمنى.
زوجته استقبلت الخبر بزغرودة، أبناء الدوار الدين صوتوا لصالحه ضمنوا «الزردة». وكان دلك بالقول والفعل حيت قام «الرايس» بتجهيز حفل بهيج... الكل أكل، والبعض أكل و«شرب»..... وانتهت «الفراجة» (الفرجة)...
راح «ولد الفلاح» يزاول الرئاسة ونسي الفلاحة، يشيرون له أين ومتى يمضي المحاضر والصفقات ويحضر الاجتماعات.
بعد حين أصبح يعاشر معشر «الشاربان» حتى إلى درجة انه لم يعد يقوى على ترك مجالستهم، فاختلطت عليه الأمور، فاكتر من الشرب وزاد على دلك بالمنكر والفجور.
جزء من أرضه لم يسلم من المتربصين، فصار الكل يقول بان «ولد الفلاح» باع الأرض بعدما أكمل «العرض*».
فهاهي أرض الله الواسعة التي لم تعد مند سنوات، تتحمل برفق أقدام ذوي العقول المنيرة... ولعل هبات الريح على تلك الأوراق في فدان الذرة خير شاهد على جحود وتخاذل الأصدقاء والإخوة. فطالما أن استمرار هبوب هده الريح الطيبة على هده الأرض الحنون، من شأنه إيقاظ الذكريات النائمة.
هكذا أصبح «ولد الفلاح» حديت القريب والبعيد، لم يعد يهتم إلى اقرب ألأصدقاء وبالأحرى بنفسه بأرضه و بالأسرة والأقرباء... فضاع «ولد الفلاح» وضاعت معه الأرض وبالتالي ضاعت الرئاسة...