لم يمر يوم من عمر المحلة إلا وسمعنا صوت شجار قد قام أو ألسناً وهي تتصارع بالشتائم والسباب أو بأحجار ترمى وتسقط، يعقبها تحطم لزجاج النوافذ أو بسقوط طيور برئيه وهي مثخنة بالجراح دونَ سبب وجيه في أغلب الأحيان... لكن هذه المرة هي عكس سابقاتها تماماً...
فيما كانت عائلة أبي قاسم النجار تغط في نوم عميق عندَ ظهر ذلكَ اليوم من الصيف الساخن... حتى دوى صوت عالي كالانفجار! جعلَ جميع سكان المحلة يسمعونه، فَهبَ الجيران يركضون دونَ وعي تجاه موقع الحدث، اختلطت الأصوات معَ بعضها البعض، كما علت موجة من الضحك وهمسات الشامتين والمنافقين! والبعض منهم ركبه الهلع... في حين أستيقظَ أهلَ الدار فزعين ودونَ وعي كالمجانين وهم يحاولون الهرب بشكل عشوائي وكأنَ ناراً مسعورة قد اشتعلت في ثيابهم! حتى تبين الأمر وأنكشفَ الحجاب...
لقدَ قادَ أحد ضيوف عائلة أبي علي الحداد والذي يدعى "صاحب“ سيارة أبي علي( نوع بيك أب) وهو لا يستطيع قيادة حمار هرم! فما أن أدار مفتاح تشغيل المحرك، حتى قفزت السيارة كالكنغر لتصطدم بسياج دار أبي قاسم وتحطم واجهته المتهالكة أصلاً!
أنقطعَ النور عليهم فوراً وارتفعت المياه عالياً كالنافورة من تحت الأرض، فأنتفضَ أبو قاسم واقفاً والغضب يركبه، فهتفَ صارخاً: ما الذي حدث؟! ثمَ أستطردَ مستنكراً وهو يقف قبالة صاحب الذي بدا شاحباً وخائفاً، ما هذا الذي سببته؟! وأضاف، لعنكَ الله ليوم الدين! وهو يدمدم متقهقراً، لقد هدمت دارنا الآمنة ونحن نيام... ثمَ هذا لا يرضي حتى الشيطان وهو يهذي صارخاً متذمراً، تباً لكَ من وغد...
أنتشر الجيران والخبر في المحلة سريعاً كالنار في نشارة الخشب! وهبَّ جارهم أبو علي معَ عائلته المكونة من أربعة عشر فرداً متأهبين للقتال دونَ رادع أو خوف... ثمَ علا صوت ساجدة أبنتهم وهي تخطب في الجمهور بصوت رجالي خشن:
أنظر يا أبا قاسم( وهي تلوح بيدها اليمنى كالسيف) لقد صبرنا عليكم كثيراً! ثمَ استكملت بكل جسارة دونَ اعتبار لأحد قائلة: أنتم ملة صغيرة، ولا تتخذون الإسلام ديناً لكم! ومعَ ذلك ترفعون أصواتكم وكأنكم أسياد هذه المحلة؟! ثمَ دفعت بنفسها وسط الجموع المتجمهرة والتي تجمعت للفرجة! وهي ترفس الباب الذي لا يقوى على الوقوف، فتهاوى ساقطاً كالسكران على الأرض! مما جعلَ أبا قاسم يفقد صوابه. جحظت عيناه من هول الموقف فصاحَ بأعلى صوته: الويل لكم أيها الأوغاد... وجابههم وهو يقف كالأفعى المتوثبة للافتراس، وصاحَ بهم حانقاً: ، لن يفيد معكم الطيبة وحسن الجوار... وها أنتم مازلتم ترددون الدين وتحشرون الأنبياء بيننا، ثمَ حاول أن يرد الجموع المندفعة كالجراد عن داره...
عندها خرجَ قاسم بلباس النوم محتجاً، فصاحَ بالمتفرجين بغضب جنوني: أرجوكم أذهبوا إلى دياركم أو لأعمالكم إن كانت لكم أعمال! هيا أذهبوا فليسَ هناك ما يستحق النظر، ثمَ أشارَ إلى أبيه قائلاً، أدخل يا أبي إلى الدار، وأنا سأتكلم معَ أبي علي بشكل ودي...
لم تمضي إلا دقائق قليلة حتى أتى قاسم بالحمار الذي يسحب عربة فيها الرمل والأسمنت وهو يحاول أصلاح ما أفسده صاحب. وإذا به يرى أبو علي وهو يتجه نحوه راكضاً بشجاعة تثير الدهشة والتساؤل، مبتسماً ويدمدم بانشراح: لا... والله، أبداً لن أقبل! لقد أقسمت بالحسين وهو يقهقه حتى سعل... فتعجبَ قاسم من أمر جاره غاية العجب، وهو يسمعه يقول: لا يرمم داركم إلا بمالي، وقد أقسمت على ذلك برأس سيد الشهداء!