من بين كل ما خبره «أبو العجايب» في تطوافه في دنيا الله الواسعة، وما حشا به رأسه من معلومات متباينة من خلال قراءاته الغزيرة، فإن فكرة واحدة لا تبرح مكانها في كهف ذاكرته، وتظل تلح عليه بالسؤال:
هل حقا أن أسماك «السلمون» التي تبصر النور في الجداول والروافد التي تُكوّن عند اجتماعها نهر «كولمبيا» في أمريكا الشمالية، تنحدر مع تياره حتى تبلغ المحيط الهادئ، ثم تتجه صوب الشمال في هجرة جماعية حتى تصل إلى خليج «ألاسكا»، حيث تمضي معظم حياتها في جماعات متآلفة، فإذا شبّت عن الطوق، وأدركها سن البلوغ، تاقت إلى مواطنها الأصلية، فعادت من حيث أتت في رحلة طويلة تمتد مئات الأميال، مهتدية بمواقع الشمس خلال سيرها في المحيط ؟!
أما في مسيرتها عبر النهر وعكس تيّاره، فإنها تعتمد على حاسة الشم، فلكل رافد من روافد النهر خاصيته المميزة في رائحة نباتاته وتربته وكائناته التي تتشممها، والتي علقت بذاكرتها وليدة قبل رحلتها الأولى إلى المحيط!
لا يوقف اندفاعها، ولا يغير مجرى سيرها كل ما ابتدعه الإنسان، وما تفنن فيه من الحيل والأساليب للإيقاع بها واصطياد الكثير منها، وقد تعرف على مسالك ومواعيد رحلتيها في الذهاب والإياب.
تصل إلى مواطنها الأصلية، لتتناسل فتموت. وتكمل صغارها عندما تفقس دورة حياتها في هجرة جديدة على نفس الطريق الذي سلكه آباؤها وأمهاتها ذهابا وإيابا، وجيلا بعد جيل .
أيّ حب للوطن هذا الذي أودعه الله في نفوس هذه الكائنات ؟!
لقد كان يحلو لأبي العجايب أن يكرر هذه الحكاية على مسامع عارفيه، وعلى مسامع أبنائه خاصة، حتى ملوا تكرار سماعها، وعاف بعضهم أكل " السلمون " والسمك عامة.
في اليوم الذي تخلف فيه أبو العجايب عن العودة إلى بيته، في حي "الشميساني " الراقي في ضواحي عمان الغربية، لم يقلق لغيبته أحد، فقد اعتادت منه زوجته وأولاده مثل هذا الغياب في الشهور الأخيرة، وبعد أن أصبح متقاعدا .
إنه يتذكر في هذه الأيام رفاق طفولته وصباه، فيزور من بقي منهم على قيد الحياة، بموعد مسبق أحيانا، ودونما مواعيد في أحايين أخرى، فيجامله بعضهم، وينسى آخرون معرفتهم به، ويتذكره أحدهم فيلقاه بشوق غامر. وربما أمضى عنده ليلته تلك يستعيدان ذكريات الصبا والأيام التي خلت، إن كان الصديق مثله خِلو البال والفؤاد.
ما فطن أحد إلى أن هذه الليلة ليست كسابقاتها، وأنها بداية غيبة ستطول، ولا تخيل أحد أن أبا العجايب قد أمضى ليلته تلك، منذ بعد العشاء وحتى صباح اليوم التالي، منتظرا في صف طويل أمام شباك التأشيرات في السفارة الإسرائيلية بعمان، وهو الذي انقضت من عمره ثلاث وثلاثون سنة بعد الاحتلال، رفض خلالها رفضا قاطعا مجرد التفكير في زيارة مسقط رأسه وقريته وهي محتلة. وكان جوابه الوحيد لكل من حثه على زيارة فلسطين المحتلة في زمن السلام، كما يفعل كثير من الناس:
اقرأ رواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا " وستفهم موقفي. لن أعود ليسمحوا لي برؤية بلدي، إما أن أعود إليها محررة، أو لا أعود أبدا. ثم يردف مخاطبا محدثه:
إن والدي وهو الرجل الأميّ الذي عاش ثلاثين عاما تحت الاحتلال في إحدى قرى الضفة الغربية، لم يخطر بباله يوما أن يزور حيفا، التي أمضى فيها زهرة شبابه، وسنوات عمله الأولى في مينائها وفي مصفاة تكرير النفط فيها، وقد صارت على مرمى حجر منه بعد الاحتلال، وعلى مسيرة أقل من ساعة بالسيارة، لأنه لا يطيق أن يراها على هيئة غير الهيئة التي يحتفظ بها لها في ذاكرته، ولا يحتمل رؤيتها خالية من أهلها الذين عاش فيها بينهم، ليجد أناسا آخرين يسكنونها، وليجد نفسه بينهم غريب الوجه واليد واللسان.
هذا ما صمم عليه أبي، فقد ظل وفيا لصورة حيفا التي يعرفها، رافضا أن يخونها بمشاهدة صورة حديثة لها مع عشيق جديد، ومات على وفائه ذاك.
فما الذي يجعل أبا العجايب يتراجع عن شرط والده، فيصطف ليلة بطولها في هذا الطابور المقيت، آملا أن يتمكن غداة غدٍ من الحصول على تأشيرة زيارة لفلسطين، التي صار اسمها إسرائيل.
إنه نفسه لا يدري سبب هذا التحول، وهذا الوهن الذي اعترى موقفه المبدئي القديم. إنه يشعر بخطئه ونكوصه، وإلا لماذا تراه يديم التلفت يمنة ويسرة طيلة ليلته، خشية أن يضبطه أحد معارفه متلبسا بالجرم المشهود، جرم الوقوف على أبواب السفارة الإسرائيلية لطلب تأشيرة، وتجده يحدث نفسه قائلا:
أية جريمة كانت أعظم من هذه فيما مضى؟
كيف تبدلت الدنيا ؟ وصارت لإسرائيل سفارات في وسط عواصمنا، نصطف على أعتابها جهارا نهارا نلتمس تأشيرة زيارة ؟ وأين ما حشوا به عقولنا دهرا من شعارات " لا بد من تدمير إسرائيل "، وما حفظناه من آلاف النصوص العنترية:
ألإسرائيل تعلو راية في حمى البيت وظل الحرم؟!
وسرح أبو العجايب طويلا، بطول ليلته التي أمضاها مفترشا الأرض، ليحجز له مكانا حتى الصباح، وقبل أن يتدافع المتدافعون، فلا يبقون لأحد دورا ولا موضعا.
وتذكر نفسه صبيا في الثامنة من عمره، حافي القدمين وسط جموعٍ من الرجال والنساء والولدان، تزحف في ظلمة ليلة صيفية كهذه - بفارق خلوها من أنوار الكهرباء – هائمة على وجوهها ، مخلفة وراءها قرية " قاقون " مُشرِّقة صوب " طولكرم"، وما جاورها من قرى لم تسقط بعد بيد اليهود. وتبدى أمام ناظريه طيف زوجة "شحيبر"، وقد هدها الإعياء في منتصف الطريق، فجلست تسند ظهرها إلى جذع زيتونة عتيقة، وهي تعض على طرف ياقة ثوبها الرث، وتطلق صرخات عنيفة كأنما يحزها أحدهم بسكين، وتذكر أمه وهي تدفعه بعيدا وغيره من الأولاد قائلة:
" استحوا على دمكم، روحوا بعيد، الحُرمة بتولد ."
بينما ظلت بجانبها تغطي بطنها وفخذيها بشماغ وكوفية بيضاء تبرع بهما بعض الرجال.
في قرية "دير الغصون" حطت رحال أسرة أبي العجايب عند أصهار لهم، ولبثوا هناك زمنا، لتبقى " قاقون" أمامهم على مرأى البصر، يحرسونها بحدقات عيونهم ، في انتظار يوم حسبوه قريبا .
مرت أيام الانتظار وسنواته مريرة قاسية، كبر خلالها أبو العجايب، وانتقل إلى عمان، وتخرج في الجامعة، وهاجر في أرض الله الواسعة.
يوم تعرّف على صديقته الأمريكية في فرنسا وهما يدرسان معا اللغة الفرنسية ، وعرضت عليه تسهيلات الهجرة إلى أمريكا، ولمّحت له بالزواج ونيل الجنسية الأمريكية، وطرح كل همومه وراء ظهره، يومها لم يجد لديه جوابا سوى الإسراع بمغادرة فرنسا، تاركا لها رسالة اعتذار من جملة واحدة:
البلاد طلبت أهلها.
وعندما اختار أن يُنهي سنوات عمله في الجزائر التي أحبها، وهام بجمال بحرها وسهلها وجبلها،و كان لا يزال في مقتبل عمره، وعبثا حاول المسؤولون أن يثنوه عن عزمه على الرحيل، ويحثوه على البقاء بينهم فترة أخرى ، لكن جوابه الوحيد كان:
لِبلاد طلبت أهلها.
وتذكر بعدها أيام الأغوار والكرامة وأحلام النصر والتحرير، والمفوض السياسي أبا العجايب ومحاضراته الثورية، والمقاتلين يلتفون حوله متمنطقين بأحزمة الرصاص، وقد قبض كل منهم على خصر كلاشينكوفه الأثير.
لكنه ما إن أمضى بضعة شهور في عمان، حتى تهاوت أمام ناظريه كل المُثُل التي حلم بها، وتبدد الوهم الذي ركنت إليه نفسه حينا، وصدمه الواقع بمرارته، وأيقن أنه ليست له بلاد لتطلبه، فعاد إلى مُغتَرب جديد لبث فيه بضع سنين، تزوج خلالها وأنجب كما تفعل سائر الكائنات، لكنه كان يحس أنها جميعا لا تعدم جحرا أو كهفا تلجأ إليه عند الضرورة، طلبا للأمان وتلبية لنداء الغريزة الفطرية ، بل ورغبة في موت سعيد في نهاية المطاف، في مُستقر تُتاح فيه فرصة للزيارة والاعتبار.
لكن أبا العجايب كان ينقصه هذا الملاذ، ومع ذلك فإنه لم يتخل عن عادته، كلما سئم عملا أو ملّ الإقامة في بلد، فإنه يغادره غير آسف على شيء متذرعا بحجته الواهية:
لِبلاد طلبت أهلها.
كبر أبناء وبنات أبي العجايب، وتخرجوا في الجامعات، وباتوا يعتمدون على أنفسهم، وتزوج منهم من تزوج، فأحس أنه قد أدى رسالته الأسرية، ولم يعد لوجوده بينهم ضرورة مُلحّة . ثم إن هذا الحيّ الباذخ الذي يسكنه رغما عنه، ونزولا عند رغبة زوجته وأولاده، لا يبعث في نفسه سوى المرارة والزيف. يحس أن هذا الحي ليس سوى قناع خادع، وأن جميع سكانه يرتدون أقنعة زائفة يسترون بها خواءهم النفسي.
جلهم مثله من أبناء ريف فلسطين، الذين أثروا ثراء فاحشا في غمضة عين، أيام طفرة أسعار النفط في دول الخليج، فبنوا هذه القصور الباذخة ليداروا بها فقرهم المعنوي، وعجزهم عن امتلاك سقيفة أو عريشة، أو حتى موضع قبرفي قرية من قرى فلسطين.
إن مكانه الذي يهوى أن يُمضي فيه بقية حياته، هو منزل ريفي متواضع في أي قرية سهلية شبيهة بقاقون .
لقد أنصت خلال ليلته لحكايات كثيرة عن أناس ذهبوا بتأشيرات زيارة، لكنهم واصلوا العيش هناك بعد انتهاء تصاريح زيارتهم. عادوا إلى قراهم ومدنهم، وعاشوا فيها كما يعيش السمك في الماء، فلم يفطن لهم أحد، وتغاضت السلطة عن بقائهم، ومضى على بعضهم سنوات. صحيح أن هؤلاء قد تسربوا في مواطنهم، في مناطق السلطة الفلسطينية، وليس في مناطق فلسطين 48 التي صارت إسرائيل، حيث موطنه الأول . لكن ما الذي سيحدث لو رغب في البقاء هناك؟
يطأ ثرى قاقون بقدميه ويشم هواءها، ويفرك بين أصابعه حفنة من ترابها، لماذا لا يجرب ذلك؟ أشرقت الشمس التي أيقظت أبا العجايب من أحلامه، ويا لدهشته وهو يرى معظم الذين اصطفوا في الدور طيلة الليل، يتخلون عن أماكنهم لغيرهم ممن وصلوا لتوهم مقابل خمسة دنانير، نظير سهرهم وحجزهم للدَور الليل طوله. إنهم يبيعون الزمان والمكان، أي تفنن في طلب الرزق هذا الذي ابتدعوه؟ وساءل نفسه:
تُرى كم يساوي ثمن الليالي والأيام والسنين التي أمضيتها منتظرا لقاء قاقون؟
إذا كانت الليلة بخمسة دنانير، فإن سنوات انتظاري تساوي ثروة طائلة . لكن من يشتري الماء في حارة السقائين؟ ومن يدفع ثمن انتظار العودة في مخيم لاجئين؟
وتلفت حواليه فاكتشف أنه الكهل الوحيد بين هذا الحشد من المنتظرين الذين باتوا ليلتهم هنا، وأنه كان بمقدوره أن يشتري سهر هذه الليلة بخمسة دنانير.
لم يأسف كثيرا إذ وجد نفسه المغفل الوحيد في هذا الطابور، فقد كانت ذكرياته وخواطره المؤلمة، التي استرجعها في هذه الليلة الطويلة لا تقدر بثمن.
بينما استطال أبناؤه غيبته لعدة أيام، وطفقوا يسألون عنه كل أصدقائه ومعارفه في المدينة، فما دلهم أحد على خيط يوصلهم إلى مكانه، مما اضطرهم إلى تقديم بلاغ لسلطات الأمن عن غيابه.
في هذه الأثناء كان أبو العجايب قد وصل من يومه الأول إلى طولكرم، عبر جسر " الشيخ حسين " كما يسميه باسمه القديم، دون أن تعلق بذاكرته التسمية الجديدة للجسر . كانت ترتسم في مخيلته معالم الطريق الترابي القديم الممتد من قاقون إلى طولكرم، مرورا بقرى " دير الغصون – المسقوفة – الجاروشية – شويكة "، وقد حرسته على جانبيه نباتات شوكية بطول قامته أو تزيد، وقد يبّستها حرارة الصيف. لا يزال يتذكر آلام وخزها لقدميه وجنبيه أثناء الزحام ، وهو يسير حافي القدمين في الثامنة من عمره.
إنه يحلم أن يسلك هذا الطريق ذاته مشيا على قدميه، في طريق عودته البائسة إلى قاقون.
ها هو يتمكن بصعوبة من التعرف على ملامح المخرج الشمالي الغربي لطولكرم، المؤدي إلى" شويكة " و"دير الغصون" وسائر قرى" الشعراوية ". يسير فيه قليلا، فلا يجد دربا ترابيا، ولا معالم مما علقت بذاكرته، وإذا الدنيا غير الدنيا، والقرى التي يعرفها قد صارت بلدة واحدة متصلة، وإذا المعالم قد انقلبت رأسا على عقب . لكن الناس – حتى الان – نفس الناس الذين ألفهم هنا وهناك.
احتار أبو العجايب في أمره، وحدث نفسه:
كل هذا التبدل وأنا بعد في ضواحي طولكرم، في الضفة الغربية وبين العرب، فكيف إذا اجتزت ما يسمونه الخط الأخضر، ووصلت إلى " قاقون"؟
رغم أن أبا العجايب ما تعرف على شيء مما رآه، وما تعرف عليه أحد، إلا أنه تابع سيره على هدي اللافتة التي تشير إلى طريق " دير الغصون "، فهو يعرف أنه عندما يصلها ستكون قاقون أمام ناظريه وجها لوجه.
لم تمض سوى ساعة وبعض ساعة، حتى كان أبو العجايب على مشارف " دير الغصون "، التي بدت له مدينة مزدحمة متراصة البنيان، وليست كما يعرفها قرية وادعة تتناثر إلى الغرب منها في الطريق إلى قاقون خِرَب " بثان " و " يمة " و " بير السكة ".
لم يسأل أحدا عن الطريق، إنه يعرف طريقه الآن وحده وإن تغيرت المعالم. ما غرب دير الغصون إلا قاقون. وسار مُغَرِّباً في السهل الذي تراءى له كأنه يبصره لأول مرة، فما عثر من قاقون التي يعرفها على حجر فوق حجر، ولا أمكنه التعرف على موضع عين الماء في وسط القرية، حيث كانت النساء يردنها حاملات جرارهن ليملأنها من مائها العذب، بينما يتسلين بثرثرتهن المعهودة.
كل خبر جديد في القرية كان يُبث أولا من ساحة العين، ثم تتناقله الألسن سريعا، وكل سر كان يفتضح أمره هناك، وكل شائعة كانت تنتشر من هناك.
فلان يحب فلانة، وفلانة ستُخطب قريبا لفلان . تبدأ الهمسات والوشوشات من هناك، ثم تنطلق إلى كل بيت من بيوت القرية. لقد كان درب هذه العين مهوى أفئدة العشاق، وشاهدا على أغلب قصص الحب والغرام المفضي إلى معظم الزيجات في القرية.
ما لمح من بقايا قاقون التي يعرفها غير أطلال القلعة القديمة، التي تعود إلى عصر الغزو الصليبي، وقد انتصبت على مرتفع من الأرض أحاطته الأسلاك الشائكة، وغير بقايا سور حجري خمّن أنه من بقايا سور المدرسة. لم يكن أمام ناظريه على مرمى البصر سوى مزارع نموذجية حديثة ، وحظائر لتربية المواشي والأبقار.
هام على وجهه طويلا كأنه يدور حول نفسه، فما سمع صوتا ناطقا بالعربية، ولا طالع لافتة كُتبت بها. فلما جن عليه الليل كان الإعياء قد هدّه من طول تطوافه أطراف النهار، فأوى إلى مقعد خشبي تحت شجرة وارفة الظلال وغط في نوم عميق.
تراءى له في منامه أنه صبي صغير يسوق حماره من الحقل إلى البيدر، وعلى ظهر الحمار حمل كبير من أعواد القمح، يميل الحمل مرة يمينا فيعدله بإلقاء حجر ثقيل فوق الناحية اليسرى، ثم يميل يسارا فيعدله بحجر آخر من الجهة اليمنى، ثم يسقط الحمل والدابة جميعا فوقه، يهرسانه هرسا، ويتلفت حواليه صارخا طالبا العون، فلا يطالع إلا جنودا لهم رؤوس أفاع، وقد أحاطوا به من كل جانب، وأخذوا يوسعونه لدغا بأنيابهم، ويلمح على البعد أيادي تلوّح له من وراء أسلاك شائكة، يتأملها فيرى هيئة أبنائه وبناته يصرخون محاولين وقف الأفاعي عن نهشه . بينما تبدى له من الناحية الأخرى طيف أبيه مُربدّ الوجه غاضبا يُعنفه في حنق:
لماذا فعلتها وقد نهيتك عنها ؟ ما الذي غيرك بعدي؟
فلا يجد أبو العجايب جوابا سوى صرخات متقطعة:
لبلاد طلبت أهلها يابا.
كان صراخه في هذا الكابوس قد لفت انتباه ثلة من جنود الحرس الليلي، الذين هرعوا إلى مكانه، أيقظوه من نومه ، ودققوا في أوراقه الثبوتية وجواز سفره وتأشيرة زيارته، وأفهموه أنه لا يجوز النوم، ولا حتى الجلوس في الأماكن العامة في ساعة متأخرة من الليل، وأن عليه أن يسرع فيبحث له عن مأوى يبيت فيه ليلته.
ما انتبه أحدهم إلى ملاحظة مكان ولادته في قاقون، وحتى لو انتبه فإنه ربما لم يسمع مطلقا بهذا الاسم ، فقد أطلقوا على المكان اسما عبريا جديدا لا يمت للاسم القديم بصلة. ركب أول سيارة صادفته وعاد بها إلى طولكرم القريبة. بات فيها ليلته في أول فندق قابله.
أدمن أبو العجايب طيلة أيام تصريح زيارته الخمسة عشر، على تمضية يومه متجولا على قدميه في أرجاء المكان الذي كان اسمه قاقون، فإذا أقبل الليل قفل راجعا إلى طولكرم، ليبيت فيها في نفس الفندق.
لقد طاف بالمكان الواحد والشارع الواحد عشرات المرات، وما شاهد من فلسطين شيئا آخر غير بقايا قاقون، التي ما تعرّف فيها على حجر ولا شجر.
فلما كانت صبيحة اليوم السادس عشر، وعندما ترجل من السيارة عازما على معاودة جولته اليومية، كانت مجموعة من الجنود تحاصره وتقيّد يديه، ثم تدفعه إلى سيارة عسكرية محكمة الغلق، وتتجه به مُشَرّقة صوب جسر الشيخ حسين الذي قدم منه، فقد انتهت مدة الزيارة.
عندما ألقى به الجنود على الجانب الغربي من الجسر، وفكوا وثاقه وأمروه أن يعبر إلى الضفة الشرقية مشيا على قدميه، لم يكن حافيا هذه المرة، لكن وقع الإهانة على شيخوخته وشيبته كان أكثر إيلاما من المرة السابقة.
وعندما سأله شرطي الحراسة الأردني عن سبب تخلفه بعد انتهاء تصريح زيارته، واضطرارهم لإبعاده بهذا الشكل، لم يجد ما يتمتم به سوى قوله:
لِبلاد طلبت أهلها.