كان صوت أمه المبحوح يصله متقطعا، فلم تكن تريد تصرخ دفعة واحدة.. في الحقيقة ليس لمجرد أنها لم تكن تريد إفزاعه ولكن، لان جيشا صغيرا مازال راقدا بينما كانت تريد تأجيل معاناتها اليومية إلى أبعد وقت ممكن. وكان هو شبه مستيقظ فقد تعود جسمه النحيل على هذا النظام العسكري، لم يكن يبدي أية أشارة تعلمها باستيقاظه رغم علمها أنه كذلك، فتملأ سطل ماء وتضعه رهن معاناته...ينهض ككومة واحدة ويتخطى سبع جثث ممدودة أمامه لا يحركها شيء سوى ضربة من قدمه غير المبالية أو صوت شخير حاد...يصعق نفسه بذلك الماء المثلج ويعرض عن تناول كأس شاي وحبات زيتون أسود وخبز شعير يابس؛ وجبته الرسمية التي ناءت بحملها طاولة خشبية قديمة شبه مغروسة في الأرض، لكنه سرعان ما ينصرف دون أن يأخذ على عاتقه توديع تلك المرأة التي تركها خلف باب معدني يسحبه بقوة متعمدة ليحدث صوت ارتطام مقصود يعلن به عدم رضاه،..ثم يبدأ رغما عنه يومه الباكر.
وأثناء الطريق كان كَمن يُساقُ إلى حكم إعدام فَتراه يقاوم خطواته، ليس بفعل البرد الذي نال من أصابع رجله المنحشرة دون جوارب داخل حذاء مطاطي، بل لان هذه الأمكنة مرتبطة عنده بمجموعة من الوساوس فلم يكن يجد من العدل أن يقوم بأعباء البيت بينما يظل آخرون نيام، وكان اضطرابه الصباحي يجعل حبه لأمه محل شك، وأسئلة أخرى تتكاثر بطول الزقاق... لكن قلبه ولسبب ما كان يطرد كل تلك الأفكار تباعا...فجأة تبدأ بعض ملامح البسمة تغازل وجهه الطويل فقد بدأت أول خيوط الشمس تظهر، وبدأ هو في طرد أثار النعاس البادية عليه... وفور وصوله إلى تقاطع الأزقة في أسفل الساحة حيث يلتقي عادة أصدقاءه في العمل، يترك كل واحد منهم قصته وراءه ويبدأ قصة أخرى تبدأ من حيث يلتقون، ثم يتوجه هذا الفريق الصغير إلى السوق وسط ضحك صاخب بتذكر آخر حكاياتهم بالسوق، إلى مغامراتهم الشيطانية في الأحياء المجاورة..وكان هو شديد الضحك لكنه قلما يحكي حكاية تثير الإعجاب، أو الضحك، وعند وصولهم إلى السوق ينتشرون بخفة كبيرة فينطلق بدوره نحو شاحنة الخضار، ويبدأ في حمل صناديق مملوءة، ويضعها قرب دكان الحاج مصطفى، ثم يوضب الخضار و يبدأ في الترويج لجودتها بصراخه الذي تزيده أثار صوته الصغير جذبا للناس الذين يتحلقون حول الدكان فيزيد ذلك من صراخه ونشاطه، بينما تفيض عينا الحاج مصطفى فرحا وسعادة، وفي المساء يقوم بنفس عمل الصباح بشكل عكسي، فيجمع الصناديق ويحملها فارغة نحو الشاحنة ثم يعود إلى الدكان، فيجد الحاج يحصي مداخيل اليوم، يناوله منها بضع دراهم وكيس خضار، ورغم نظرته التي تدل على عدم الرضى لم يكن ينبس بكلمة، فيودع الحاج مصطفى ويعود إلى البيت، وفي أثناء طريقه يفرد الحاج مصطفى بشتائم خاصة جدا، و يقوم بإحصاء الدراهم الإضافية التي خبأها خلسة داخل حذاءه المطاطي بلذة كبيرة يستحضر فيها وجه الحاج مصطفى الظالم وبطنه المنتفخة بمال حرام، وعند اقترابه من البيت يجد أمه بانتظاره.. فيقابلها بابتسامة ممزوجة باعتذار، ثم يناولها كيس الخضار ويبدأ بمداعبة اصغر إخوته..ومن خلال النافذة المطلة على الشارع كان يراقب أطفال الحي يلعبون في فرح لكنه كان يعلم أن تعب النهار يمنعه من الخروج ومجاراتهم فكان يكتفي بالفرجة، فيبدو مثل عجوز تعوزه القوة..وفي أثناء فسحته كان يجيب عن أسئلته الصباحية الشيطانية فهو لم يكن أبدا يكره أمه ولا إخوته، ولم يكن أيضا يرفض القيام بأعباء البيت...لكنه كان فقط يريد لعب الكرة..وحمل محفظة فوق ظهره.