إنَّ الحمد لله نحمدهُ ونستعينهُ ونستغفرهُ ونعــوذُ باللهِ من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
من يهدهِ اللهُ فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ... أما بـــــــــعد:
ورفعنا لك ذكرك
إن خير الخلائق وأغلى الرجال وأجل الناس وأفضل البشر وأزكى العالمين هو سيدنا - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين. فكيف لي أن أقف أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وماذا عساي أن أقول فيه؟ لكن الفكرة لاحت بالكتابة عنه - صلى الله عليه وسلم - باقتراح من أحد المشايخ الفضلاء، وليتني أضع بصمة شمّاء للتعريف به - عليه الصلاة والسلام - علَّها تَكسِب مُحبا وتُفرح متَّبِعا. ولا أريد الإطالة هنا فأحجزكم عما ذكرت الورقات في حياة محمد -عليه أفضل الصلوات- وإنما أترككم تعيشون مع هذه الشخصية العظيمة والروح الحليمة. إليك وإلا لا تشدُّ الركائب *** ومنك وإلا فالمؤمَّل خائبُ وفيك وإلا فالغرام مضيَّعٌ *** وعنك وإلا فالمحدِّث كاذبُ واسأل ربي أن يجعل هذه الورقات خالصة لوجهه الكريم إنه سميع مجيب للدعوات. آمين... والحمد لله ب العالمين. قبـل الأربعـين (صناعة الجيل) في الأربعين من عُمْر سيدنا الأمين - صلى الله عليه وسلم - كانت البعثة النبوية، وفي الثاني عشر من ربيع الأول ولد المصطفى، وهو اليوم نفسه الذي توفي فيه - صلى الله عليه وسلم -. فكان العمر قبل الأربعين طويلا ضمت مرحلة الشباب والطفولة، ولم يبق بعد الأربعين إلا سنوات قليلة. فلم ترافق الطفولة سوى دروسا لحقيقة طفولة المصلحين ومرحلة شبابهم وكيف يجب أن يكونوا لإسعاد امَّتهم وصناعة نهضتها. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في طفولته محفوظا من كل رديء من الأخلاق والأوصاف، طهر وصفاء وذكاء ونقاء، ومن حكمة الله - تعالى -ان جعله رضيعا في البادية حيث هذا النقاء والصفاء، يحتسيه مع كل لحظة ويرتشفه في كل ومضة. فلم يعرف عنه - صلى الله عليه وسلم - إلا مكارم الأخلاق ومحاسن الأوصاف التي اجتمعت به، حتى أنَّ الله - تعالى - قال فيه: (وإنك لعلى خلق عظيم)القلم: 4. قال شيخنا العلاَّمة المحدث نور الدين عتر: "لم يستطع أحد بأن يصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأجمل ولا أشمل من هذه الآية". وشبّ طفل الهدى المحبوب متّشحا *** بالخيــر متّزرا بالنور والنار في كفّه شعــلة تهدي وفي دمه *** عقيــدة تتحدَّى كلَّ جبَّـار وفي ملامـحه وعــد وفي يده *** عزائم صاغها من قدرة الباري فكان عفيفا وأمينا وصادقا وحليما، ولو اطلعت على سرِّه لرأيته زاكيا مأمونا كما هو مظهره، فما هي الزلة التي حفظها عنه أعداؤه؟ وهل استطاعوا أن يطعنوا فيه بما فيه؟ كلا... فإنهم ما كانوا يتركون أماناتهم إلا عنده، وهذه هي الأخلاق في معقد الشباب، ولأنَّ ما قبل الأربعين هي الأساس لما بعدها. ألم تر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يبعث المرء على ما مات عليه ويموت على ما شاب عليه"؟ أخرجه مسلم بلفظ قريب. إذاً ما بعد الأربعين قادمة، ليس في عنوان الكتاب فحسب وإنما قادمة لكل شاب. في الأربعـين (إقـرأ) في الأربعين من عمر النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم - حدثت البعثة في الغار الذي كان يتعبد فيه غار حراء، وأعلن جبريل عنها بنزوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت الكلمة الأولى هي (اقرأ)، وذلك لتتبدل الدنيا ولتنتهي الجاهلية. إنَّ البريّةَ يومَ مبعث أحــمد *** نظر الإله لها فبدَّل حالها بل كرَّم الإنسانُ يوم اختارَ مِنْ *** خيرِ البريَّةِ نجمُها وهلالُها ففي البخاري عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت: "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله به على موسى، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي". فكانت اللحظات الأولى للبعثة هي الإعلان عن نزع لباس الجهل وارتداء لباس العلم، حتى أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اخبر بهذا صراحة لا جدال فيها ولا مراء ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها نقية، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب، أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدي الله الذي أرسلت به)). إذاً البعثة علم وهداية وأخلاق ودراية، ومن هذا العلم وأوله هو التوحيد الخالص لله - تعالى -، قال - تعالى -: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) [محمد: 19]، فبعث الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لتوحيد الله - تعالى -ودحض الإشراك به وسحق الأصنام ومحاربة الظلم وإزهاق الباطل، وهذه هي رحمته التي قال الله عنها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]. ومن العلم بلا اله إلا الله أن تخلص له العبادة، لأنه لا يقبل الشريك، وفوّض إليه الأمر لأنه الكافي القويّ، واسأله فهو الغني، وخف عذابه لأنه شديد، واخش أخذه لأنه أليم، ولا تتعدّ حدوده لأنه يغار، ولا تحارب أولياءه لأنه ينتقم، واستغفره فهو واسع المغفرة، واطمع في فضله لأنه كريم، ولذ بجنابه وأدم ذكره لتنل محبته، وأدمن شكره لتحظى بالمزيد، وعظم شعائره لتفوز بولايته، وحارب أعداءه ليخصّك بنصره. وهذا من أول ما تقرأ وبعدها البداية، فمن رام البداية المحرقة فعليه بـ(إقرأ) ومن رام النهاية المشرقة فعليه بـ(إقرأ) فالمجـد والحياة والفوز والنجاة، ولا يخفى علينا أن اليهود عندهم علم بلا عمل فأصبحوا مغضوب عليهم والنصارى عندهم عمل بلا علم فأصبحوا ظالين، فالحمد لله رب العالمين كما جاء بفاتحة الكتاب، التي من حكمة الله أن جعلها من أول ما يقرأ في القرآن. بعد الأربعـين (أخلاق ودين) وهذان أمران متلازمان لمن تتبع سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فان رأيت أخلاقا دون دين فإنَّها نفسٌ عاجزة عن الاقتداء، وان رأيت دينا دون أخلاق فإنَّها نفس قاصرة عن الامتثال، فكيف بالروح هل تزكو دونهما؟ حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) أخرجه الترمذي والبيهقي عن عائشة - رضي الله عنها -. فالأخلاق دين والدين أخلاق وهما عبادتان متلازمتان. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - اصدق الناس ولم يعرف الكذب في حياته حتى لو كان مازحا، وكيف يخبر عن الله من كان لا صِدْقَ له؟ وما كان يدعى قبل بعثته إلا بالصادق الأمين. وهو المثل الأعلى في الصبر على لأواء الحياة، يوم أن عودي وأوذي وشتم وضرب ما كان متدرعا إلا بدرع الصبر؛ لأنه إمام الصابرين، صبر على بريق المناصب والأموال وشهوة الرئاسة والملذات، ومحنة الطائف خير شاهد على ذلك. وما في الوجود أجود وأكرم من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حتى قال الشعراء: تراهُ إذا ما جئتـَه متهـلِّلاً *** كأنَّك تُعطيهِ الذي أنتَ سائلُهُ وبالفعل أتاه رجل يسأله فأعطاه غنما بين جبلين، أليس هو الذي يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)) أخرجه البخاري ومسلم. وليقرأ الشجعان عن بطل الرجال ورجل الأبطال، فما أرهبته المواقف والأزمات يوما وما هزته الملمات ساعة، ففي يوم حنين لم يبق معه إلا ستة من أصحابه كان الوطيس إذا اشتد احتموا به - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذا يقتدي به اليوم؟ حتى قال قائلهم: وقفت وما في الموت شك لواقف *** كأنك في جفن الرّدى وهو نائم تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمــة *** ووجهك وضّاح وثغرك باسم وكان زهده - صلى الله عليه وسلم - زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها وقلة زادها وقصر عمرها، من منا يسكن في بيت من طين؟ ومن يرضى؟ وفوق هذا كان متقارب الأطراف، داني السقف، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)) أخرجه ابن ماجه والطبراني والحاكم. هل زهدنا يوما بشيء مما امتلكنا؟ هل زهدنا بها لفقير؟ ليتيم؟ لمعتقل؟ لأرملة؟ لمحتاج؟. وأما من يحب المدح وكلنا يحبه ألا من رحم ربي- فان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يكفيه يوم أن قال: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا عبد الله ورسوله)) أخرجه البخاري. وهذا من تواضعه وحلمه ولين عريكته ولطف عشرته، قال لهم يوم الفتح وهم ينتظرون جزاءهم القتل والقصاص: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) صحيح الجامع. فيا له من نبي اجتمعت به الفضائل، وكان يبلغه الكلام السيئ فيه، فلا يبحث عمن قاله ولا يعاتبه ولا يعاقبه، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يبلغني أحد منكم ما قيل فيَّ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي. فهو رحمة للبشرية ومن المواقف التي بكى فيها عندما رأى ولد إحدى بناته تفيض روحه، فبكى، فلما سئل عن ذلك قال: ((هذه رحمة يضعها الله في قلب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباه الرحماء)) أخرجه البخاري ومسلم. كل ذلك رحمة منه - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: ((والقصد القصد تبلغوا)) أخرجه البخاري. ويقول: ((بُعثت بالحنيفية السمحة)) أخرجه أحمد. ويقول: ((خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا)) أخرجه البخاري ومسلم. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وأنكر على الثلاثة الذين شدّدوا على أنفسهم في العبادة، وقال: ((والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكنني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فيس مني)) أخرجه البخاري ومسلم. (ورفعنا لك ذكرك) لا يحب إنسان شخصا من الأشخاص إلا أكثر من ذكره، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاكرا لربه، في كل وقته، فأكسبته تلك مقاما محمودا في الدنيا قبل الآخرة، حيث رفع الله له ذكره، فلا يذكر الله - تعالى - إلا ويذكر النبي معه - صلى الله عليه وسلم -، وقبل ذلك سبق الله ذكره في الكتب السابقة والدواوين اللاحقة، فكم من آية ذكر النبي الرسول مع الله - تعالى - فيها؟ وكم من مرة ذكر في الكتب السماوية، والمصنفات الأرضية؟ وكم واحد في الأرض اسمه محمد أو مصطفى أو بشير أو احمد؟ فرفع الله ذكره إلى يوم الدين. لكنه كان يذكر الله - تعالى - بذكر عجزت عنه نفوس الزاهدين العابدين الذاكرين وكيف لا يرفع الله - تعالى -من ذكره وهو يقول في الحديث القدسي: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير من الملا الذي ذكرني فيه)) البخاري ومسلم. وفي الصحيحين أيضا: ((أن الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت)). وهذا الوصف من أبلغ الأوصاف على موت قلوب الغافلين عن ذكر رب العالمين. والبكاءُ فَضيلةُ عند التقصير والخوف، يرفع الله - تعالى - العبد الباكي من خشيته الله مقامات عُلى، قال - تعالى -: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) [الإسراء: 109]. وقال - تعالى -: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[المائدة: 83]. فأين نحن من هؤلاء، الذين تجيش عواطفهم عندما يذيقون حلاوة الإيمان، أين الجفون التي تهطل خوفا من الباري، وهرعا من النار؟ قال - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود: ((اقرأ عليّ القرآن))، قال: كيف أقرؤه عليك وعليك أُنزل؟ قال: ((اقرأ فإني أحبّ أن أسمعه من غيري)) فيقرأ ابن مسعود من أول سورة النساء، حتى بلغ: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء: 41]. قال: ((حسبك الآن)) يقول: فنظرت فإذا عيناه تذرفان. أخرجه البخاري ومسلم. وقد حصل مثل ذلك يوم ان كنا نختم القرآن في الشام فوصلت يوما إلى قوله - تعالى -: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281]. فقال لي الشيخ منذر الأزجي حسبك فإذا به يبكي بكاء شديدا. صلى الله عليه وسلم: قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)) [الأحزاب: 56]. صلى عليك الله يا علم الــهدى *** ما حنّ مشتاق إلى لقياكا وعليك ملء الأرض من صلواتنا *** وقلوبنا ذابت على ذكراك الصلاة على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عبادة من عبادات المؤمنين، الله في عليائه يصلي عليه، والملائكة المكرَّمون يصلون عليه، فكيف لا نصلي عليه؟ وفوق هذا وذاك فان الله لا يصلي على النبي فحسب وإنما سيصلي على من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: ((من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه عشر درجات، وكتبت له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات)) أخرجه النسائي. وكذلك روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغونني من أمتي السلام)) أخرجه أحمد والنسائي والدارمي والحاكم، ولما قال أبيّ بن كعب: سوف أجعل لك صلاتي كلها، أي دعائي، قال: ((إذن يغفر ذنبك، وتكفي همّك))) أخرجه الترمذي. فصلى الله عليه وسلم ما نسيم تدّفق ودمع ترقرق، وما وجه أشرق، وصلى الله عليه وسلم ما اختلف الليل والنهار، وهطلت الأمطار، ودنت الثمار واهتزت الأشجار، وصلى الله عليه وسلم ما بدت النجوم، وتلبدّت الغيوم وانقشعت الهموم، وتليت الأخبار والعلوم، وعلى آله الطيبين الأبرار، وأصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم واقتفى الآثار. صلى عليه إلهُه وخلـيلُه *** ما دامت الغبراء والخضراء فهو الذي فاق الأنام كرامة *** واستبشرت بقدومه الأنباء (خاتــمة) (وما بعدها البداية) هذا غيض من فيض، وقطرة من بحر، تكلمت عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، والمصنفات التي تكلمت عن هذه الشخصية العظيمة والمؤلفات لا تعد ولا تحصى، وإنما هذه الورقات هي دلالة على أنَّ الاقتداء والإتباع هو الأصل والعمل هو الفضل، فما معنى الكلمات والمؤلفات والمجلدات إنْ قلَّ العمل؟. فمن هنا البداية... البداية بإصلاح النفس وتغيير الذات، وجعل هذه الشخصية العظيمة هي القدوة في كل شيء، عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة، وهذا ما يفعله الراجون الفوز في الدارين، والنجاة فيهما من عذاب الله - تعالى -، في الدنيا والآخرة، كذلك السعادة في الدنيا لا تكون إلا بإتباع المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فما فاز السابقون من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين إلا بذلك، ووصلوا إلى ما وصلوا إليه في الراحة والأمان، والسعادة والاطمئنان، ورضا الواحد الديَّان. فالسيرة النبوية ليست كتبا ولا مصنفات، ولا مؤتمرات ولا شعارات، إنما هو العمل لنصرته - صلى الله عليه وسلم - ونصرة دينه وعقيدته، والتخلق بأخلاقه، والتعامل بمعاملاته، والتشبه بأفعاله، والائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، ونشر دينه ورسالته، والجهاد في حماية بيضته، وتبليغ دعوته. فنسأل الله أن يوفقنا لذلك ون يجعلنا من السائرين على خطاه وخطى آل بيته وصحابته وسلف أمته - رضي الله عنهم جميعا- انه وليُّ ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين... آمين. المصدر المختار الإسلامي