الشمس الباردة في نهار الخريف والشارع المتسع يغرياها بالتمهل في الخطو.. فتستجيب.. تفكر في "الطعمية" الساخنة التي ستلقتطها من المحل على ناصية شارعهم، وتحاول أن تتذكر إذا ما كان لديها خبز أم تشتري من الفرن الموجود في الشارع نفسه، ينبهها صوت السيارة فتلتفت إليها.. لا تعرف السيارة لكن تعرف سائقها، هو رجل يعتبر كل من تمشي وحدها في الشارع فتاة ساقطة يكفي صوت واحد من سيارته لتركب معه، تابعت سيرها دون أن تلتفت مرة أخرى، سبقها بسيارته ليوقفها أمامها كي تمر بجانبه، تحركت بهدوء متعمدة ألا تسمع ما تعرف أنه سيقوله، كرر محاولته مرتين.. ولكنه اضطر لتركها في حالها عندما وقفت لتشتري إفطارها.
قصة عادية.. ربما لن تثير حفيظة أحد، وربما ستثير السخرية لدى البعض، لكنها ستثير غبار الذكريات إمرأة لا تأمن على نفسها في الشارع.
لن يتذكر الرجل الذي مر بسيارته وأغرته وحدتها في أن يتحرش بها عنها شيئا بعد دقائق، لن يعرف الرجل الذي ظل يراقبها جالسا على المقهى أنها كانت تحتقره، ولن يفهم الرجل الذي استنجدت به أنه رغم ثباتها كانت قدميها ترتعشان، ولن يصدق من يقرأ القصة أن مثل هذه الحادثة البسيطة ستتسبب في بكاء الفتاة ليلا، واكتئابها أسبوعا، وأنها ستفكر مرتين في المرة القادمة قبل أن تأخذ قرار قطع المسافة القصيرة في الشارع على قدميها بدلا من أن تركب مواصلة.
لا يتعلق الأمر بماذا حدث أو كيف؟ ودافع الفعل وصاحبه مجرد تفاصيل تبدو غير ذات معنى في ظل عدم قدرتنا على تغيير وسائل المعرفة وطرقها في المجتمع، الحكاية تدور حولها "هي" التي تتلقى الإهانة ممزوجة بالألم والملامة.. وتحيا حياتها في محاولة اكتشاف طريقة للتخلص من أحدهما.. وقليلا ما تنجح.
يشكل التحرش "بجميع صوره" صورتها عن نفسها، وصورتها عن المجتمع/الرجل، ترى نفسها منتهكة دون حقوق، وتراه متسلط ومستبد.. وغير قابل للترويض أو الإرضاء، إما أن تستسلم لضعفها أو تتمرد على نفسها وعليه.. وفي الحالتين لا تكون نفسها، ولا يكون المجتمع بحال جيدة.
لن يحسن من أحواله وجود حرس درك يحمي الفتيات في الشارع، ولن يحسن أحواله اختراع أدوات ردع لمواجهة المتحرشين في الشارع، ولا حتى إقامة الندوات والأمسيات لتحليل المشكلة وجذورها، ستتحسن أحواله عندما تشفى "هي" من آثار الإهانة، ويخف الألم فلا يجدده صوت سيارة تقترب في شارع هاديء!