وقفت بين صديقاتها غاضبة ، تشكو لهن ابنتها ذات السادسة عشر عاما ، والتي تستمر في مخالفة أوامرها ، وتصر على الخروج معها .. بالحجاب .
تقول تلك الأم : أنا أخجل من الذهاب مع ابنتي إلى أي مكان ، فهي تلتف بالسواد من قمة رأسها حتى أخمص قدميها ، أيعقل أن تكون ابنتي بهذا الشكل وأنا المعروفة بالأناقة والذوق الرفيع ؟! حاولت إقناعها بأن تتطور و تصبح مثل بنات جيلها .. ترتاد الصالونات .. ترقق حاجبها ، تضيف بعض الماكياج على وجهها ليشرق شبابها وجمالها ، لكنها تأبى إلا أن تدفن نفسها كالعجائز ، لقد هددتها أكثر من مرة ، فإما أن تسمع كلامي وتغير مظهرها البدائي ، وإما ألا تخرج معي أبدا .
وفي موقف مشابه تقول إحدى الفتيات من إحدى الجنسيات العربية : أمي هي مشكلتي في الحياة ، فهي تحرص كل يوم على إيذائي بعباراتها الحادة وتعليقاتها الساخرة على حجابي ، وتجبرني على الإختلاط مع أبناء عمومتي وأبناء خالي ، وتتعمد أن تشتري لي البنطلونات الضيقة والقمصان الكاشفة ، وتحاول إقناعي بأنني لا زلت صغيرة على الحجاب ، و أن الرجال يهربون من الفتاة المحجبة ، وأنني لا بد أن أبرز مفاتني كي أظفر بالزوج ، ثم بعد ذلك أفعل ما أشاء .
نحن أمام نماذج غريبة لأمهات قد يكن من أرقى المستويات الفكرية والإجتماعية ، ولكنهن وضعن الدين في آخر الإهتمامات ، غير عابئات بما يعتري هذا المجتمع من تفسخ وإنحلال ، وغير مدركات للتحديات المحيطة بالفتاة من تعدد للثقافات الدخيلة ، و إعلام متفجّر بالإثارة الجنسية ، بل و زاد من الطين بلة حين رفعن راية .. لا للحجاب .
لو ذهبنا إلى أي مركز للتسوق لصدمتنا مناظر مفجعة لفتيات في عمر المراهقة ، قد خرجن بكامل زينتهن ، وبملابس ملفتة ، لا تغطيها سوى عباءة ضيقة تكشف أكثر مما تستر ، و كل واحدة منهن تتعمد لفت الأنظار بإبتسامات وحركات وضحكات سافرة ، مما يفجّر سؤالا ملحّا عند كل نفس غيورة ..ترى أين الأهل من كل هذا ؟؟؟!!!
تقول إحدى الفتيات : أنا لا أعرف الصواب من الخطأ ، فكل ما تنهانا عنه معلمتي في المدرسة من أمور لا يليق بالفتاة فعلها ، أتفاجأ بأن أمي تنادي بعكسها ، فكل شيء عندها مباح ، بل وتشجعنا على فعل ما تعتبره معلمتي خطأ ، فأبقى في حيرة شديدة ، أيهما على حق ..أمي أو معلمتي ؟!
وإنا لنتعجب فعلا من أولئك الأمهات اللاتي غفلن أو تغافلن عما ينتشر في المجتمع من ظواهر مؤلمة كالمعاكسات والعلاقات المثلية ، والعلاقات مع الجنس الآخر والتي وصلت إلى حد الزنا والعياذ بالله ، وهروب الفتيات من منازل ذويهن ، وإنتشار ظاهرة التشبه بالرجال في المدارس والكليات . . فهل تدرك أولئك الأمهات ما يجري من حولهن ، أو أنهن كما قال الشاعر :
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
حين تقول الأمهات لبناتهن لا للحجاب ، فإن الأمر يأخذ أشكالا وطرقا غير مباشرة ، كلها تقود في النهاية إلى نتيجة واحدة وهي .. جيل بلا حشمة .
ومن بعض تلك الأساليب :
1.تشجيع الفتاة على التبرج والسفور ، بحجة أن ذلك من متطلبات العصر ، ودليل التطور ، بل و قد تسعى الأم لشراء أدوات الماكياج والملابس الضيقة لابنتها المراهقة ، و تسير معها جنبا إلى جنب متفاخرة ، لا يهتز لها رمش على مفاتن ابنتها التي تكشفت أمام الغرباء .
2.تحريض الإبنة على المعاندة ورفض أي نصيحة موجهة لها من قبل الآخرين حول اللباس الشرعي ، كما حدث في إحدى المدارس حين قامت الإختصاصية الإجتماعية بتوجيه إحدى الطالبات حول حرمة نمص الحاجب الذي تقوم به ، وذكرتها بعفة الفتاة وسمعتها في المجتمع ، فما كان من الأم في اليوم التالي إلا أن هاجمت إدارة المدرسة لتدخلهم في خصوصيات الفتاة ، وتجرئهم على نصيحتها ، وصرّحت بأنها موافقة على كل ما تفعله ابنتها ، ثم سارعت بنقل أوراق ابنتها إلى مدرسة أخرى .
3.إعطاء الفتاة حرية لا محدودة في الخروج من المنزل ، والتغيب عنه إلى ساعات متأخرة من الليل ، دون أي محاسبة على التأخير أو معرفة للأماكن التي ترتادها ، وكل هذا تحت منطق ..( نحن نعرف بناتنا ونثق في أخلاقهن وتربيتهن ) .
4.عدم الإهتمام بزرع القيم الدينية في شخصية الفتاة ، فقد تصل إلى مرحلة البلوغ وهي لا تعرف شيئا عن فقه الصلاة وفرضية الحجاب والحلال والحرام ، و قد لا تجد في البيت من يحثها أو يتابعها ، أو يحرص أمامها على تطبيق تلك الفرائض ، بل والأبشع من ذلك حين تجبر الفتاة على ترك العبادات لأسباب واهية .
تقول إحدى الفتيات بمرارة : قليل من أفراد عائلتي يلتزم بالصلاة ، وأمي كلما رأتني أصلي نهرتني قائلة : قومي ذاكري أحسن لك من هذه الصلاة .
وفي موقف غريب .. تعترف إحدى الأمهات بأنها أجبرت ابنتها يوما على الإفطار في رمضان ، رغم توسلات الإبنة ودموعها ، وعللت تلك الأم موقفها بأن الصيام قد يؤثر على تركيز ابنتها في امتحاناتها ، وهي حريصة أن تنال الدرجات النهائية وتكون الأولى على المدرسة ! .
5.التساهل في خروج الفتاة مع غير المحارم كالسائق أو أحد شباب العائلة دون أن يرافقها أحد ، بحجة أن أولئك الرجال في منزلة الأب أو الأخ ، مما يجر من الويلات الشيء العظيم .
6.السخرية من المحجبات الملتزمات ، ونعتهن بالتخلف والرجعية والبعد عن الذوق .
7.ضعف شخصية الأم ، وعدم قدرتها على ضبط سلوكيات الإبنة ، واستسلامها لكل ما تفعله ، تحت مبدأ أن ( جيلها غير جيلنا ) .
8.غفلة الأم عما تتلقاه الفتاة عبر الفضائيات أو الانترنت من مشاهد تحرك الغريزة وتغري بالإنفلات ، وتزرع قناعات منحرفة حول الحب والعشق والسفور ، مما يزعزع الكثير من القيم الإيمانية ، ويدفع بالفتاة إلى إستسهال المعصية لتذوق طعم السعادة التي يزعمون .
9.تساهل الأم مع ابنتها خلال السفر ، حيث تسمح لها بالتخلي عن العباءة و غطاء الرأس ، وإرتداء الملابس الضيقة الكاشفة ، وارتياد الأماكن المختلطة بمفردها أو مع شلة من صديقاتها ، وذلك بحجة بأنها بعيدة عن بلدها ، و لن يحاسبها أو ينتقد تصرفاتها أحد ، فكل شيء ممموح به أثناء السفر ، والكثير ممن يعودون من أسفارهم يشتكون من أن الفتيات في الخارج أصبحن أكثر تفلتا من حيث اللباس ، ولم يعدن يمثلن الصورة الحقيقية للفتاة الخليجية المحتشمة .
إننا من خلال هذا الموضوع لنشير إلى قضية المسؤولية تجاه هذا الجيل ، و التي تنبثق من قوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) . وهي مسؤولية مشتركة بين الأب والأم ، وكما يقول الشاعر :
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه .
ولكن تبقى الأم هي الأقرب والأكثر تلاحما وتأثيرا على الفتاة ، و المسألة هنا أكبر من مجرد غطاء يوضع على الرأس .. إنها قضية تربية ، واستقرار مجتمع ، وحصانة جيل ضد أي مؤثرات فكرية ، أو دعوات زائفة تسعى بالفتاة إلى انتزاع حيائها وعفتها ..
نحن لا نريد حجابا يتغير مع خطوط الموضة ، أو غطاء يخفي وراءه سوء أدب ، بل نريد حجابا يرتقي بسلوك الفتاة ، ويعلمها الحياء و غض البصر وخفض الصوت ، حجابا تعتز به الفتاة وتشعر بأنه هويتها الوحيدة ، وأنه الرمز الحقيقي لأنوثتها وكرامتها .
ونختم بقوله صلى الله عليه وسلم : (( ما من مسلم له ابنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة )) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح .
فيا ترى كيف يكون هذا الإحسان للفتاة ، و الذي يوصل بوالديها إلى الجنة ؟
- إنه إعدادها لتتفاعل مع تحديات العصر بكل وعي وثقة .
- وهو تربيتها على عزة النفس وقوة الرأي و القدرة على حماية النفس ، والثبات أمام أي محنة أو تحد ، سواء في الجامعة ، أو العمل أو السفر ، وحتى بعد الزواج.
- وهو تقوية الرقابة الذاتية لديها ، واستشعار المسؤولية الفردية أمام الله يوم القيامة وتعزيز مبدأ الثواب والعقاب والجنة والنار .
إن دور الأم تجاه تربية هذا الجيل ، لا يقل أهمية عن دور العالم في معمله ودور الجندي على ثغور بلده ، بل إن دورها أعظم من هذا كله ، فهي الرحم الذي سينجب ذلك العالم والجندي ، وهي المربي الذي سيوجه العقول ويرقى بالشخصيات .
فما أحوجنا إلى أم جديرة بالأمومة ، تصلح ولا تفسد ، وتعي ولا تغفل ، وتكون لبنة بناء لا معول هدم .