الأرض والأنثى والصورة المتخيلة في "تلك صورتها وهذا انتحار عاشق"
فراس حج محمد
عندما كتب محمود درويش عام 1975 مطولته الشعرية تلك صورتها وهذا انتحار العاشق، كان يريد لها أن تكون حافلة بالجمال والشاعرية والعبارة المكتنزة الواعية والمختزنة للمشاعر الإنسانية في أبهى تجليتها، كان يكتب وفي وعيه وطن مسلوب، هذا الوطن الذي لم يجف دم شهدائه بعدُ، بعد أن خاض العرب والفلسطينيون معارك وهمية مع محتل بغيض عام 1967، وكسبنا نصرا مشوها عام 1973.
لقد شعر درويش أنه لم يبق من الوطن إلا صورته، فما حيلة العاشق، فلا بد أنه الانتحار عشقا وهياما وذوبا في حنين لم ينقطع عبر مسيرة درويش متعانقا مع أرض تتراقص في مخيلته، هذا الحنين الذي أشقاه ألماً ووجعاً عندما عاد درويش إلى فلسطين بعد اتفاق أوسلو، تلك العودة التي وصفها هو وغيره من المثقفين بأنها عودة منقوصة، ولذا فإنك ترى درويشا يتنقل بين عمان ورام الله، لم يقنعه أحد المكانين واجتماعهما، لأنه لم يجد الوطن الحقيقي فوجد صورته، ولعلها صورة باهتة مختلفة عما يختزنه في وعيه المتجذر، حيث طزاجة الصورة وألقها الأول.
أعود إلى مطولة درويش هذه وأفتش عن ملامح وطن ضاع، فأرى من بين ثنايا هذا الضياع أملا يتسلل عبر أنثى وملامح أنثوية لتكون بديلا عما كان يطمح له من وطن، وهذا البحث عن الأنثى الوطن ليس قصورا أو ارتدادا وتقزيما لقامة شعرية سامقة كدرويش، ولكن لإمكانية الحلم من خلال أرض مجازية هي الأنثى بعد أن فقد الأرض الحقيقية مجاز الأنثى.
ترى درويشا يترنم في هذا المقطع صاهرا كل حنينه ووجعه في قوله:
"لأن طفولتي رجلٌ أحب...
أحب امرأة تمر أمام ذاكرتي ونيراني،
ولا تبقى ولا تمضي.
أحب يمامة سميتها بلدا."
وتحفل هذه المطولة بالملامح الأنثوية الخضراء خضرة أرض فلسطين الندية كأزهارها التي أثقلها ندى الحنين، فيا لله كم مؤلم هذا التشظي بين المرأة المحتملة/الأرض وبين الأرض المحتملة/ الأنثى التي طالما أشغل درويش نفسه بالبحث عنها.
لقد دفعه ذلك لأن يقول وبحسرة تكشف عن أعصاب الموت والحنين:
آخُذُ موجة وأعيد تركيب العناصر:
"خصرها
يدها
نعاس جفونها
وبروق ركبتها
سآخذ موجة وتكون صورتها وأغنيتي."
وهكذا تظل ثنائية الأنثى والأرض متعانقة مع ثنائية الحقيقة والمجاز مع الصورة والواقع المشخص ليظل الحنين مشتعلا والشوق متسربا ما بين المسامات، لتعلن عن الحقيقة الصارخة، بأنه لن تغني الصورة مهما كانت طافحة بأثيريتها وجمالها عن الواقع الذي يأمل أن يصل إليه المؤملون، وستظل تلك صورتها تنادي الروح وسيظل العاشق في انتحاره وتولهه، حتى تتحد الصورة والشخص والأنثى والحلم والأرض والواقع، فما زال بين الشاعر وبين الأرض كما قال: "بيني وبينك صورتان"، ساعيا "نحو يافا- الأمنيةْ". فتلك صورتها وهذا انتحار الواله العاشق المنتظر تحقيق أمانيه في دروب صارت تجهل خطوته، فلن يتعب وإن تعب الحلم:
"وأعددنا لكِ المهد الحضانة والجبلْ
ويشبهك المغني والمنادي والبطلْ
والحلم يأخذ شكله
فيخاف.."
فالجذور ما زالت تناديه، حيث فلسطين الواقع والصورة الأولى الأبهى حضورا في وعي المثقف الذي شاهد الخراب ينبش في خلاياها، فيحيلها وهما وصورة مشوهة وإن كانت هي فلسطين مكانا وجغرافيا، ولكن الروح غدت تموج بأعباء الموت كل لحظة:
"كأن أغنية تغير أو تطهر أو تدمر أو تفجر.
هم يبحثون عن البكارة خندقا
ويمارسون الغزو ضد الغزو في خلجان جسمك. "
رحمك الله يا درويش، فقد تركت أعصابنا في حمأة من طين، حية خصبة، تتوق لبكارة الصور وألق الحنين الذي لن ينطفئ يوما.