الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الاكملان الأتمان على المبعوث رحمة للعالمين
أما بعد: فقد بدا لي أن أضع بين يدي القارئ الكريم بعض الألفاظ التي اشتهرت عند العلماء وطلبة العلم والمثقفين, مما خفي معناها وعسر على البعض إعرابها, تتميما للفائدة والله الموفق,
وقد عني بجمعها وتقريبها الشيخ محمد أمين المشهور بابن عابدين الدمشقي الحنفي في كتابه الموسوم بالفوائد العجيبة في إعراب الكلمات الغريبة.
يقول رحمه الله: ( منها قولهم : هَلُمَّ جَرّا فهَلُمَّ بمعنى تعالَ ، وهو مركَّب من هاء التنبيه ومن ( لُمَّ ) ، أي : ضُمَّ نَفسَكَ إلينا ، واستُعملَ استعمال البسيط ، يستوي فيه الواحد والجمع ، والتذكير والتأنيث عند الحجازيين ، كذا في القاموس، وسبقه إلى ذكره الصحاح، وتبعه الصغاني فقالا : تقولُ : كانَ ذلكَ عامَ كذا وهَلُمَّ جرّا ، أي : إلى اليومِ . انتهى .
ولا يخفى عدم جريان ما قاله في القاموس في مثل هذا . وتوقّف الجمال بن هشام في كون هذا التركيب عربياً مَحْضاً ، وساق وجوه توقفه في رسالةٍ له، وأجاب عن ذكره في الصحاح ونحوه ، وذكر ما للعلماء في إعرابه ومعناه وما يردّ عليه ، ثم قال : ( فلنذكر ما ظهرَ لنا في توجيه هذا الكلام بتقدير كونه عربياً فنقول : ( هَلُمَّ ) هذه هي القاصرة التي بمعنى : اِئتِ وتعالَ ، إلا أنَّ فيها تجوَّزَين :
أحدهما : أنّه ليس المراد بالإتيان هنا المجيء الحسي بل الاستمرار على المشي والمُداومة عليه ، كما تقول : امشِ على هذا الأمر ، وسِرْ على هذا المنوال ، ومنه قوله تعالى : ( وانطلقَ الملأُ منهم أنِ امشُوا واصبروا على آلهتِكُم ). فإنّ المرادَ بالانطلاق ليس الذهاب الحسي بل انطلاق الألسنة بالكلام ، ولهذا أعربوا ( أنْ ) تفسيرية، وهي إنّما تأتي بعد جملة فيها معنى القول ، كقوله تعالى : ( فأوْحَينا إليه أَنِ اصنعَ الفُلْكَ ). والمراد بالمشي ليس المشي على الأقدام بل الاستمرار والدوام ، أي : دوموا على عبادةِ أصنامِكم واحبسوا أنفسكم على ذلك .
الثاني : أنّه ليس المرادُ الطلبَ حقيقةً ، وإنما المُرادُ الخبرُ، وعبَّرَ عنه بصيغة الطلب ، كما في قوله تعالى : ( ولنَحْمِلْ خَطَاياكم )، ( فليمدُدْ له الرحمنُ مدّاً ). وجرّاً : مصدر جَرَّهُ يجُرُّهُ ، إذا سحبه ، ولكن ليسَ المرادُ الجَرّ الحسّي بل المرادُ التعميم كما استُملَ السَّحْب بهذا المعنى ، أَلا ترى أنّه يُقال : هذا الحكمُ مُنسحبٌ على كذا ، أي : شامِلٌ لهُ . فإذا قِيلَ : ( كانَ ذلكَ عام كذا وهَلُمَّ جَرّا ) ، فكأَنَّه قيلَ : واستمرَّ ذلك في بقيةِ الأعوام استمراراً ، [ فهو مصدرٌ ]. أو : استمرَّ مستمِرّاً ، على الحال المؤكدة . وذلك ماشٍ في جميع الصورِ ، وهذا هو الذي يفهمه الناسُ من هذا الكلام . وبهذا التأويل ارتفع إشكالُ العطف فإنّ ( هَلُمَّ ) حينئذٍ خبرٌ ، وإشكالُ التزامِ إفرادِ الضمير إذْ فاعل ( هَلُمَّ ) هذه مفردٌ أبداً ، كما تقولُ : واستمرَّ ذلك ، أو : استمرّ ما ذكرته.