في الفرق بين زيارة الموحدين للقبور ، وزيارة المشركين
أما زيارة الموحدين : فمقصودها ثلاثة أشياء :
أحدها : تذكر الآخرة ، والاعتبار ، والاتعاظ . وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى ذلك بقوله : " زوروا القبور ، فإنها تذكركم الآخرة " .
الثاني : الإحسان إلى الميت ، وأن لا يطول عهده به ، فيهجره ، ويتناساه ، كما إذا ترك زيارة الحي مدة طويلة تناساه، فإذا زار الحي فرح بزيارته وسر بذلك ، فالميت أولى . لأنه قد صار في دار قد هجر أهلها إخوانهم وأهلهم ومعارفهم ، فإذا زاره وأهدى إليه هدية : من دعاء، أو صدقة، أو أهدى قربة . ازداد بذلك سروه وفرحه ، كما يسر الحي بمن يزوره ويهدي له . ولهذا شرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم للزائرين أن يدعوا لأهل القبور بالمغفرة والرحمة ، وسؤال العافية فقط ، ولم يشرع أن يدعوهم ، ولا أن يدعوا بهم ، ولا يصلى عندهم .
الثالث : إحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة ، والوقوف عند ما شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فيحسن إلى نفسه وإلى المزور .
وأما الزيارة الشركية : فأصلها مأخوذ عن عباد الأصنام .
قالوا : الميت المعظم ، الذي لروحه قرب ومنزلة ومزية عند الله تعالى ، لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى ، وتفيض على روحه الخيرات . فإذا علق الزائر روحه به ، وأدناها منه ، فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها . كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له .
قالوا : فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ، ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه ، بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره . وكلما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظهم ، كان أقرب إلى انتفاعه به .
وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرما . وصرح بها عباد
الكواكب في عبادتها .
وقالوا : إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية . فاض عليها منها النور .
وبهذا السر عبدت الكواكب ، واتخذت لها الهياكل ، وصنفت لها الدعوات ، واتخذت الأصنام المجسدة لها . وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها أعيادا ، وتعليق الستور عليها ، وإيقاد السرج عليها ، وبناء المساجد عليها . وهو الذي قصد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إبطاله ومحوه بالكلية ، وسد الذرائع المفضية إليه . فوقف المشركون في طريقه ، وناقضوه في قصده . وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في شق ، وهؤلاء في شق .
وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور : هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها ، وتشفع لهم عند الله تعالى .
قالوا : فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله ، وتوجه بهمته إليه ، وعكف بقلبه عليه . صار بينه وبينه اتصال . يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله . وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان . فهو شديد التعلق به . فما يحصل لذلك من السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق به بحسب تعلقه به .
فهذا سر عبادة الأصنام . وهو الذي بعث الله رسله ، وأنزل كتبه بإبطاله ، وتكفير أصحابه ، ولعنهم . وأباح دماءم وأموالهم ، وسبى ذراريهم . وأوجب لهم النار . والقرآن من أوله إلى آخره مملوء من الرد على أهله ، وإبطال مذهبهم .
قال تعالى: " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض " .
فأخبر أن الشفاعة لمن له ملك السموات والأرض، وهو الله وحده . فهو الذي يشفع بنفسه إلى نفسه، ليرحم عبده . فيأذن هو لمن يشاء أن يشفع فيه . فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له ، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له وأمره ، بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه وهي إرادته من نفسه أن يرحم عبده . وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم ، وهي التي أبطلها الله سبحانه في كتابه ، بقوله : " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة " وقوله : " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " وقال تعالى " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون " وقال : " الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع " .
فأخبر سبحانه أنه ليس للعباد شفيع من دونه ، بل إذا أراد الله سبحانه رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه . كما قال تعالى : " ما من شفيع إلا من بعد إذنه " وقال : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ، ولا الشافع شفيع من دونه ، بل شفيع بإذنه .
والفرق بين الشفيعين ، كالفرق بين الشريك والعبد المأمور .
فالشفاعة التي أبطلها الله : شفاعة الشريك فإنه لا شريك له ، والتي أثبتها : شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له . ويقول : أشفع في فلان . ولهذا كان أسعد الناس شفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد ، الذين جردوا التوحيد وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه ، وهم الذين ارتضى الله سبحانه .
قال تعالى : " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وقال : " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " .
فأخبر أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له ، وإذنه للشافع فيه . فأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله . فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه سبحانه علقها بامرين : رضاه عن المشفوع له ، وإذنه للشافع . فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة .
وسر ذلك : أن الأمر كله لله وحده ، فليس لأحد معه من الأمر شيء ، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده : هم الرسل والملائكة المقربون . وهم عبيد محض ، لا يسبقونه بالقول ، ولا يتقدمون بين يديه ، ولا يفعلون شيئا إلا بعد إذنه لهم ، وأمرهم . ولا سيما يوم لا تملك نفس لنفس شيئا . فهم مملوكون مربوبون ، أفعالهم مقيدة بأمره وإذنه . فإذا أشرك بهم المشرك ، واتخذهم شفعاء من دونه ، ظنا منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله ، فهو من أجهل الناس بحق الرب سبحانه وما يجب له . ويمتنع عليه . فإن هذا محال ممتنع ، شبيه قياس الرب تعالى على الملوك والكبراء ، حيث يتخذ الرجل من خواصهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج .
وبهذا القياس الفاسد عبدت الأصنام ، واتخذ المشركون من دون الله الشفيع والولي .
والفرق بينهما هو الفرق بين المخلوق والخالق . والرب والمربوب ، والسيد والعبد . والمالك والمملوك . والغني والفقير . والذي لا حاجة به إلا أحد قط . والمحتاج من كل وجه إلى غيره .
فالشفعاء عند المخلوقين : هم شركاؤهم . فإن قيل مصالحهم بهم . وهم أعوانهم وأنصارهم ، الذين قيام أمر الملوك والكبراء بهم . ولولاهم لما انبسطت أيديهم وألسنتهم في الناس ، فلحاجتهم إليهم يحتاجون إلا قبول شفاعتهم . وإن لم يأذنوا فيها ولم يرضوا عن الشافع . لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم . فتنتقض شفاعتهم لهم ، ويذهبون إلى غيرهم . فلا يجدون بدا من قبول شفاعتهم على الكره والرضا . فأما الغني الذي غناه من لوازم ذاته، وكل ما سواه فقير إليه بذاته . وكل من في السموات والأرض عبيد له، مقهورون بقهره ، مصرفون بمشيئته . لو أهلكهم جميعا لم ينقص من عزه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقال ذرة .
قال تعالى : " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير" وقال سبحانه في سيدة آي القرآن ، آية الكرسي : " له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وقال : " قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض " .
فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده، وأن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، فإنه ليس بشريك، بل مملوك محض . بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض .
فتبين أن الشفاعة التي نفاها الله سبحانه في القرآن هي هذه الشفاعة الشركية التي يعرفها الناس ، ويفعلها بعضهم مع بعض . ولهذا يطلق نفيها تارة ، بناء على أنها هي المعروفة المشاهدة عند الناس ، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد إذنه ، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه ، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع ، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة وقوله .
فمتخذ الشفيع مشرك ، لاتنفعه شفاعته . ولايشفع فيه ، ومتخذ الرب وحده الهه ومعبوده ومحبوبه ، ومرجوه ، ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده ، ويطلب رضاه ، ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع أن يشفع فيه .
قال تعالى : " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا " وقال تعالى : " ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون " .
فبين سبحانه أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم هم . وإنما تحصل بإذنه للشافع ، ورضاه عن المشفوع له .
وسر الفرق بين الشفاعتين : أن الشفاعة المخلوق للمخلوق، وسؤاله للمشفوع عنده ، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده، لا خلقا، ولا أمرا، ولا إذنا، بل هو سبب محرك له من خارج . كسائر الأسباب التي تحرك الأسباب . وهذا السبب المحرك قد يكون عند المتحرك لأجله ما يوافقه ، كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه ، وقد يكون عنده ما يخالفه ، كمن يشفع إليه في أمر يكرهه ، ثم قد يكون سؤاله ، وشفاعته أقوى من المعارض، فيقبل شفاعة الشافع . وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع ، فيردها ولا يقبلها، وقد يتعارض عنده الأمران ، فيبقى مترددا بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد، وبين الشفاعة التي تقتضي القبول ، فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح، فشفاعة الإنسان عند المخلوق مثله : هي سعي في سبب منفصل عن المشفوع إليه يحركه به، ولو على كره منه، فمنزلة الشفاعة عنده منزلة من يأمر غيره، أو يكرهه على الفعل، إما بقوة وسلطان، وإما بما يرغبه، فلا بد أن يحصل للمشفوع إليه من الشافع إما رغبة ينتفع بها، وإما رهبة منه تندفع عنه بشفاعته . وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه ، فإنه ما لم يخلق شفاعة الشافع ويأذن له فيها، ويحبها منه، ويرضى عن الشافع، لم يمكن أن توجد. والشافع لا يشفع عنده لحاجة الرب إليه، ولا لرهبته منه، ولا لرغبته فيما لديه ، وإنما يشفع عنده مجرد إمتثال لأمره وطاعة له . فهو مأمور بالشفاعة، مطيع بامتثال الأمر . فإن أحدا من الأنبياء والملائكة، وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة ولا غيرها إلا بمشيئة الله تعالى، وخلقه . فالرب سبحانه وتعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل . والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره . وهو في الحقيقة شريكه . ولو كان مملوكه وعبده . فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة . وغير ذلك . كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه من النفع بالنصر، والمعاونة . وغير ذلك . كما أن الشافع محتاج إليه فيما يناله منه من رزق أو نصر ، أو غيره ، فكل منهما محتاج إلى الآخر .
ومن وفقه الله تعالى لفهم هذا الموضع ومعرفته ، تبين له حقيقة التوحيد والشرك ، والفرق بين ما أثبته الله تعالى من الشفاعة وبين ما نفاه وأبطله ، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور .