| ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:21 pm | |
| فـــــ بسم الله أبدأ
الجزيرة الخضراء
حدث ذلك في حوالي عام 1393 م في جزيرة ( بوطان ) المعروفة اليوم باسم - جزيرة ابن عمر - تلك التي تقع على شاطئ دجلة , وتمتد فياتساع شاسع بين الهاب والتلال الخضر الواقعة في شمال العراق .
واسم هذه الجزيرةيتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها , اذ ننشعب بين ريض طبيعية بديعة , وينعكس اليها من شائر أطرافها بريق دجلة الذييحف بمعظم جهاتها , كما يزيد في روعة جمالها جبالها الشاهقة في جو السماء , التيتفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العالم , وتنتشر من حولها سرالخلود وآيات الجلال .وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأميرزين الدين ) , حيث كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهدالعثمانيين منقسمة إلى عدة إمارات , يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارةوالقوة .ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب ... بل كان يتمتع إلىذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان . والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه منامتلاكه العجيب لقلوب أمته , واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه , مما أذاع اسمه مقرونابالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها , بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها .ولميكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل , كقصور بقية الأمراء من أمثاله , وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع .. كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذوللتصميمه وتشييده وإقامة أبهته ..!ولم تكن في داخله أبهاء وقيعان فاخرة فحسب , وإنما كان يزدان أيضا بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر , وأنواع المجوهراتالغريبة والفاخرة ..!أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان .. وبمثل ذلكمن أجمل الجواري والفتيات ... يجبن في أنحائه , ويضفن على رحابه جوا سحريا يشعبالفتنة والجمال .غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أيواحدة من تلك اجواري والحسان , وإنما كانت سرا لدرتين شقيقتين غير كل أولئك . خلقهما الله في ذلك القصر ، بل في تلك الجزيرة كلها مثلا أعلى للجمال ، ونموذجاكاملا للفتنة والسحر الإلهي في اسمى مظاهرهما ، وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذاالإبداع العجيب في ذلك القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع ، ومبدع وصانع ، بأن الجمالإنما هو هذا ..! لا رصف الأحجار وفن النقش وصنعة التلميع ، هذه فتنة تبهر القلوبوتسكر الألباب ، وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار ، وشتان ما بينهما من فرق .ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين . كان اسم كبراهما ( ستي ) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة / قد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمهاعلى حدة ، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئا أبرع منالسحر وأبلغ من الفتنة .وأما الصغرى واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهانالدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختهاوأسمى .كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع ، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ،ذات عينين دعجاوين أودعهما الله كل آيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير .ولم تكن شقراء ، غير أن شعرها الاسود الفاحم - وقد أحاط كسحر الليل بوجههاالذي قسمت ملامحه أبدع تقسيم وامتزج فيه عند الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع - كان يثخن الألباب فتكا ويغمر العقل سكرا .وكانت لها الى ذلك كله رقة عجيبة فيروحها ، وخفة متناهية في دمها . فكانت في مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المال والخفةواللطف .وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلكالقصر عن معظم الأبصار ، فقد كان اسماهما ذائعين منتسرين في سائر أطراف الجزيرة بلفي كثير من بلاد كردستان ، يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال .وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحاأجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار ، لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي الزعامةفيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم ، مما يجعلهم يتحرجونمن اختلاط الجنسين ألا بمقدار ... هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا منهذه الغيرة بين جانبيه ، وزادها ما كانت تتمتع به اختاه من ذلك الجمال النادر الذيأبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الاخرى .. ولذلك فقد كانمن العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع ... وتسقطالأخبار عيد الربيع ( النوروز ( كان الوقت أصيلا ، والناس يودعون يوم 20 مارس ليستقبلو من ورائه ربيع سنة جديدة ، وكانت أعمالهم وحركات طرقهم وأسواقهم قد اتخذت مظهرا لنشاط جلي غير معهود . فقد كان عليهم جميعا أن يتهيئوا ويستعدوا للخروج مع صباح اليوم الثاني إلى ظاهر المدينة . ويقضوا بياض نهارهم فوق المهاد الخضر الوارفة، وعلى ضفاف دجلة وفي سفوح تلك الجبال . وذلك جريا وراء تلك العادة السارية في جميع أنحاء كردستان من الإحتفال في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع ويومه الجديد . فالطبيعة لها عليهم حق ومنة كبرى . ومن واجبها عليهم أن يحتفلوا بها في مولدها الجديد ، فينطلقوا جميعا من كبير وصغير ورجل وأنثى تاركين ورائهم كل آثار التصنع والتكلف التي تعج بها دنيا المدن والعمران ، الى حيث تلوح صفحات الإبداع الإلهي الساحر . فيخشعون لها وحدها ، ويظلون معها في نشوة ومرح إلى أن تتوارى عنهم شمس ذلك اليوم ... وكان مظهر هذا النشاط الملموح عاما في كل أرجاء الجزيرة وأطرافها ، لا سيما حول قصر الأمير . فقد كان على رجال القصر وحاشيته أن يفرغوا مساء ذلك اليوم من تنظيم منهاج لموكب الأمير الذي سيشرف بنفسه على مهرجان الربيع . وقد ينتهز الفرصة فيقوم أيضا برحلة إلى الصيد مع جمع من رجاله وحاشيته . أما داخل القصر ، فقد كان أهدأ ناحية فيه القسم الأعلى منه . كان خاليا تماما ليس فيه أحد إلا الأميرتان زين و ستي ، كانتا منحازتين إلى إحدى الشرفات ومتخذتين مجلسهما على بعض متكآت تلك الشرفة ترقبان ساعة الغروب ، وترنوان إلى الأصيل والآكام ، وعلى صفحة دجلة الذي يتشعب ملتويا حول معظم أطراف الجزيرة . قالت ستي : ’’ يبدو أنني لن أعثر على الرجل الذي أعجب به إلا أذا بلغ أثر جماله لدي مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمة وأثرها في نفسي ..‘‘ فأجابتها زين : ’’ ولكن ويحك إن هذا يعني أن يكون ذلك الرجل بالغ الذروة في الجمال . وأين تجدين من قد استقر فوق هذه الذروة ..؟ أم لعلك تحسبين أن الرجال كلهم يعيشون في قصر مثل قصرك هذا ، وينشؤون في مثل ما أنت فيه من نعمة ؟ ‘‘ قالت : ’’ ولكن لا بد عند البحث أن يوجد مثل هذا الرجل الذي أتخيله وأعنيه .‘‘ فأجابتها زين مستضحكة : ’’ ولكن كيف تستطيعين أن تبحثي عن رجل خيالك هذا ..؟ أم أنك قد أصبحت رجلاًً كالرجال .. تداخلينهم وتستعرضينهم في أنديتهم ومجامعهم حتى إذا ما عثرتي عليه أتيت به وركنت اليه ..؟!‘‘ فأطرقت ستي متكئة ، وهي تداعب خصلات من شعرها ، ثم هزت رأسها وهي تقول : ’’ أجل ، فالمشكلة إنما هي هذه فقط ...‘‘ وعادت إلى السكوت . وبعد قليل انفجرت زين بضحكة عاليه .. ثم أسرت إلى أختها قائلة : ’’ لقد وجدت لهذه المشكلة حلا فاسمعي ...‘‘ واعتدلت في جلستها، ثم دنت إلى أختها ، كأنما تخشى أن يسمعها أحد . وأخذت تقول : ’’ تعلمين أن غدا هو عيد الربيع ، وأن أهل الجزيرة كلها سيخرجون في هذه المناسبة إلى الحقول والرياض . ولا شك أن ذلك أجمل فرصة لما تفكرين فيه ..‘‘ فقالت : ’’ ويحك وأين الحل في هذا ..؟؟ فمتى كانت النساء يمتزجن بالرجال في مثل هذا اليوم الإمتزاج الذي تظنين ..! وهل تجهلين أنه ستكون لنا أمكنة خاصة من دون الرجال ، أم ..‘‘ فقاطعتها زين قائلة : ’’ ولكنني لم أقل لك الحل بعد . أريد أن أقول إن أحدا من الناس لن يبقى غدا في هذه المدينة ، وسيتلاقى كلهم في هذا الفضاء . فما علينا إلا أن نتأخر عن موكب القصر غدا متظاهرتين بفتور وانحطاط جسمي يمنعنا من الخروج ، حتى إذا خلا القصر خرجنا متنكرتين في لباس الرجال وهيآتهم ، ثم نندس في صفوفهم ولا شك أنهم سيحسبوننا من شباب القصر وغلمانه . وأكبر الظن أننا سننجح في الفكرة ، وسيتاح لكل منا أن تجد من بين مختلف شباب هذه الجزيرة الواسعة الأطراف من يروقها ويعجبها .. ‘‘ ولم تكد زين تعرض الفكرة على أختها حتى أعجبت بها، وسرعان ما اتفقتا على تطبيقها في الصباح الباكر . ثم أخذتا تتحدثان عن وسائل تنفيذ الفكرة وعما يجب اتخاذه حيال ذلك من تدابير .. غير أنهما اضطرتا أخيرا إلى قطع الحديث عندما تنبهتا إلى أن الشمس قد توارت في غيبها منذ فينة ، وإلى أن الظلام الذي امتد على سطح الجزيرة وتكاثف فوق بيوتها التي راحت تختفي عن الأعين مخلفة آثارها من الأضواء المتفرقة التي تشع هنا وهناك . وخشيتا أن يحوم حول مجلسهما ذاك من يسمع شيئا من حديثهما الذي ينبغي أن يكون سرا لا يطلع عليه أحد ، فطوتا الحديث ، وغادرتا الشرفة ، وأخذتا تتدرجان في الممشى الفسيح الذي يؤدي إلى البهو . وهناك رأتا بعض غلمان القصر فسألتاه : ’’ أخرج الأمير من الديوان أم لا ..؟؟‘‘ فأجابهما بأنه لا يزال في الديوان مع بعض رجاله ، يتحدثون عما يختص برحلة الصيد التي عقد عليها العزم مع بعض أصفيائة في صباح الغد . ثم حياهما بانحناءة وانصرف . فسرهما هذا النبأ ... إذ كان ذلك من جملة الأسباب التي ستيسر لهما النجاح في تنفيذ الفكرة التي اتفقتا عليها .. تلك الفكرة التي لم تكن سوى أثر لما تتمتعان به من الجمال النادر ، إذ كانتا تتصوران أنه لا يكافئهما إلا من كان في مثل ذلك الجمال أو نحوه . ولذلك فقد كانتا تتمنعان على كثير من الراغبين فيهما والطامعين بهما ، انتظارا للفتى المناسب .... ثم إنهما تبادلتا التحية .. وإنصرفت كل منهما إلى مقصورتها الخاصة ، على أن موعدهما الصباح ... وفي صباح اليوم التالي أشرقت شمس بوطان على أسواق خالية ، وميادين خاوية . . فقد خرج جميع من فيها يستجلون العيد الذي أقبل يحييهم من فوق مسارح الطبيعة الغناء التي انتشت وازدهرت من جديد بعد أن ظلت منكمشة متوارية شهورا عديدة تحت أعاصير الشتاء وركام الثلوج . كان الناس كلهم ينتشرون بين أجواء خمرية ساحرة ، تتهادى على ضفاف النهر الفضي .. وفوق الروابي الخضر ..المطرزة بأبدع نقوش الزهور ، وفوق سفوح ’’ جودي ‘‘ المفروشة بأبهى ديباجة من السندس المتألق . وكنت تنظر إليهم فتمتد بهم العين في الجهات الأربع ، ثم لا تكاد تبلغ النهاية . تراهم خليطا متضاربا من شتى الطبقات والأشكال والاتجاهات، قد امتزج فيهم الغني والفقير ، وتحاذى الصغير والكبر وتلاقى المثقف والجاهل . فيهم العاشق الذي جاء ليغمر جراح قلبه بكؤوس من خمر النسيان .. وفيهم الشاعر الذي أطرق خاشعا يرنو إلى الفتنة الحالمة ، يستوحي منها آيات الإلهام ، وفيهم الفيلسوف الذي أسرته الحيرة وملكه الذهول ، فهوى ساجدا لخالق هذا السحر والجمال ...!! ولا بدع .. فالطبيعة أمهم جميعا من دون تفريق ، تحنو عليهم حنوا واحدا وتبتسم لهم ابتسامة واحدة ، وتسقيهم حمياها من كأس لا تختلف . فلهم جميعا أن يثملوا اليوم برحيقها ويرقصوا في أحضانها ، وأن يجد كل في سرها دواء قلبه ، وعلى كل مظاهر الجمال الزائف وأشكاله المصطنعة أن تنتبذ عنهم إلى مكان قصي .. فالخمر هنا ليس إلا ما اعتصر من شذاها ، والجمال ليس إلا ما انعكس من بهائها ... ولكن أمرا واحدا غير هذا استطاع أن يلفت عقول الناس في ذلك اليوم في حيرة بالغة ، فقد كان في ذلك الجمع شابان لو أن تلك الطبيعة الخلابة استجمعت كل فتنها وسحرها ثم أرادت أن تقذف بجميع ذلك إلى الدنيا في مظهر شابين فيهما كل تلك الفتنة وذلك السحر لما استطاعت أن تجود بأبدع منها وأجمل ..!! كانا يثيران عواصف الدهشة لدى كل من يلمحهما مما آتاهما الله من ذلك الجمال الغريب ..!! وكان لا يمر أحد من أولئك الحشد إلا وقفة الذهول فترة .. كأنما يتسائل : من عسى أن يكون هذان الشابان اللذان لا يبدو فيهما شيئ من كثافة الدنيا ..؟؟ ألعلهما ملكان نزلا من سمائهما للمشاركة في هذا العيد ؟ !! أم هما توأمان لهذه الطبيعة الخلابة .. جسدتهما في مظهر هذين الشابين هدية إلينا وشكرا لاحتفائنا بها ..؟!! ولقد كان لهم في الواقع أن يعجبوا كل ذلك .. فإن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين ستي وزين ..! خرجتا تشتركان في ذلك الإحتفال بعد أن تنكرتا في لباس الرجال وأشكالهم ، ليسهل عليهما استعراض ذلك الجمع الحاشد الذي قد تجد فيه كل منهما فتى أحلامها ، والشاب الملائم لجمالها . بيد أن الأميرتين اللتين سحرتا الألباب لم تستطيعان العثور في ذلك اليوم على أي شاب بين ذلك الجمع الغفير يسحر لبهما ويحوز إعجابهما ..!! إذ كانتا تنظران إلى معنى الجمال بمقياسهما الخاص ، وتقدرانه بالنظر للمعجزة التي اختصهما الخلاق بها ! وأنى للمعجزة الخارقة أن تظهر هنا وهناك ؟ وكيف يتأنى للمثل الأعلى أن يتخذ مظهره في أفراد عديدة .. كأي شيء آخر غير معجز أو غريب ..؟! وهكذا ظل الناس بياض نهارهم ذاك يلهون ويمرحون على شطآن الأنهار وبين الورود والأزهار ، وفوق الآكام والتلال وتحت ظلال الأشجار ، إلى أن هب النهار ليدبر ، وأخذت أشعة الشمس تتقلص نحو المغيب ، وظهرت ظلال الروابي والأشجار شاحبة متطاولة بين الحشائش والأزهار ، وأخذت الشمس ترنو إليهم من فوق منحدرها صفراء ذاوية ، تحييهم تحية الوداع وتوقظهم من غمزة الخيال الحالم إلى مواجهة الحقيقة .. الحقيقة التي تطبع كل شيء بطابع الزوال والفناء ، وتحرمه من عظمة الخلود والبقاء . ومع تلك التحية التي راحت الشمس تلوح إليهم بها قام الناس جميعا منصرفين إلى دورهم . وعند الرجوع حيث كانت الطرق والشعاب تهدر بتلك الجموع من الرجال والنساء والولدان ، عائدين إلى بيوتهم ، وقد انحازت الأميرتان في سيرهما إلى طريق بعيدة قليلا عن زحام أولئك النساء اللواتي امتزجن مع الرجال في ذلك الطريق، حدث امر غريب ...!!! فقد انتبهت الأميرتان إلى أن فتاتين من بين ذلك الحشد تقبلان نحوهما في خطى متعثرة ووجهين مشدوهين ..! فأحرجتا .. ولك تشكا في أنهما فتاتين قد عرفتنا وألمتا بأمرهما . ولكن الفتاتين ما إن دنتا منهما حتى أصابهما ما يشبه الدوار ، وظلتا تتقدمان إليهما ، ثم وقفتا أمامهما ، وشخصت عيناهما في شكليهما ، ثم أخذت تترنح من كل منهما القامة ... ثم سقطت كل منهما على الأرض الواحدة تلو الأخرى ، في غيبوية كاملة عن الدنيا وما فيها ..! أما الأميرتان فقد انتابهما ذهول شديد لذلك وتعلقتا بمعرفة تينك الجاريتين ومن عسى تكونان .. ومن أي طبقة هما ..؟ ولكنهما خشيتا لأن تقفا قليلا إلى جانبهما للوقوف على سرهما ، فيلفت ذلك نظر الناس الذين يمرون على مقربة منهما ويجتمعوا عليهم .. فتظاهرتا بعد الانتباه إلى شيء غير طبيعي وأخذتا تواصلان سيرهما غير مكترثتين .. حتى إذا ابتعد الناس عن مكان الجاريتين وأدركتا أن الجموع قد تجاوزتهما عادتا أدراجهما خلسة إلى مصرعهما وقد داخلتهما رحمة وشفقة شديدة عليهما . ووصلتا إلى مكانهما .. وهما لا تزالان في غشيتهما تلك ، فجلستا إلى جانبهما تسرحان النظر في ملامحهما ، وتمعنان في شكل كل منهما وهيئتهما التي قد تكشف لهما الستار عن شخصيتهما ولعلهما تذكران أتعرفانهما أم لا ؟ .. ولكنهما لم تعرفا عنهما شيئا ، ولم تستطع إحداهما أن تتذكر أنها كانت رأتهما أو رأت واحدة منهما في يوم ما في أي مكان .! كانت على وجه كل منهما مسحة رائعة من الجمال مشوب بسيما الجلال ومعنى العزة . مما يدل على أنهما تتمتعان بمكانة ذات سمو ..! وكانت ثيابهما متشابهة في طرازها وشكلها ، مما يدل على أنهما شقيقتان أو قريبتان .. أما أناقة ذلك الهندام وبداعة وشيه وطرزه فقد كانت تدل دلالة واضحة على مبلغ النعمة التي تتقلبان فيها ..!! وأخذت الأميرتان ترنوان اليهما بعين من الأسى والإشفاق ، وهما مطروحتان فوق تلك الأرض ، وقد غمر كل منهما الإحساس في بحر لجي من الذهول المطبق . وليس من حركة فيهما إلا تنفس الصعداء الذي يمر في صدرهما جيئة وذهابا . وراح ذلك الإشفاق يستحيل تدريجا بقدرة خالق الأرواح إلى حب غريب غير مفهوم .!! وأخذت نظراتهما وهما جالستان إلى جانبهما في تلك البيداء تتسائل في عجب : أي روض ترى إخضر فيه هذان الغصنان ؟ وفي أي خميلة تفتحت هاتان الوردتان .!؟ أم أي الجداول والغدران أكسبتهما سحرها ؟!! ولم يطل جلوسهما .. فقد لمحتا على البعد فرسانا تجري بهم الخيول في بعض تلك الشعاب باتجاه المدينة . فأدركتا أنهم الأمير وصحبه عائدين من الصيد ، وتذكرتا أن من الأنسب عودتهما إلى القصر قبل وصول الأمير . فنهضتا تودعان الجاريتين اللتين لم تزالا في غيبة عن رشدهما ، بعد أن عمدت كل منهما إلى الخاتم النادر الثمين الذي يتلألأ في أصبعهما ، والذي نقشت عليه بوشي دقيق رائع من حجارة الماس والياقوت اسم صاحبته فألبسته إصبع كل من الجاريتين ، واستبدلتا به خاتمين بسيطين كانتا في يد كل منهما ، لينوب ذلك عنهما في التعبير عن تقديرهما والعطف عليهما ، ثم ليكون وسيلة لهما فيما بعد إلى معرفتهما والإهتداء إلى أصلهما . وهكذا مضت الأميرتان بعد أن استعاضتا عن الدر والألماس النادرين خرزا وزجاجا بسيطين
* عيدالربيع الذي أشار اليه الخاني هنا(أحمد الخاني هو كاتب القصه) ( هو عيد نوروز .. يحتفل به الأكراد والفرس فيالحادي والعشرين من آذار من كل سنة ... يحتفل به أبناء الشعب الكردي بالخروج إلىالطبيعة متزينين بالحلى الفلكلورية ...يعقدون حلقات الرقص والدبكات .. ويشعلونالنار التي ترمز إلى النار التي أشعلها ( كاوا الحداد ) قبل آلاف السنين معلنانهاية الظلم والإستبداد .. رمزا للنصر والتحرر .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:22 pm | |
| سر الجاريتين
لم تكن الجاريتان اللتان كان من أمرهما ما حدث منالصدمة والذهول امرأتان كما تبدوان ..! وإنما كانا شابين بارزين من رجال ديوانالأمير ! كان أحدهما ابن الوزير الأول اسمه ( تاج الدين ) ، وواحدا من أشقاء ثلاثةعرفوا من بين سائر الحاشية بالنجدة والشجاعة الخارقة ، واقترنت أسماؤهم في أنحاءالجزير كلها بالهيبة والإجلال ، وكان للأمير اعتماد بالغ عليهم في كثير من ظروفهالخاصة والمناسبات . وكان اسم أحد شقيقي هذا الشاب ( عارف ) والثاني ( جكو (وأما الآخر فكان أحد سكرتيرية الديوان يقال له ( ممو ) وكان الصفيالوحيد لتاج الدين من بين شقيقيه وسائر أصحابه ، قد جعل الله بينهما من المودةوالإخاء ما يندر اتفاق مثله بين أي أخوين أو صديقين . ولعل الذي جمعهما على ذلكالتحابب والإخاء ما عرفا به من تعلقهما الشديد للجمال . فقد كانا مولهين به ولهاعجيبا في كل صوره ومظاهره ، وكان يبلغ بهما التأثر بحقيقته مبلغا فوق ما هو معتادأو طبيعي ، كما كانا في شوق شديد إلى أن يلمحا ولو مرة في العمر هاتين الأميرتيناللتين ذاع جمالهما في معظم جهات كردستان وبقاعها .وقد كان هذا هو الذيدعاهما في ذلك اليوم إلى التنكر في لباس النساء وهيأتهن والظهور بمظهرهن ، فاستبدلكل منهما عن حلته بغلالة حريرية من أفخر أنواع الإستبرق ، وتمنطق في وسطه بمنطقةمزركشة من أفخر ما تحويه الغانيات الفاتنات . كما لف كل منهما على رأسه معجزا رائعاتتدلى من سائر حواشيه خيوطه الحريرية الناعمة ، وحبكه فوق جبينه حبكا فاتنا على نحوما تفعله فتيات الأكراد ، وترك خصلا من شعره الطويل تبرز من فوق الصدغين ، كأنهماسالفان رائعان يظهران من تحت ذلك المعجز البديع . ثم انطلقا يستعرضان الجمال في كلامظهريه ، مظهر الطبيعة الحالمة والمروج البديعة ، ومظهر الوجوه الفاتنة واللحاظالساحرة ، وكان أكبرهمهما هو استجلاء جمال تينك الأميرتين اللتين سحرتا الجزيرةباسميهما ، وما زالا منذ أمد بعيد يترقبان الفرص السانحة لرؤيتهما .وفيأثناء رجوعهما مع الناس كانا قد انتشيا بروح الجمال وثمل عقل كل منهما بخمره ، فكانلرؤيتهما في تلك الساعة فعل الطعنة القاضية التي صدعت قلبيهما . ولم يكن ذلك كلهليفقدهما الرشد والإدراك لولا أن حقيقة روحانية أجلَّ من ذلك ساورتهما وطغت علىمشاعرهما . كانت تلك الحقيقة هي الحب .. الحب الروحاني الخالص الذي يتسامى علىالإعتبارات الجسدية ، وتعالى فوق حقيقة الجنسية من ذكورة وأنوثة . فقد مس كل منكليهما سويداء قلبه ، وانطلق تياره الخفاق منبعثأ في كل مداخل الروح الأخرى التيكانت تعلقت بها منذ الأزل ، ثم ضلت عنه في منحدرهما إلى خضم هذا العالم المتلاطم ،حيث طفقت تبحث عنهما بين صور الطبيعة والأزهار . وتصغي إلى صوتها في غناء العنادلوالأطيار ، وتفتش عن مظهرها في الوجوه والأشكال ، إلى أن التقت بها اليوم بعد الشوقالمستعر والفراق الطويل . فلا غرابة أن تذهل الروح في تلك الساعة عن جسمها ، ولاعجب حينئذ للعين أن تشخص وللعقل أن يتبدد وللإحساس أن يغيض . ولا غرابة أن يتغلبالحب .. فيصرع ذينك الفارسين ويطرحهما كفراشة بين أذيال اللهب .وبعدهزيع طويل مضى من تلك الليلة ، استطاع الجسم أن يلفت إليه روحه ويستعيدها مرة أخرى، كما استطاع العقل أن يستيقظ ويؤوب إلى رشده .واستيقظ ممو وتاج الدينمن غيبوبتهما ليجد كل منهما نفسه منطرحا بين تلافيف ليل أسود مظلم قد توارت منسمائه النجوم ، في فلاة خاشعة لا تجوب على أرضها قدم ، ولا يرفرف في سمائها جناح . وقد أطبق عليهما جوٌّ من النسيان والذهول ، فهما لا يذكران شيئا مما حدث لهما ، ولايعلمان ما الذي طرحهما في تلك الأرض وما السبب في بقائهما هناك . غاية ما استطاع كلمنهما أن يشعر به في نفسه خفقان غريب في القلب ، وانهيار تام في الأعصاب وفتور عامفي القوى ، وخبل شديد في الذاكرة ..!!وبعد قليل نهضا في جهد ملموحوإرهاق واضح ليأخذ سمت طريقهما إلى المدينة حيث استطاعا أن يصلا إلى داخل العمرانبعد تحامل شديد وإعياء . وهناك حيا كل منهما الآخر وانصرف إلى بيته .ومضى يوم .. و يومان ... وما يقارب الإسبوع ..وكل من ممو وتاج الدينيقاسي آلاما غامضة تشتد ولا تلين !! وتزداد ولا تقل ، ويعاني شعوراً غريباَ لا يدرىسببه ولا يدرك تفسيره . وأخذ إحساس كل منهما بمظاهر الأشياء وصور الناس يختلف عنالأول اختلافا باديا ! فقد أصبح كل منهما يشعر بالوحشة من كل شيء ، ويحس بالملل منسائر ما كان يألفه . وكأنما كانت روح كل منهما تبحث في أعماق نفسه عن شيء عزيزافتقده ، وعن حقيقة ساميه لاحت لها ثم ضلت عنها ، ولكن ما هو ذلك الشيء ؟ ومتى أحسبه حتى يشعر بأنه افتقده ؟ كل ذلك كان سرا غامضا عنهما ، يحومان حوله ولا يستطيعاناختراقه . وكانت غرابة ذلك الشعور وغموض تلك الأحاسيس يجعلان كلاً منهما متحفظا عنالإفضاء بذلك إلى صاحبه ، ويشعره بحرج من بيانه وإيضاحه له ، إذ قد يذهب حديثهالغامض مذاهب كثيرة بصاحبه لتفسيره وكشفه ...غير أن تلك الآلام والمشاعرالمرهقة .. ما لبثت أن اتخذت مظهرها في صورة كل منهما وأوضاعه . فقد أخذ يبدو ذلكجليا في ذبول شكلهما وفتور نشاطهما وكثرة تفكيرهما . مما يسر لكل منهما أخيرا سبيلالإفضاء بأمره وعرض شكواه وأوجاعه على الآخر ولكن دون أن يفيدهما ذلك في استجلاءشيء من الحقيقة أو فهم سرها المكنون ، اللهم إلا ما يتبادلانه من المواساة ، ومايشعران به من الأنس ولو كان مجهولا مصدرها .وبينما كانا ذات يوم مجتمعينفي بعض خلواتهما ، إذ لمح تاج الدين في يد ممو خاتما من الجوهر النادر يتألق فيإصبعه ، فأمعن النظر فيه قليلا ، ثم قال : ’’ لقد كان علي أن أبارك لكهذا الخاتم البديع ، ولكني لم ألمحه في يدك قبل اليوم ، فمتى استحدثته؟‘‘فنظر ممو في أصابيع يديه ، وهو لا يدري شيئا عما يقوله تاج الدين ،ليجد في مكان خاتمه قطعة من الجوهر الثمين لم يكن قط شعر بها من قبل ! وسرعان ماعمد إليها فأخرجها من إصبعه وقد استولت عليه دهشة بالغة ، ثم أخذا يمعنان فيهباستغراب وتعجب . وفي تلك الأثناء انتبها إلى اسم ’’ زين ‘‘ منقوشا عليه بأجمل وشيمتألق من حجارة الماس والياقوت ، وقبل أن يبدي ممو عجبه لذلك الخاتم الذي لا يدريعنه أي شيء لاحظ بوحي الحالة خاتما مثله تماما في إصبع تاج الدين ..! وقد نقش عليه بمثلذلك الوشي والطراز اسم ’’ ستي ‘‘ .وغشيتهما الحيرة من جديد ، وازدادعليهما السر غموضا وأخذا يرددان في دهشة بالغة هذين الاسمين ’’ زين ‘‘ و ’’ ستي ‘‘ ، ولكن دون أن يتذكر أحد منهما من هما ستي وزين ...!!أما تاج الدين فقد كان يملك من الرشد ما لا يملكه ممو, فأطرق يفكر.. وأخذ يقدح عقله في محاولة تذكر هذين الاسمين اللذين يعلم متأكدا أنه قد سمع بهما كثيرا قبل اليوم,حيث هداه خاطره أخيرااللى أميرتي الجزيره...والى أ، أسم احداهما (ستي) والأخرى (زين) وهنا رفع رأسه إلىممو ، ونظر إليه كالمحموم قائلا : ’’ ويحك إنهما خاتما الأميرتين ... أميرتي الجزيرة ... شقيقتي الأمير زين الدين ...‘‘وعاد كل منهما يحملقفي الخاتم الذي بيده مرة أخرى ، ويمعن في نقشه وتألقه الرائع مما أكد لهما أنصاحبتيه ليستا سوى أختي الأمير .! ومن بين ذلك البريق المتألق أخذ سرهما الذي كانغامضا يجلو ويبين ، وذهبت ذاكرة كل منهما تعود أدراجها إلى الماضي .... الماضي الذيكان غيبا عنهما إلى تلك اللحظة .لقد تذكرا أنهما في يوم النوروز حاولارؤية هاتين الأميرتين ، ولكنهما لم يريا واحدة منهما بين الوجوه والأشكال . ثمتذكرا ساعة العودة .. وتذكرا أنهما لمحا في تلك الأثناء شابين لا كالشباب .. كانافي غاية الروعة والجمال .. وأنهما قد دنيا منهما ليعرفا من يكونان ... و ... إلىهناك توقفت الذاكرة بهما ! غير أنهما لم يشكا في أن شيء غير طبيعي قد حدث لهما إذذاك بسبب ذينك الشابين ، وأن الغشية التي حبستهما في الفلاة تلك الليلة كانت من أثرذلك الحادث ، ولا بد أن هذين الخاتمين قد وجدا لديهما منذ تلك الليلة . وأخيرااستطاعا أن يتأكدا من أن ذينك الشابين لم يكونا سوى الأميرتين اللتين كانا يبحثانعنهما ، وأنه قد قام لديهما أيضا ما كان قد قام في ذهنيهما من فكرة التنكر ... وإخفاء الحقيقة ... أما الخاتمان فلم يشكا في أنهما إنما تركتاهما في يديهماواستبدلتا بهما ما كان معهما لشعور جميل على الأقل بادلتاهما به .وبارتفاع الستار الذي كان حائلا دون فهمهما لتلك الآلام والاحساساتالتي كانت تساورهما ، شعر كل منهما براحة وانطلاقة هدأتا من حاليهما . غير أن ذلكالشعور ما لبث أن أوجد في نفس كل منهما تأثيرا مختلفا عن الآخر . أما تاج الدين فقداستطاع أن يتغلب بذلك على آلامه ، وأن ينشط ولو إلى حد من ذلك الارهاق الذي كانيعانيه . وكأنما كان معظم آلامه تلك آتيه من تعمي الأمر وغموضه عليه . وأما ممو فإنانقشاع الحقيقة بالنسبة إليه ما لبث أن أضرم جذوة ناره وزاد في دقات قلبه ، وكأنماكانت روحه قبل ذلك تائهة عن الطريق الذي اهتدت إليه ، ضالة عن الذات التي شغفت بها . أما اليوم وقد إتضح كل شيء ، وظهر انسان تلك الروح ، فهيهات منها الهدوء ما دامتبعيدة عنه ، وهيهات أن لا تثور وتضطرب إلا بعد أن تلقاه وتركن إليه .وشعر تاج الدين بمعاني الأسى بادية في مظهر ممو فنهض اليه ، وألقى بيدهعلى كتفه قائلاً : ’’ إسمع يا صديقي : إن من الامعان في الخطأ أن نسلمأنفسنا إلى اضطرابات من هذا النوع ، فلن تكون النتيجة بعد ذلك سوى استفحال تأثيرهاواشتداد وطأتها . ولا ريب أن ذلك ليس مناسبا لمثلي ومثلك ... فكلانا في هذا البلدمعروف بالجلد والإقدام وكل منا تعرفه هذه الجزيرة بالبطولة والعزم والبأس ، فماذاعسى أن يكون أثر هذا الذي نعانيه في سمعتنا إذا عرف ذلك غداً بين الناس ؟؟ وماذاسيلحق بنا إذا تسامع الناس بحديثنا ... وكيف أننا ونحن أولو العزيمة والشجاعةوالبأس قد تخاذلت عزيمتنا وانهرات شجاعتنا وتبدد بأسنا بسلاح امرأتين وقوتهما فقط ..؟؟ فلينهض كل منا من فراش هذا الفتور ، ولنمط عنا رداء التوجع الوهمي الذي إنماأسبلناه نحن على نفسنا ولنتذكر أننا أشداء ... وأنه لا يمكن للوهن أن يتخذ طريقهإلى نفوسنا ..‘‘ولكن ممو لم يكن يبدو عليه أنه يعي شيئا مما يقوله تاجالدين ، فقد كان واضحا أنه كان يقاسي آلاما عنيفة جلية في خفقات قلبه الظاهرةوعينيه المخضلتين . كان الاسم الوحيد الذي يردده هو ’’زين ‘‘ ،وكان الشيء الوحيدالمنتبه إليه هو الخاتم الذي في يده . فقد كان مرة يحملق فيه ، وأخرى يقبله ويظلضاماً عليه شفتيه . وأخيراً نظر إلى تاج الدين وقال له : ’’ أخي : إن هذا الذي تحدثه الآن ليس ذلك الذي عرفته ، إنما هو اليوم انسان آخر ، فلاتبحث فيَّ عن شيء مما تسميه البأس والجلد والعزم . فقد والله فقدت كل ذلك ، وليسالذي تراه الآن إلا جسما متهلهلا قد عشش الألم في كل نقطة منه . وقلبا متأجاجاًتتقد فيه نار لا تعرف هولها ، أما الراحة والطاقة والجلد والصبر ، فقد انتهت علاقةكل ذلك من سائر جوارحي وجسمي فدعني على الأقل أستقبل قدري إن لم تكن تشعر بالمعذرةلي ..‘‘ولم يكد تاج الدين يسمع هذه الكلمات من ممو حتى أيقن أن الأمر قدتجاوز به إلى حالة لا تغني فيها النصيحة والإرشاد ، وامتزجت في سائر مشاعره رقةشديدة من أجله لم يستطع حيالها إلا أن يعتصم بالسكوت .
عجوز القصر
ولنترك الآن حديث ممو وتاج الدين لنعود إلىالقصر ونعلم ما الذي كان من أمر ستي وزين ، فلقد رجعتا في تلك الليلة أدراجهما إلىالقصر ، واستطاعتا دخوله دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتيهما . ودون أن يرتاب أحد منالحجاب في أنهما من بعض الغلمان الحسان في القصر .وما إن تجردت كل منهما من ذلكالمظهر الذي تنكرتا فيه وجلستا تستريحان من النصب الذي لحقهما في ذلك اليوم حتىأخذت كل منهما تشعر بقلق واضطراب واضحين في نفسهما ، ولم تكن إحداهما تعرف شيئا عنسر ذلك القلق أكثر من أن له اتصالاً بتينك الجاريتين اللتين حدث لهما ذلك الشأنالعجيب . فقد كان منظرهما ، وهما على تلك الحالة من الذهول وعلى وجهيهما تلك المسحةمن الجمال المشوب بسما الوقار - ملازما لخلدهما . وكانت تتضافر على ذلك عدة عوامل ،بعضها غرابة ذلك الحادث الذي أصابهما ، وبعضها التطلع إلى معرفة حقيقتيهما ومنتكونان من الناس ، وبعضها ذلك الشعور الغريب الذي أخذ يساروهما نحو تينك الجاريتينالمجهولتين من حنان وإعجاب بل وحب آخ في الزيادة والإشتداد رغم أنهما امرأتانمثلهما على ما تظنان وتحسبان .وهكذا أخذ التفكير في الجاريتين يستولي تدريجياعلى خيال كل منهما ، وبدأت تلك الأحاسيس تسيطر على قلبيهما ، فلم تكونا توجدان إلامختليتين في بعض غرف القصر أو جهاته تتهامسان في هذا الشأن وتتبادلان إفضاءخلجاتهما النفسية حول ذلك .غير أنه لم يستطع أحد من سكان القصر رغم ذلك ملاحظةحالهما تلك سوى مربية عجوز لهما يقال لها ( هيلانة ) . كانت هرمة مسنة ، غير أنهاأقوى من الدهر في مكره ، وكانت متغضنة الملامح باهتة الشكل إلا أن ذكائها كان فتيايلتهب . فقد أخذت هذه العجوز تلاحظ أن حالة طارئة تطوف بهما منذ اليوم الذي خرج فيهالناس إلى مهرجان نوروز ، ومضت تراقب فيهما تطورات تلك الحالة التي لك تلبث أناتخذت مظهرهما في كثير من أوضاعهما وأحوالهما !وفي صباح ذات اليوم استأذنتعليهما فوجدتهما مطرقتين ذاهلتين ، وقد أخذ التفكير منهما كل مأخذ ، وتجلت مظاهرالحيرة والأسى على وجه كل منهما ، فدنت إليهما ، وجثت على مقربة منهما ، ثم قال : ’’ بروحي يا أميرتيَّ الصغيريتين فديتكما ، وجعلت الله ربي حافظا لكما ،فأنتماعين كل انسان ، وحبة الشوق لكل فؤاد . يخيل إلي أن هذا القصر قد كمد بعضبريقه وتوارى من أنحائه الكثير من أنسه منذ اليوم الذي خرجتما فيه لمهرجان الربيعثم عدتما بما تحملان من هذا الإطراق والتفكير والذبول .!! فهل لي أن أسأل عن السرالذي طواه مقدمكما ، أو عن الخمرة التي تسببت كل هذا في ذهولكما ؟ فقد أستطيعمعونتكما في شيء إذا كان مستعصيا ، أو استخدام تدبيري وسحري إن كان خافياً ‘‘.فنظرت كل من ستي وزين الواحدة منهما إلى الأخرى ، كأنما تتشاوران في إفضاءالأمر إليها . ثم قالت إحداهما : ’’ إن كل ما حدث لنا أننا أصبنا - على ما يبدو - منذ ذلك اليوم بضيق وكرب لا ندري لهما سببا ، ويبدو أن شيئا بسيطا من أثر ذلك لايزال يساورنا .. ‘‘فأدركت هيلانة أنهما تحاولان كتم الأمر عنها . ودعاها ذلكالإدراك إلى ظن أن يكون الأمر حبا أو غراما انعقدت نواته لديهما في ذلك اليوم . إذكثيرا ما يحدث فيه أن يتصادف الشباب والفتيات وتتبادل الألحاظ مظاهر الفتنة والجمال، ويحصل التعارف والتعلق ... فدنت منهما ، ثم أخذت تقول لهما : ’’ يبدو أنكما ياأميرتيَّ لا تعلمان بعد مبلغ ما آتاكما الله من سحر وجمال ، وأنكما تجلسان منه علىعرش عز على الدنيا كلها أن تجد لكما فيه نظيرا ، وإلا لأدركتما أن كل جمال في هذهالجزيرة خاشع منحن أمامكما حتى تثيرا الحيرة من أجله وتذكيا نار القلب من ورائه ؟وهلا أخبرتماني عنه حتى تعرفا كيف يأتي أسيرا في قيود الهوى ، ذليلا تحت سلطان هذاالسحر ؟!! ‘‘ .فأجابتها ستي : ’’ ليس هذا الذي تظنين أيتها الخالة هو السببفي حيرتنا ... إنما السبب في ذلك شيء آخر ... كنا نود أن نستطيع إيضاحه والإبانةعنه حتى تعالجيه لنا بدهائك وتدبريك . ولكنه لغز ... لغز مقفل من كل جوانبه لا نفهمشيئا عنه . كل ما نستطيع بيانه هو أن نقول لك القصة التي جرت ... والأمر الذيرأيناه ...‘‘وهنا تبسطت العجوز في جلستها ، ومدت وجهها نحو ستي بعد أن أسندتأسفله إلى كفها قائلة : ’’ حدثيني يا ابنتي عن القصة .. فلا بد لي إن شاء اللهمن كشف سرها وحل لغزها ..‘‘ ومضت تحدثها ستي القصة قائلة : ’’ بينما كنانمشي في ذلك اليوم ... يوم الربيع بين المروج والرياض ، إذ فاجأتنا غادتين لم نرمثلهما لطفا وجمالا تقبلان نحونا في لهفة بادية وبخط متعثرة . حتى إذ أصبحتا علىمقربة منا إذا بعاصف من الذهول الشديد يعصف بهما ويطرحهما في جانب من تلك الارض ... ودنونا إليهما لننظر في شكليهما ونستكشف شخصيهما ، ولكننا لم نستطع أن نفهم عنهماشيئا ، فقد كانتا تبدوان غريبتين في زيهما وملامحهما .ووقفنا فترة أمام منظرهماوهما في تلك الغيبوبة وقد سرى تأثير شديد منه إلى نفس كل منا ، وشعرنا بروحين سرعانما طافتا حول قلبينا ثم استقرتا في سويدائه ... فإذا بهما يخفقان بمعان كثيرة منبعضها الحنان والحب .كانتا تبدوان أيتها الخالة كأبدع كآسين صافيين ، وإن كنانحن الخمر التي تترقرق فيهما ، بل كانتا كأجمل مصباحين مضيئين وإن كنا نحن النورالمتوقد من ذبالتهما . بل كانت في شكل أزهى مرآتين وضيئتين ، وإن كنا نحن الشمسيناللتين تشعان منهما .ثم تركناهما أيتها الخالة على تلك الحالة ومضينا ... دونأن نعلم ما الذي تم بشأنهما . بل لم ندر أكان ذلك حقيقة أم رأته أعيننا ، أم حلمامن أحلام تلك الطبيعة صورها لنا خمرها ؟!! ‘‘.فأطرقت العجوز برأسها تحملق فيالأرض وقد أدهشها ما سمعت ، ثم نظرت إليهما وقالت : ’’ بل أظن يا أميريتيالصغيرة أن ذلك كما قلت حلما من أحلام الطبيعة .. أما أنه كان حقيقة رأتها عيناكما، وأما أنه يقينا قد تعلق قلباكما من كل ذلك الجمع الحاشد من الشباب والفتيان بتينكالجاريتين المجهولتين . فذلك أمر مستحيل أو لعله واقع كما تقولين ، ولكنكما تمنيتمامثل تينك الجاريتين أطفالا لكما . لا أنكما شغفتما بهما حبا من دون الرجال .منالذي - يا بنيتي - يصدق أن المرأة يتم جمالها إلا إذا كان الرجل هو مرآة ذلك الجمال، ومن الذي يصدق أن الرجل يمكن أن يكون لجماله معنى لو لم تأت المرأة لتضع فيه ذلكالمعنى ؟ وهل أثبت جمال ليلى وفتنة حسنها لو لم ينعكس إليها تاج ’’ خاسرو ‘‘ وسلطانه !! وهل سمع أحد في الناس أن زهرة قد افتتنت بالزهر أو أن بلبلا غنى فوقأعشاش البلابل ؟؟!لا يا أميرتيَّ الفاتنتين ، ليس هذا الذي تقولانه إلا وهما منالخيال أو حلما من الأحلام . فلا تدعا للوهم والأحلام مجالا إلى قلبيكما ...‘‘.فابتدرتها زين قائلة : ’’ ولكنك قلت لنا أن لديك من التدبير والعزائموالدهاء ما تستطيعين الكشف به عن كل لغز وخافية . فهلا استعملت شيئا من ذلك في حلهذا اللغز .. أم يبدو أن عزائمك قد خرفت وتقدم بها السن ، فلم تعد تصلح لشيء .أما أن حديثنا هذا خيال أو وهم فليس كذلك ، وما هو والله إلا الحقيقة التيشاهدناهما بأعيننا ، ولقد دخل حب تينك الجاريتين في قرارة قلب كل منا . وسواءأكانتا في الحقيقة ملكين أو شيطانين أو امرأتين ، فإن عندنا منهما هذا البرهان الذييؤكد أن ما رأيناه حقيقة لا خيال ، وهو هذان الخاتمان اللذان سللناهما حينذاك منإصبعيهما ليكونا عونا لنا في البحث عنهما ‘‘ .وعمدت إلى الخاتمين فألقت بهماإليها .فتلقفتهما العجوز ، ومضت تحملق فيهما وتقلبهما وتمعن في شكليهما ، ثمهزت رأسها وقال : ’’ أما الآن فأستطيع أن أفهم شيئا مما تقولان ، وأستطيع أنأقول لكما إني عثرت على خيوط هذا السر الذي لا بد لي من كشف قناعه . ولكن لا بدلذلك لي من مهلة ، ولا بد أيضا من بقاء هذين الخاتمين لدي ‘‘..فأجابتاها إلىذلك بشرط أن تحافظ عليهما محافظة شديدة ، وأن تكتم الموضوع كتمانا تاما عن كل واحد .ثم إنها قامت عن مجلسهما بعد أن نفحتاها قسطا كبيرا من المال ، ووعدتاهابالمزيد عند نجاحها في المهمة .وإن هو إلا أمد قصير حتى كانت العجوز قدأوصلت نفسها إلى شيخ هرم في بعض أجزاء الجزيرة أمضى حياته كلها في علوم الحرفوحسابه ، حيث نقدته دينارا ، ثم جلست إليه تقول : ’’ لي طفلان يتيمان أيها الشيخهما سائر ما بقي لي من أمل في الحياة خرجا مع هؤلاء الناس - بحكم طفولتهما - إلىالفلاة في يوم عيد الربيع وهما بكامل وضعهما الطبيعي وعلى أحسن ما يكونان رشداوعقلا ، فلما جاء المساء عادا إلى البيت وقد تشعثت هيأتهما ، وتمزق لباسهما ،ذاهلين لا يملكان وعيا ولا إحساسا ، مشدوهين كأنما قد أصيبتا بمس في عقليهما . وهما - أيها الشيخ - إلى هذه الساعة على هذا الوضع الغريب الذي لم أفهم له تأويلا .ولقد جئتك بخاتمين لهما ، لم ألمحهما في يديهما إلا منذ ذلك اليوم - ويخيلإليَّ أن فيهما سر الخمرة التي أودت بعقليهما إلى هذا الذهول - لكي تستعين بهما فياستخدام طاقتك لاكتشاف حال هذين الطفلين وبيان حقيقة هذا البلاء المتشبث بهما ، أهوصرع وجنون .. أم خمر هو وعشق .. أم هو ماذا ؟؟!! ذلك رمز ألقيته إليك أيهاالشيخ فافهمه . وهناك سر دفين في هذين الخاتمين فاعلمه . وحسبك أن ترشدني إلىصاحبيهما ، وتنبئني أهما ملكان يجوبان السماء ، أم شيطانان تحت الطوايا السبع ، أمبشران مثلنا فوق أديم الأرض ؟! ‘‘ .فأخذ الشيخ الخاتمين ، ثم أكب على دفاترهوحسابه ... وأخذ ينهمك مرة في الحساب والترقيم ، ومرة في الإطراق والتفكير .وبعد قليل رفع رأسه إلى العجوز ، وأخذ ينظر إليها بعينين ذاويتين قد تغضن ماحولهما قائلا : ’’ أو لا بد من كل هذا الكذب والتزوير أيتها الماكرة العجوز ..؟تقولين طفلاك اليتيمان .. فهلا صدقت وقلت الدرتان اليتيمتان والغادتانالنادرتان ؟ وتقولين صرع .. ومس .. وجنون .. فهلا أوضحت الحقيقة التي هي مس الروحللروح ، وتعلق قلب بآخر ؟أما هذان الخاتمان ، فليس صاحباهما ملكين في السماءولا شيطانين من الجن ، ولكنهما شابان معذبان ضاع قلباهما منذ ذلك اليوم المشهودوراء هاتين الغادتين اللتين تقولين عنهما ، طفلاك .‘‘.فهز رأسه مطأطئا وهو يقول : ’’ من غير شك .‘‘ .وهنا دنت إليه العجوز وقالت : ’’ ولكني كنت أود أنأعرف من أي الناس هما ؟ وكيف العثور عليهما ؟ ألا قل لي أيها الشيخ وأوضح ، فإن لكعندي فوق ما تريد إن أنت كشفت الستار عنهما ، أو أرشدتني إلى جهتهما ومكانهما .‘‘.فقال لها : ’’ أما هذا فليس لي إلى فهمه سبيل ، وكل ما وراء الذي أخبرتكعنه لا يمكن الخوض في شيء منه إلا بالحدس والتخمين . غير أني أستطيع إرشادك إلىحيلة قد تنفذين منها إلى معرفتهما والإجتماع بهما ، وهي أن تنطلقي في شكل طبيبةماهرة فتطوفي بمختلف أنحاء هذه الجزيرة وبيوتها ، وتلفتي الأنظار بلباقة وبراعة ،إلى أنك ذات خبرة ودراية بمختلف الأمراض النفسية والجسمية ، وأن لديك الوسائلالمختلفة لمعالجة مثل هذه الأمراض وماواتها . فلا ريب أن هذين الشابين معذبين اليومولا ريب أنهما إذ يسمعان بأمرك يستدعيانك لشأنهما ومعالجة أمرهما . ‘‘.فأعجبتالعجوز بهذا الرأي . ثم أعطته دينارا آخر ، وشكرته وانصرفت . | |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:24 pm | |
| الطبيبة السائحةلم تعد العجوز هيلانة - بعد مغادرتها لذلك الشيخ - إلى القصر ، وإنما بادرت في إعداد العدة وتهيئة الوسائل لكي تصبح طبيبة . وبعدحين أصبحت ذات منظر جديد وشكل غريب ... حيث ارتدت فوق ثيابها رداء سابغا فضفاضا قدشق من أمامه فبدا من تحته ما علقته على كل من جنبيها من الحقائب التي ملأت بعضهابزجاجات وعقاقير . .. وحشت بعضها الآخر مباضع وهنات مختلفة من كل ما يحتاج إليهالطبيب الماهر .. ثم استوت على ظهرها وانطلقت تطوف بالأحياء ، وتؤم المجالس والبيوت، تتسمع خبر أي مريض مطروح أو متألم موجوع ، لكي تأخذ طريقها إليه متبرعة بمعالجتهومواساته . وهكذا بدأت توحي إلى الناس بأمكر أسلوب مبلغ ما اوتيته من براعة فيفن الطب بمختلف أنواعه... ولم تمض سوى برهة حتى كان اسمها قد انتشر في كثير منأنحاء الجزيرة ، وتسامع الناس بأن عجوزا سائحة قد وصلت إلى الجزيرة ، تعالج أنواعالامراض والأدواء المختلفة بمهارة فائقة . وكان ممو وتاج الدين إذ ذاك قد سائت بهماالحال أكثر من الأول وأصبح كل منهما نهبا لأفكار وآلام متواصلة مما لفت إليهماأنظار ذويهما بل معظم أصحابهما ولكن دون أن يعلم أحد بحقيقة الأمر أو يدرك شيئا مماحدث لهما . ولم يكن - في الواقع - منشأ تلك الآلام والأفكار واحداً بالنظراليهما ، بل كان مختلفا إلى حد بعيد . أما ممو فقد كان السبب في ذلك زيادة تعلقهوتفاقم وجده .. فلم يكن يقر له قرارا أو يلين لجنبه مضجعا منذ عرف أن التي ضاععندها رشده إنما هي أميرة الجزيرة .. ومنذ أخذ يفكر كيف أن تلك الغادة الحسناء رأفتبقلبه ورقت لحاله ، فتركت خاتما الدري في يده لكي ينوب إشراقه عن ابتسامتها عندمايغيب طيفها عنه ، ولكي يقوم مقامها في مواساته إذا تلظى منه القلب . كان ذلكالتفكير يستحيل نارا تتقد في أحشائه وتسعر كل مشاعره وأحساسيه ، وكانت تزداد ثورةهذه الآلام في نفسه حينما يقعد ليفكر في شخصه وفي مركزه البسيط الذي لا يجعله اهلالأن يتقدم إلى الأمير زين الدين لخطبة أخته . بل لا يعقل من الأمير أن يقبل مثلهصهرا له من بين مختلف أفراد حاشيته ووزرائه . فكان ذلك يزيد في آلامه مرارة اليأس , ويسلمه إلى زفرات طويلة تكاد تشق صدره . أما تاج الدين فعلى الرغم من أنه أيضاكان متعلق القلب بصاحبة الخاتم الذي في يده ومنصرفا بمشاعره نحوها إنصرافا تاما ،إلا أنه لم يكن يقاسي في ذلك مثل آلام ممو وثوراته النفسية . ويبدو أن السبب في ذلكهو أنه كان ذا أمل قوي في الوصول إليها ، ولم يكن يخامره شك في أن الأمير لن يترددفي قبوله صهرا له .. فهو ابن وزير الديوان ، وهو أحد أشقاء ثلاثتهم عمدة الأمير فيكثير من الظروف والاحوال ، والأمير نفسه يدرك أن مصلحته تقضي بإكرامهم وتقريبهم منه . ولكن تاج الدين كان يعاني أفكارا أخرى تؤلمه وترهق مشاعره إرهاقا شديدا ، ولايهتدي إلى مخلص منها ! فقد كان ممو كما قلنا صفيه الوحيد من دون الناس كلهم ، وكانينزله من قلبه منزله شقيقه .. بل أسمى من ذلك وأعظم .. ولم يكن يخفى عليه ما يقاسيهمن وجد وتحرق ..فكان يقعد ليفكر في أن مركزه كسكرتير للديوان لا يؤهله لأن يتقدمإلى الأمير بطلب يد أخته منه ، ولكن لا يعقل أيضا أن يمضي هو متنعما بمراده تاركاخليله الوحيد وراء ظهره يتقلب في ناره . فكيف التدبير وما العمل ؟! .. أيضحي بقلبهوسعادته من أجل صديقه ممو ويظل إلى جانبه يواسيه ويقاسمه ضره ؟ أم يبحث عن سبيللإمكان وصولهما معا إلى أمنيتهما المنشودتين ؟ ولكن كيف العثور على هذا السبيلالخفي الشائك ؟؟!! .. وهكذا أضحى كلا الخليلين مظهرا للقلق والتفكير الدائم مماجعلهما محورا لتفكير الاهل والأقربين ، والحيرة في شأنهما . وذات أمسية ، وبينماكان ممو و تاج الدين جالسين في ركن من قاعدة الضيافة التابعة لدار تاج الدين وشقيقهمع زمرة من الأهل والأصحاب يتسامرون ، مرت من أمامهم الطبيبة العجوز وألقت التحيةعليهم ، وكانو قد سمعوا باسمها وتذاكر معظمهم في استدعائها لعرض حالة ممو وتاجالدين عليها ، فردوا عليها التحية وطلبوا إليها الجلوس معهم بعض الوقت . وبعد أناستقر بها المجلس سألها عارف قائلا : ’’ من أين أنتي ايتها الخالة وما شأنك ؟‘‘ . - ’’ أما أنا فمن قرية صغيرة تقع وراء لك الجبل وتبعد عنه قليلا ، وأما شأنيطبيبة أسيح في أنحاء البلاد لإغاثة المرضى ومعالجة شوؤنهم ..‘‘. - ’’ وما هيالأمراض التي تعالجينها ؟؟ ‘‘ . - ’’ الواقع أنني اشتهرت في المهارة في معالجةالأمراض النفسية والروحية فقط .. غير أني استطيع بحكم مراني الطويل معالجة غير ذلكأيضا من الأمراض البدنية ..‘‘. وهنا فاجأها تاج الدين من ركن بعيد في المجلسقائلا : - ’’ مذا تعرفين من الأمراض الروحية ايتها الطبيبة ؟؟ ‘‘ . فالتفتتالعجوز صوبه واخذت تلحظه بعينيها الضعيفتين حينما كأنما تريد أن تعرف من هو هذاالذي يسأل عن الروح وأمراضها . ثم قالت له وقد خالها شك في أن يكون هذا أحداللذين تبحث عنها : -’’ أعرف يا ابني من هذه الأمراض أنواع كثيرة ، كنت قدعالجتها في كثير من الناس ، فهل تشكو - لا سمح الله - شيئا منها ‘‘. وقبل أنيجيبها تاج الدين بادرها ممو قائلا : -’’ ما هو أشد أنواع هذه الأمراض أيتهاالخالة ؟؟ وهل لكي أن تصفيه لنا وتحدثينا عنه ؟ ‘‘. فنظرت اليه وقد قوي شكهاوغلب على ظنها أنها أمام ضالتيها المنشودتين . ثم تنهدت بعمق وقالت له : ’’ أشدأنواع هذا المرض يا بني ، نوع - لا أذاقك الله إياه - يسري من الألحاظ . ويسلكطريقه في الألحظ .. ثم يتخذ مستقره في القلوب . هو في أول أمره رعدة في المشاعر ،ودقات بين ألواح الصدر ، وتلون على ملامح الوجه . فإذا نمى وترعرع فهو برق يستعروميضه في الأحشاء ، تتلظى الجوانح بناره من غير لهب ، ويشوى الفوائد في وهجه من غيرجمر . ثم إذا استقر وتمكن فهو نهش وفتك لسويداء القلب ، يجرحه بلا مبضع ، وينزعه منغير سنان . فهناك يشخب دمه منهمرا من العينين ، ويذوب الجسم بين بوتقة الحشا وزفراتالصدر . وهناك لا يغني الطبيب ولا عقاقيره ولا يجدي سوى أن تتضامن الروح وتتطأالنار ببرد الوصال ‘‘ . وسكتت العجوز هنا .. فقد لاحظت نشيجا قويا بدا يتعالى منصدر ممو الذي لم يعد يملك دموعه ، واصفرارا شديدا تلطع به وجه تاج الدين الذي أطرقذاهلا ، واتفتت إلى بقية الجالسين وقد خشعت ملامحهم ، وداخلتهم رقة شديدة من أجلذينك المسكينين الذين لم تعد تشك في أنهما ضحيتا الأميرتين في اليوم التاريخيالفائت . ثم أنها قامت من مكانها تؤم الركن الذي كانا يقبعان فيه وربتت علىكتفيهما قائلة: ’’ لا بد أنكما يا ولدي تعانيان مجهودا أو ألما من هذا النوع ،ولكن لاضيرعليكما ، فإن دوائكما عندي ‘‘. ثم توجهت إلى بقية الحاضرين وقالت : -’’ لا بد لي من تشخيص أمر هذين الشابين ، ولابد أن يكون ذلك على خلوة معهما ،فهل أستطيع أن التمس منكم الموافقه على ذلك!! ‘‘ . وبعد قليل .. كانت الغرفة قدأصبحت خاليه إلا من المريضين .. وطبيبتهما التي أخذت تسرح فيهما وتقلبه لتجد شابينرائعين لم يتخطيا ربيع العمر ، تبدو على مخايل كل منهما معاني العز والمجد ، إلىجانب ما يظهر في شكليهما من سيما الروعة والجمال ، على الرغم مما اصطبغت به ملامحمامن مظهر الكآبة والإنكسار . وبعد أن مضت تواسيهما مستدرجة لهما في الحديث عنشأنهما وقصتهما إلى أن فهمت كل شيء ، فابتسمت قائلة : ’’ ليطب خاطركما يا ولديولتقرعيناكما فما أنا والله إلا رسولا من أميرتي بوطان إليكما لأسري عنكما وأواسيجرحكما ، وها هو ذا خاتم كل منكما ... ولم تكد العجوز تنطق بهذه الكلمات وتمديدها لتريهما الخاتمين حتى دار بكل منهما فضاء ، وغشيتهما موجة شديدة من الذهول لميستطيع ممو أن يثبت بأعصابه أمامها فهو كطفل صغير يقبل إلى أحضان العجوز يقبلأذيالها ويتشبث بأطرافها دون أن يملك رشدا . بينما ظل تاج الدين فترة من الوقتمشدوها يحملق في العجوز دون أن يستطيع نطقا أو يملك حراكا .. أما العجوز .. فماإن أبصرت منظرهما ذاك ، وما آلت إليه حالهما ، حتى داخلتها رقة شديدة من أجلهما ،وفاض قلبها حنانا لهما ورحمة ، فأخذت بيمين كل منهما قائلة: ’’ لا داعي إلى كلهذا الهم والغم يا ولدي ... فوحق الله المعبود لم أدعكما ما حفلني التوفيق حتى أبلغبكل منكما إلى أمنيته وهواه .. ولن يطيب لي الموت إلا بعد أن أراكم أنتم الأربعة ... وقد جمعكم الشمل وأظلكم نعيم الوصال وما على كل منكما الآن - لكي أستطيع الشروعبالمهمة منذ الساعة - إلا أن يخبرني عن اسمه ويطلعني على شأنه ومركزه في هذهالجزيرة . كما وأرجو وقد اتيتكما بخاتميكما أن تسلماني هذين الخاتمين لأعود بهماإلى صاحبتيهما تجنبا لإفتضاح الأمر .. ولن تطول غيبتي عنكما ، بل لا بد أن أعودإليكما قريبا بالجواب . فتهللت أسارير تاج الدين ، وقام فأعطاها خاتم ستي الذيكان معه بعد أن عرفها باسمه وشأنه ، أما ممو فإنه أطرق قليلا ثم قال للعجوز : ’’ لعلكي يا سيدتي تعذرينني إذا قلت بأنه ليس بوسعي إعطاء هذا الذي تريدين .. ولعلكيتصدقينني إذا حلفت لكي بأن هذا الخاتم الذي عندي هو اليوم بقية روحي التي تخفق بينجنبي ! ومن ذا يستطيع أن يعمد إلى روحه فينتزعها ؟! ... لا يا سيدتي ... إنني أتشفعإليك بناري التي تذيب أحشائي ، وأتوسل إليك باسم ( زين ) أن تتركيها في هذه البقيةمن الرمق ، وتدعي هذا الخاتم في يدي ...‘‘. وسكت قليلا كأنما يغالب آلاما تثورفي نفسه . ثم مضى في حديثة يقول : ’’ والآن دعيني يا أماه .. وأنتي رسول قلبيالضائع ... أبثك رسالة نفسي إلى ربة هذا القلب : قولي لها أنه مسكين من الناس ... لا يبلغ أن يكون كفؤا لذوي الإمرة والسلطان . غير أن سهام الحب طائشة .. لم تكنتفرق يوما ما بين فؤاد مسكين وأمير ، وهو اليوم لا يتطاول إلى مركز ليس أهلا له ،ولكنه يتطلع إلى عطف من شأن الامراء أن يشملو به عامة الناس ، وحسبه من هذا العطفأن تخطريه على بالك بين وقت وآخر .. وأن تسالي عن حاله ولواعجه بين الفينة والأخرى ‘‘... فتأثرت العجوز من لهجة كلامه ، ولم تجد بدا من أن ترحمه فتدع الخاتم فييده . وبعد أن حاولت مواساتهما فترة من الوقت قامت فودعتهما .. ووعدتهما في العودةبأقرب حين .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:24 pm | |
| الطبيبة السائحةلم تعد العجوز هيلانة - بعد مغادرتها لذلك الشيخ - إلى القصر ، وإنما بادرت في إعداد العدة وتهيئة الوسائل لكي تصبح طبيبة . وبعدحين أصبحت ذات منظر جديد وشكل غريب ... حيث ارتدت فوق ثيابها رداء سابغا فضفاضا قدشق من أمامه فبدا من تحته ما علقته على كل من جنبيها من الحقائب التي ملأت بعضهابزجاجات وعقاقير . .. وحشت بعضها الآخر مباضع وهنات مختلفة من كل ما يحتاج إليهالطبيب الماهر .. ثم استوت على ظهرها وانطلقت تطوف بالأحياء ، وتؤم المجالس والبيوت، تتسمع خبر أي مريض مطروح أو متألم موجوع ، لكي تأخذ طريقها إليه متبرعة بمعالجتهومواساته . وهكذا بدأت توحي إلى الناس بأمكر أسلوب مبلغ ما اوتيته من براعة فيفن الطب بمختلف أنواعه... ولم تمض سوى برهة حتى كان اسمها قد انتشر في كثير منأنحاء الجزيرة ، وتسامع الناس بأن عجوزا سائحة قد وصلت إلى الجزيرة ، تعالج أنواعالامراض والأدواء المختلفة بمهارة فائقة . وكان ممو وتاج الدين إذ ذاك قد سائت بهماالحال أكثر من الأول وأصبح كل منهما نهبا لأفكار وآلام متواصلة مما لفت إليهماأنظار ذويهما بل معظم أصحابهما ولكن دون أن يعلم أحد بحقيقة الأمر أو يدرك شيئا مماحدث لهما . ولم يكن - في الواقع - منشأ تلك الآلام والأفكار واحداً بالنظراليهما ، بل كان مختلفا إلى حد بعيد . أما ممو فقد كان السبب في ذلك زيادة تعلقهوتفاقم وجده .. فلم يكن يقر له قرارا أو يلين لجنبه مضجعا منذ عرف أن التي ضاععندها رشده إنما هي أميرة الجزيرة .. ومنذ أخذ يفكر كيف أن تلك الغادة الحسناء رأفتبقلبه ورقت لحاله ، فتركت خاتما الدري في يده لكي ينوب إشراقه عن ابتسامتها عندمايغيب طيفها عنه ، ولكي يقوم مقامها في مواساته إذا تلظى منه القلب . كان ذلكالتفكير يستحيل نارا تتقد في أحشائه وتسعر كل مشاعره وأحساسيه ، وكانت تزداد ثورةهذه الآلام في نفسه حينما يقعد ليفكر في شخصه وفي مركزه البسيط الذي لا يجعله اهلالأن يتقدم إلى الأمير زين الدين لخطبة أخته . بل لا يعقل من الأمير أن يقبل مثلهصهرا له من بين مختلف أفراد حاشيته ووزرائه . فكان ذلك يزيد في آلامه مرارة اليأس , ويسلمه إلى زفرات طويلة تكاد تشق صدره . أما تاج الدين فعلى الرغم من أنه أيضاكان متعلق القلب بصاحبة الخاتم الذي في يده ومنصرفا بمشاعره نحوها إنصرافا تاما ،إلا أنه لم يكن يقاسي في ذلك مثل آلام ممو وثوراته النفسية . ويبدو أن السبب في ذلكهو أنه كان ذا أمل قوي في الوصول إليها ، ولم يكن يخامره شك في أن الأمير لن يترددفي قبوله صهرا له .. فهو ابن وزير الديوان ، وهو أحد أشقاء ثلاثتهم عمدة الأمير فيكثير من الظروف والاحوال ، والأمير نفسه يدرك أن مصلحته تقضي بإكرامهم وتقريبهم منه . ولكن تاج الدين كان يعاني أفكارا أخرى تؤلمه وترهق مشاعره إرهاقا شديدا ، ولايهتدي إلى مخلص منها ! فقد كان ممو كما قلنا صفيه الوحيد من دون الناس كلهم ، وكانينزله من قلبه منزله شقيقه .. بل أسمى من ذلك وأعظم .. ولم يكن يخفى عليه ما يقاسيهمن وجد وتحرق ..فكان يقعد ليفكر في أن مركزه كسكرتير للديوان لا يؤهله لأن يتقدمإلى الأمير بطلب يد أخته منه ، ولكن لا يعقل أيضا أن يمضي هو متنعما بمراده تاركاخليله الوحيد وراء ظهره يتقلب في ناره . فكيف التدبير وما العمل ؟! .. أيضحي بقلبهوسعادته من أجل صديقه ممو ويظل إلى جانبه يواسيه ويقاسمه ضره ؟ أم يبحث عن سبيللإمكان وصولهما معا إلى أمنيتهما المنشودتين ؟ ولكن كيف العثور على هذا السبيلالخفي الشائك ؟؟!! .. وهكذا أضحى كلا الخليلين مظهرا للقلق والتفكير الدائم مماجعلهما محورا لتفكير الاهل والأقربين ، والحيرة في شأنهما . وذات أمسية ، وبينماكان ممو و تاج الدين جالسين في ركن من قاعدة الضيافة التابعة لدار تاج الدين وشقيقهمع زمرة من الأهل والأصحاب يتسامرون ، مرت من أمامهم الطبيبة العجوز وألقت التحيةعليهم ، وكانو قد سمعوا باسمها وتذاكر معظمهم في استدعائها لعرض حالة ممو وتاجالدين عليها ، فردوا عليها التحية وطلبوا إليها الجلوس معهم بعض الوقت . وبعد أناستقر بها المجلس سألها عارف قائلا : ’’ من أين أنتي ايتها الخالة وما شأنك ؟‘‘ . - ’’ أما أنا فمن قرية صغيرة تقع وراء لك الجبل وتبعد عنه قليلا ، وأما شأنيطبيبة أسيح في أنحاء البلاد لإغاثة المرضى ومعالجة شوؤنهم ..‘‘. - ’’ وما هيالأمراض التي تعالجينها ؟؟ ‘‘ . - ’’ الواقع أنني اشتهرت في المهارة في معالجةالأمراض النفسية والروحية فقط .. غير أني استطيع بحكم مراني الطويل معالجة غير ذلكأيضا من الأمراض البدنية ..‘‘. وهنا فاجأها تاج الدين من ركن بعيد في المجلسقائلا : - ’’ مذا تعرفين من الأمراض الروحية ايتها الطبيبة ؟؟ ‘‘ . فالتفتتالعجوز صوبه واخذت تلحظه بعينيها الضعيفتين حينما كأنما تريد أن تعرف من هو هذاالذي يسأل عن الروح وأمراضها . ثم قالت له وقد خالها شك في أن يكون هذا أحداللذين تبحث عنها : -’’ أعرف يا ابني من هذه الأمراض أنواع كثيرة ، كنت قدعالجتها في كثير من الناس ، فهل تشكو - لا سمح الله - شيئا منها ‘‘. وقبل أنيجيبها تاج الدين بادرها ممو قائلا : -’’ ما هو أشد أنواع هذه الأمراض أيتهاالخالة ؟؟ وهل لكي أن تصفيه لنا وتحدثينا عنه ؟ ‘‘. فنظرت اليه وقد قوي شكهاوغلب على ظنها أنها أمام ضالتيها المنشودتين . ثم تنهدت بعمق وقالت له : ’’ أشدأنواع هذا المرض يا بني ، نوع - لا أذاقك الله إياه - يسري من الألحاظ . ويسلكطريقه في الألحظ .. ثم يتخذ مستقره في القلوب . هو في أول أمره رعدة في المشاعر ،ودقات بين ألواح الصدر ، وتلون على ملامح الوجه . فإذا نمى وترعرع فهو برق يستعروميضه في الأحشاء ، تتلظى الجوانح بناره من غير لهب ، ويشوى الفوائد في وهجه من غيرجمر . ثم إذا استقر وتمكن فهو نهش وفتك لسويداء القلب ، يجرحه بلا مبضع ، وينزعه منغير سنان . فهناك يشخب دمه منهمرا من العينين ، ويذوب الجسم بين بوتقة الحشا وزفراتالصدر . وهناك لا يغني الطبيب ولا عقاقيره ولا يجدي سوى أن تتضامن الروح وتتطأالنار ببرد الوصال ‘‘ . وسكتت العجوز هنا .. فقد لاحظت نشيجا قويا بدا يتعالى منصدر ممو الذي لم يعد يملك دموعه ، واصفرارا شديدا تلطع به وجه تاج الدين الذي أطرقذاهلا ، واتفتت إلى بقية الجالسين وقد خشعت ملامحهم ، وداخلتهم رقة شديدة من أجلذينك المسكينين الذين لم تعد تشك في أنهما ضحيتا الأميرتين في اليوم التاريخيالفائت . ثم أنها قامت من مكانها تؤم الركن الذي كانا يقبعان فيه وربتت علىكتفيهما قائلة: ’’ لا بد أنكما يا ولدي تعانيان مجهودا أو ألما من هذا النوع ،ولكن لاضيرعليكما ، فإن دوائكما عندي ‘‘. ثم توجهت إلى بقية الحاضرين وقالت : -’’ لا بد لي من تشخيص أمر هذين الشابين ، ولابد أن يكون ذلك على خلوة معهما ،فهل أستطيع أن التمس منكم الموافقه على ذلك!! ‘‘ . وبعد قليل .. كانت الغرفة قدأصبحت خاليه إلا من المريضين .. وطبيبتهما التي أخذت تسرح فيهما وتقلبه لتجد شابينرائعين لم يتخطيا ربيع العمر ، تبدو على مخايل كل منهما معاني العز والمجد ، إلىجانب ما يظهر في شكليهما من سيما الروعة والجمال ، على الرغم مما اصطبغت به ملامحمامن مظهر الكآبة والإنكسار . وبعد أن مضت تواسيهما مستدرجة لهما في الحديث عنشأنهما وقصتهما إلى أن فهمت كل شيء ، فابتسمت قائلة : ’’ ليطب خاطركما يا ولديولتقرعيناكما فما أنا والله إلا رسولا من أميرتي بوطان إليكما لأسري عنكما وأواسيجرحكما ، وها هو ذا خاتم كل منكما ... ولم تكد العجوز تنطق بهذه الكلمات وتمديدها لتريهما الخاتمين حتى دار بكل منهما فضاء ، وغشيتهما موجة شديدة من الذهول لميستطيع ممو أن يثبت بأعصابه أمامها فهو كطفل صغير يقبل إلى أحضان العجوز يقبلأذيالها ويتشبث بأطرافها دون أن يملك رشدا . بينما ظل تاج الدين فترة من الوقتمشدوها يحملق في العجوز دون أن يستطيع نطقا أو يملك حراكا .. أما العجوز .. فماإن أبصرت منظرهما ذاك ، وما آلت إليه حالهما ، حتى داخلتها رقة شديدة من أجلهما ،وفاض قلبها حنانا لهما ورحمة ، فأخذت بيمين كل منهما قائلة: ’’ لا داعي إلى كلهذا الهم والغم يا ولدي ... فوحق الله المعبود لم أدعكما ما حفلني التوفيق حتى أبلغبكل منكما إلى أمنيته وهواه .. ولن يطيب لي الموت إلا بعد أن أراكم أنتم الأربعة ... وقد جمعكم الشمل وأظلكم نعيم الوصال وما على كل منكما الآن - لكي أستطيع الشروعبالمهمة منذ الساعة - إلا أن يخبرني عن اسمه ويطلعني على شأنه ومركزه في هذهالجزيرة . كما وأرجو وقد اتيتكما بخاتميكما أن تسلماني هذين الخاتمين لأعود بهماإلى صاحبتيهما تجنبا لإفتضاح الأمر .. ولن تطول غيبتي عنكما ، بل لا بد أن أعودإليكما قريبا بالجواب . فتهللت أسارير تاج الدين ، وقام فأعطاها خاتم ستي الذيكان معه بعد أن عرفها باسمه وشأنه ، أما ممو فإنه أطرق قليلا ثم قال للعجوز : ’’ لعلكي يا سيدتي تعذرينني إذا قلت بأنه ليس بوسعي إعطاء هذا الذي تريدين .. ولعلكيتصدقينني إذا حلفت لكي بأن هذا الخاتم الذي عندي هو اليوم بقية روحي التي تخفق بينجنبي ! ومن ذا يستطيع أن يعمد إلى روحه فينتزعها ؟! ... لا يا سيدتي ... إنني أتشفعإليك بناري التي تذيب أحشائي ، وأتوسل إليك باسم ( زين ) أن تتركيها في هذه البقيةمن الرمق ، وتدعي هذا الخاتم في يدي ...‘‘. وسكت قليلا كأنما يغالب آلاما تثورفي نفسه . ثم مضى في حديثة يقول : ’’ والآن دعيني يا أماه .. وأنتي رسول قلبيالضائع ... أبثك رسالة نفسي إلى ربة هذا القلب : قولي لها أنه مسكين من الناس ... لا يبلغ أن يكون كفؤا لذوي الإمرة والسلطان . غير أن سهام الحب طائشة .. لم تكنتفرق يوما ما بين فؤاد مسكين وأمير ، وهو اليوم لا يتطاول إلى مركز ليس أهلا له ،ولكنه يتطلع إلى عطف من شأن الامراء أن يشملو به عامة الناس ، وحسبه من هذا العطفأن تخطريه على بالك بين وقت وآخر .. وأن تسالي عن حاله ولواعجه بين الفينة والأخرى ‘‘... فتأثرت العجوز من لهجة كلامه ، ولم تجد بدا من أن ترحمه فتدع الخاتم فييده . وبعد أن حاولت مواساتهما فترة من الوقت قامت فودعتهما .. ووعدتهما في العودةبأقرب حين .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:26 pm | |
| إنه الحب
ولنسرع الآن إلى القصر قبل عودة العجوز ، لنعلم ما الذيآلت إليه حال ستي و زين ، منذ أن خرجت من عندهما ولم تعد .
والواقع أنهما أخذتاتنتظرانها على أحر من الجمر ، وترقبان رجوعهما بين كل ساعة وأخرى . فقد تركتهمالتذهب فتستكشف لهما السر المخبوء ، وتأتيهما بالخبر اليقين عن حقيقة تينك الجاريتيناللتين شغلتا قلبيهما و فكريهما ، ولكنهما ذهبت ولم تعد .. ! وبطول غيبتها عنهمااستبد بهما القلق وزاد اضطرابهما ولم يعد يقر لهما قرار ، ويهنأ لهما مأكل أو مشرب، وأخذ الفكر يذهب بكل منهما مذاهب متشعبة فيما يمكن أن يكون السبب في تأخر عودةالعجوز !وبينما كانتا ذات يوم جالستين في إحدى مقصواتهما الخاصة من القصرتتحدثان ، إذا بطارق يستأذنهما في الدخول . وما إن توجه نظرهما نحو الباب ، حتىأبصرتا العجوز بوجهها المتغضن وظهرها المنحني واقفة أمامهما ، ترمقهما بابتسامةعريضة ذات مغزى ...وهبت الأميرتان تطوقانها ، وتبثانها شوقهما ، ثم أسرعتافأجلستاها بينهما ، وأخذتا تسألانها عما استطاعت أن تصل إليه في كل هذه الغيبة منالمعلومات ، وعن مدى ما كشف لها علمها وبحثها عن سر تينك الجاريتين ومكانهما .فقالت لهما وهي لا تزال تلهث من التعب : -’’ أقسم لكما أميرتيّ بالخالقالذي أولاكما هذا السحر والجمال أنني آتية الآن من عندهما . وإن قلبي لا يزال يخفقرحمة وحنانا لمنظرهما . وا كبدي لهما يا ابنتي ... كلما سمعا باسم ستي وزين التهبفيهما الدم نارا ، وتمشت في أوصالهما رعدة تثير الرحمة لهما والإشفاق .هماوالله يا ابنتي خير شابين أبدعهما الله لطفا وجمالا وشهامة وكمالا . وما عجبي منذلك بمقدار عجبي من أنكما - فديتكما - كيف وفقتما لانتقائهما .واهتديتما في ذلكالجمع الحاشد إلى مكانهما ! فهما والله - سواء أكانا أميرين أم زعيمين أم بسيطين منالناس - خير كفؤين لكما ، ولائقين لجمالكما .‘‘وكان طبيعيا هنا أن تتملك كلا منستي وزين حيرة بالغة وتطوف بهما دهشة شديدة من هذا الكلام . فقد كانتا تتصوران كلمحتمل لشأن الجاريتين ، سوى أن تكونا رجلين من الناس قام في ذهنيهما ذلك اليوم مثلما قام لديهما أيضا من التنكر وإخفاء الحقيقة ... فلم يكن ذلك الحتمال ليتطرق إلىخيالهما قط .واستفاقا من حيرتهما ودهشتهما لتشعرا بلواعج حب شديد قد ظهرت فيمشاعرهما ، وأخذت تتضرم سعارا في قلب كل منهما . كانت في الماضي آلاما واضطراباتحول السر المخبوء الذي لا تعرفانه ، ولكنها اليوم أصبحت حقيقة أخرى ذات خطورة أشد .. فهي الحب .. الحب الذي بدأت رعدته تسري في مشاعر كل منهما من الفرق إلى القدم !ثم أنه لم يطل التفكير في الموضوع بعد أن شرحت العجوز لهما عن تاج الدين ومموكل شيء .. وبعد أن نظرتا حولهما فلم تجدا سوى العجوز التي قد أضحت خبيرة بحالهمامطلعة على سرهما . فقالت لهما إحداها : - ’’ لعله ليس خافيا عليك - أيتها الخالة - أن خبرك هذا زاد في قلب كل منا آلاما طارئة .. وأرهق مشاعرنا بإحساسات جديدة .. ولسنا نرى غيرك الطبيب لآلامنا ، ولن نجد إلا لديك العلاج لقلبينا . ولن نقدر أننتصرف في شىء من هذا الأمر إلا بسعيك ، ولا نتكلم عنه إلا بلسانك . فهل لك أنتتحملي من أجلنا شيئا من الجهد وتكوني لسننا الناطق في هذا السبيل !‘‘.فأجابتالعجوز متهللة : ’’ إنني منقادة يا أميرتيّ كل ما تبغيانه وتأمرانني به . وأيجهد هذا الذي سيلحقني في سبيل إسعادكما ؟ بل أية راحة سأشعر بها ما دمتما معذبتينكما أرى ؟ ‘‘فقالتا لها : ’’ إن كل ما نبغاه هو أن تسرعي فتعودي إلى ذينكالشابين لتنوبي عنا في مواساتهما ومعالجة شأنهما ، إذ لا ريب أنهما الآن يعانيانمزيدا من الآلام التي حدثتنا عنها . هدئي أيتها الخالة من كربهما ، وامسحي بدلا عنابيمينك زفراتهما ، قولي لهما : انعما بالاً ، فلستما وحيدين في هذه المشاعر والآلام . إن تينك اللتين صرعكما حبهما في ذلك المساء ... بين تلك الشعاب ... تذوقان معكماعلى البعد مثل ذلك . كان قبل اليوم عطفا عليكما ورقة من أجلكما ، وهو الآن حب يخفقبه قلبيهما كما يخفق منكما ذلك وتقاسيان منه كما تقاسيان ولئن استطعنا أن نكتم هذهاللواعج إلى اليوم ، فإن ذلك لسلطان الحياء و حاجبه المسدل علينا .. و لقد آن لهذاالحجاب أن يزاح عنكما .. لتعلما أننا قد ارتضيناكما رفيقني لحياتنا حسب الإختيارالذي دل عليه خاتم كل منا منذ لقائنا في ذلك اليوم المشهود . ولكل منكما إذا شاء أنيتقدر اليوم إلى الأمير لخطبتنا منه . فيسع إليه عن كل منكما أناس يعرضون عليهالخطبة . وآخرون من ذوي الشأن يتوسطون إليه في رجاء القبول . أما المكان والشأن .. والغنى والمال والمهر .. فقولي لهما أنهما رضيتا من ذلك كله بالحب الذي خفق فيقلبيهما منذ ذلك اليوم واتضح مدى إخلاصه .وكل ما امتدت إليه طاقتهما بعد ذلك منالدنيا وأسبابها فهو منهما مقبول وجميل .. هذه هي رسالتنا - أيتها الخالة - بلغيهاعنا إليهما على أحسن وجه ، فعسى الله أن يكون مقدرا لنا في أزله سعادة الواصال ،كما قدر علينا في غيبه ارتشاف كأس هذا الحب . ‘‘ .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:30 pm | |
| البشرى
ليس أجمل لنفس العليل المدنف الذي تسعرت جوانحه في سموم الحب من ساعة تفجؤه ببشارة الوصل والرضى ، وتحمل إليه من محبوبه صوت الحنان والعطف فينتفض قلبه بذلك من مرارة اليأس وآلامه . إن فيها لحنا تعجز عن أداء مثله الأوتار ، وجمالا لا يشع مثله من منظر الخمائل والزهور ، وفيها نشوة لا ينبعث سرها من سائر أنواع الخمر .! إنها تلك الساعة التي طنت دقاتها في مسمع ممو وتاج الدين حينما عادت العجوز إليهما بمظهرها الأول حيث أهدتهما البشارة على أحسن وجه ، وبلغتهما رسالة الأميريتن بالنص . ولم تكن رسالة وبشرى فقط بل كانت بلسما لدائيهما ، وروحا جديدا سرت في جسميهما . وغمرت العاشقين لحظات من النشوة والفرح ، وطاف بهما من حديث العجوز أريج عطري بديع ، وتموجت في سمائهما من صداه أنغام سحرية سرت في مشاعرهما ، وأسكرت لبهما . ثم قام فنفح كل منهما طبيبته المبشرة ما استطاع من الهدايا والمال لقاء تلك البشرى التي زفتها إليهما . وهب الصديقان يسرعان إلى الأقارب والأصحاب يقصان عليهم لأول مرة قصة حبهما ، ويبلغانهم البشرى التي وصلتهما . فعمهم الابتهاج والفرح ، لا سيما عارف وجكو اللذين كانا في حيرة بالغة من أمر أخيهما تاج الدين وصديقه . وفي صباح اليوم التالي تألف منهم جمع من وجوه الجزيرة وأعيانها وعلى رأسهم شقيقا تاج الدين ، وانطلقوا متوجهين إلى قصر الامير زين الدين ليكلموه في الشأن ويلتمسوا منه قبول هذين الصديقين صهرين له . ولكنهم رأوا فيما بينهم أنه لا بد لكي يضمنوا إجابة الأمير لخطبة ممو أيضا أن يلتمسوا أولا يد الأميرة ستي لتاج الدين دون أن يذكروا شيئا عن صاحبه ، فإذا ما أجاب اتخذوا من ذلك فيما بعد وسيلة لالتماس يد الأميرة زين لممو ، وسيمهد ويهيئ لذلك ما سيحدث من احتكاك ممو بالقصر وتقربه إلى الأمير بسبب ما بينه وبين تاج الدين من المودة والعلاقة الشديدة. ودخل الوفد ديوان الأمير .. وأدوا أمامه مراسم التحية والإجلال .. وبعد أن استقر بهم المكان نهض عارف مستأذنا الأمير في الكلام ثم قال : - ’’ مولاي صاحب السلطان : إن لنا في عطفكم الذي امتد ظله مع امتداد سلطانكم الشامل ما يشجعنا على أن نعرض في رحابكم هذا الرجاء : لا ريب يا مولاي أن العزيز منا من شرفته بعنايتك ، ولا يفيده بعد ذلك أن تحاول الدنيا إذلاله ، والمهين من حرم من عطفك ، ولا تغنيه بعد ذلك أي قوة يركن إليها أو سلطان يعتز به . وإن تاج الدين يا مولاي وإن كان له في سلالته فخر الإمارة والمجد إلا أن شيئا من ` لك لا يقدمه إن لم يشرفه فخر النسبة إليك .. وهو اليوم يأمل من مولاه أن يتفضل عليه بفخر هذا النسب .. ملتمسا منه يد الأميرة ’’ ستي ‘‘ ولقد سعينا إلى رحابكم لعرض رجائه هذا مع عرض أملنا عليكم في قبول هذا الرجاء . فهو يا مولاي أخلص خادم يستأهل عطفكم ، ولعله أليق شاب بالتشرف بمصاهرتكم . ‘‘. ثم عاد عارف فجلس في مكانه . وتعلقت أنظار الجميع بشفتي الأمير ينتظرون جوابه . ولكن الأمير لم يطل تفكيره ، بل سرعان ما نظر إليهم قائلا : ’’ الحق أنه ليس لدي ما يمنعني من الإجابة إلى ما تطلبون ، بل أنا سعيد بموافقتكم فيما أجمعتم على رؤيته لائقا وموافقا . فليتقدم إلينا من كان وكيلا عن تاج الدين في هذا . واطلبوا لنا القاضي الذي إليه إبرام العقود ، فقد قررنا عقد نكاح ستي على تاج الدين منذ الآن . ‘‘. فهب جكو من مكانه منكبا على يد الأمير يقبلها ويشكره بحرارة ولهفة وتابعه الجميع يشكرونه على تفضله وعطفه . بينما تابع الأمير حديثه قائلا : ’’ لا ريب أن هذا الشاب قد أمضى أياما طويلة في خدمتنا ووقف حياته بإخلاص لنا . وإن من شروط الوفاء علينا أن نقدر فيه إخلاصه ، ونؤديه حق خدمته ، وأن نقوم بواجب هذا الوفاء له اليوم . ولا بورك لي في الإمارة والسلطان إن لم أعطه حقه كاملا غير منقوص ، وإن لم أجعل له في رحاب قصري هذا محفلا تزدان فيه الولائم والأفراح ليالي وأياما ‘‘ . ثم التفت فاستدعى رجال القصر قائلا : ’’ عليكم أن تبادروا من الآن في إعداد العدة وتهيئة الوسائل والأسباب لإقامة الأفراح ومجالس الصفو والمرح . هيئوا لها كل ما طاب من أنواع الشراب ، وادعوا إليها كل أصحاب الطرب والغناء ، فلسنا نضمن من الحياة إلا هذه السويعات التي حولنا . لسنا ندري وليس أحد يدري أسوف نظل في مثل هذا الحين من الغد نملك حياتنا ، أم سيتخفطها منا القدرالمحتوم . هذه الحياة وبهجتها، وهذا السلطان وأبهته ، وهذا الفلك الدائر من حولنا ، كل ذلك مظاهر لااطمئنان إليها ولا أمان لها ، هذه الأشكال التي يتضرب فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج فيها النور الساطع بالظلمات القاتمة ، وهذه الصور التي تمتزج فيها مباهج الأفراح والأعراس بمآسي المآتم والأحزان ، كل ذلك يحذرنا من تفويت الفرص بعد حلولها وينبهنا إلى تدارك ساعات اللذه قبل غروبها . فالدهر لم يكن يوما ما يفرق في خداعه بين شيخ وأمير ، وسلطان وفقير ‘‘. ثم التفت إلى شقيقي تاج الدين ومن معهما ، وابتسم قائلا : ’’ فلأكن واحدا منكم من أجل تاج الدين اليوم . ولتحسبوني من جملتكم في السعي إلى هذا الطلب ، والقيام في سبيل إرضائه ..‘‘ وفي مساء اليوم التالي كان القصر قد أمسى قطعة من الفردوس ، مما كان يتألق فيه من مظاهر البهجة والزينة وتتراقص في كل أنحائه كل معالم المرح والترف ، كما غص كل نواحي القصر وأطرافه بمختلف الطبقات والأشكال من الناس . وأقيم في ردهته المتسعة خوان عظيم امتد به الطول والعرض امتدادا شاسعا ، وصفت من فوقه عشرات الطباق الفضية التي استدير بعضها على شكل نجوم ، وقوس بعضها الآخر على شكل أقمار ، وأقيم فوقها قباب من أغطيه فضية تتألق في هندسة ما تحتها وشكله ،وقد كمن تحت كل منها خروف مشوي لم تمس هيأته ولم يتغير شكله ، كما حشر بين ذلك مئات من أطباق الفاكهة والحلوى ومختلف ألوان الطعام و نثرت في سائر الأطراف كؤوس يترقرق فيها ألوان الشراب . ولم يكد العشاء يرتفع حتى بدأ الحفل من جديد ، واتخذ الناس أمكنتهم في الشرفة الواسعة التي تطل على حديقة القصر . وجيء بمختلف ألوان الشراب في أباريق مفضضة بديعة ، يديرها غلمان قد أفرغوا في أروع قالب من اللطافة والخفة والجمال . وأدير أرق أنواع العطور ، فانتشر شذاها في الحاضرين متهاديا مع نسيم الليل وأضوائه . ومع حفيف ذلك النسيم أخذت أصوات الغناء تنساب إلى الآذان في جو حالم خلاب بألحان الفرح والبهجة . فرادى حينا ، وحينا تنساب أصواتهم جميعا في مقامات وألحان سحرية تتردد أصؤها حلوة بديعة بين حفيف تلك النسمات العطرة التي تداعب القوم في سكون حالم . وفي تلك الأثناء أخذت أنظار الجميع ترتكز على مقعد في صدر المكان ، حيث كان يجلس فيه تاج الدين ، وقد بدا في عينيه بريق الأمل السعيد ، وتجلت في ملامح وجهه فرحة السعادة . وكان كل من يدقق في نظرته يدرك بسهولة أنه لا يكاد يرفع بصره عن ناحية بعينها في ذلك المجلس ، فإذا ما تبع بصره إلى تلك الناحية رأى هنالك ’’ ممو ‘‘ وقد جلس جلسة تدل على أنه منطو على نفسه انطواء تاما ،فهو لا يكاد يشعر بشيء مما حوله . ونظرة في عينيه الذابلتين ، وفي ملامح وجهه الذي أماله وأسنده على ظهر كفه في إطراقة طويلة - تدل على أن شيئا من سحر ذلك الجو وجمال تلك الأوتار والألحان لا يلامس نفسه ، اللهم إلا لمسة عابرة غير مبالية ، كأنما تقول له : ’’ لا أعرفك ... ولست من أجلك ..‘‘ و بينما الناس في تلك الأثناء إذ سكت كل شيء .. وهب الناس جميعهم قياما .. فقد دخل الأمير في تلك الساعة . وقبل أن يصل إلى الصدر الذي كان يجلس تاج الدين في بعض مقاعده نهض هذا من مكانه مسرعا فقبل يده . فأخذ الأمير بيمينه ومضى به فأجلسه إلى جانبه بعد أن أشار إلى الحشد الكبير بتحية باسمة . ولم يكن يخفى على الأمير أن بين تاج الدين وممو ودا شديدا ومحبة صادقة ، فأخذ يجيل النظر في هدوء باحثا عنه إلى أن عثرت عيناه عليه، ورآه ساهما مطرقا . فأدرك أنه ربما أوحشه أن يكون بعيدا عن صديقه في هذا الحفل الذي يقام من أجله ، فاستدعاه إليه ثم قال : ’’ أنت صديق تاج الدين وصاحب وده . وليس ثم أقرب منك إليه وأليق بأن يكون ’’ حفيظه ‘‘* منذ الليلة إلى آخر أيام عرسه . فتعال واجلس إلى جانبه هنا .‘‘ فانحنى ممو للأمير قائلا :’’ أمر مولاي .‘‘ ثم تراجع وجلس إلى جانب تاج الدين . وعاد الطرب والغناء ، وعادت الكؤوس تدور . وكانت ليلة رائعة أضفت على كل الحاضرين سعادة وأنسا . وامتدت تلك الليلة السعادة امتداد الليل ، حيث كانت نهايتها أول أساس في بناء عرس تاج الدين . وكان ذلك الأساس هو عقد نكاحه على الأميرة ’’ ستي ‘‘ .
* حفيظ العريسهو ذاك الذي مكانه بجانبه ويمشي ورائه كأنما هو حارسه . وهي عادة من عادات الأكرادفي أعراسهم . ويختار الحفيظ من أخلص أصحاب العريس وأقربهم إليه .
العرس
ونعود الآن مرة أخرى إلى رحابقصر الأمير بعد أن مضت مدة على نكاح تاج الدين ، وانهمك خلالها في إعداد العدةوتهيئة اسباب العرس . وقد غصت ردهة الطابق العلوي منه بعشرات الوصيفات اللواتي أخذنفي تهيئة شتى وسائل الزينة والتجميل للأميرة العروس وأختها ، وليضفين على فتنتهاروح الأناقة ، ويزدن في سحرها روعة الصنعة . وأقبلن إلى العروس يسرحن النظر أولافي شعرها ... شعر كستناوي في نعومة الحرير .. قد تموج من سائر أطرافه في غزارةمنسابا إلى ما تحت المنكبين في بهاء وفتنة ... وتمايلت من أعلاه خصل ملتوية فوقالجبين في دلال ولطف ، بينما استدار سائره أمام الصدغين وحول الوجه في تجاعيد رائعةذات سحر . تصميم إلهي بديع لا يستطيع أي مخلوق أن يلمس في روعته نقصا ليكمله ، أوخطأ ليعدل فيه . وانتقلت أبصارهن إلى العينين ... عينين واسعتين تنظران بسهامالفتك ، تحت حاجبين ينطلق منهما مثل ما ينطلق من كبد القوس وأهداب ناعسة سوداء فيسواد الليل ... تسترخي على تلك المحاجر استرخاء شاعريا يفعل في الألباب ما تفعلهالخمر . هذه الفتنة من الكحل الإلهي العجيب ، وهذا البريق الساحر المنبعث من هذهالنظرات ، أي إثمد أو صبغ في الدنيا له أن يغير من ذلك ويبدل ؟! ثم استدارتأنظارهن إلى القوام .. قوام مياد أفرغ في أروع قالب من التناسق والجمال ، وصمم فيأدق تكوين إلهي معجز . فجاء منسجما من كل أجزائه وأطرافه ، يبعث بعضه الفتنة في بعض . فأي يد من أيدي التقليد والصنعة تزعم أنها ستزيد فيه روعة وإبداعا ؟ ووقفتالوصيفات من حول ستي في جمود وذهول يمجدن خالق هذا الجمال ، وقد اعترفت حيرتهن بأنالجمال الذي صورته يد الخالق لا سبيل ليد المخلوق في تغييره . ثم رأين أن ليسلهن إلا أن يتوجن ذلك الجمال بإكليل رصع بالدر وأثمن أنواع الماس . يضعنه فوقجبينها المشرق وبين أمواج ذلك الشعر الحريري الرجراج . أما قوامها فقد تركن فتنتهتشع من خلف ثوب من القطيفة البيضاء ، سرت فيه نقوش رائعة من خيوط الذهب الخالص ،وقد التف من الاعلى على جسمها التفافا يبعث السحر . بينما اتسع من الأدنى اتساعاكبيرا ، وترك له ذيل طويل يتهادى من حولها على الأرض . أما نحرها وما دون ذلك إلىالصدر فقد ترك إشراقه باديا ليتألق فيه عقد من الماس تدلت من سائر أطرافه على النحرحبات اللؤلؤ النادر . وانصرفن بعد ذلك إلى ’’ زين ‘‘ ولكنها كانت أغنى من أختهاعن التجميل المصطنع لقد كانت هي وحدها الآية التي دلت على أن للإبداع الإلهي أن يسوعلى فتنة ’’ ستي ‘‘ وجمالها فلم يكن الشأن في تزيينها يحتاج أكثر إلى مما قمن بهبالنسبة لأختها .. ولم تمض سوى مدة قصيرة حتى انبعث من قصر الأمير موكب يتهادىمن وراء صفين من الخيول المزينة ، موكب يزدان بأفخم مظاهرالجمال . عشرات منالوصيفات والجواري يتمايلن في أبدع أنواع الزينة والحلي ، تتوسطن غادتين لو أنالشمس الساطعة في السماء انقلبت إلى انثى من بنات حواء لما استطاعت أن تكون فيسحرها وجمالها ! من ورائهن عشرات الغلمان الذين أفرغت عليهم كأس الزينة بأنواعها ،يحملون أطباقا متألقة ملئت بالحلوى والنفائس والتحف . وبدأ الموكب الرائع يعومفي يمٍّ متلاطم من الخلائق ، الذين تدفقت بهم الجزيرة من شتى نواحيها ، يتطلعون فيذهول إلى تينك الغادتين اللتين طالما سمعوا بهما ، وحرمهم القصر رؤيتهما . ومضىالموكب يمخر العباب ... ويتهادى في وسطه ، والأعين كلها شاخصة في مشرق تلك الفتنتينإلى أن رسا أمام قصر تاج الدين ... وهو قصر شيده على أبدع ما تخيله من طرز . رفعأعمدته وفرش أرضه وجدرانه بأفخر أنواع المرمر المتألق ، وجعل أبوابه ونوافذه منالصندل والأبنوس النادر ، ثم حلىَّ أطرافه وسقفه بنقوش دقيقة من ماءالذهب الخالص . وما إن دخلت العروس إلى الردهة الخارجية للقصر حتى رفعت فوق عرش فخم منالأبينوس كان ينتظرها هناك . وفي مثل طرفة العين اعتلى ذلك العرش فوق عشراتالأيدي والأكتاف . يتهادى وسط ذلك الخضم من الناس ، وبين صخب ممتزج من الزغاريدوأصوات الدفوف والمعازف وعبارات الدهشة والإعجاب ، حيث صدِّر أخيرا في بهو الطبقةالعليا من القصر ، بينما كانت الجموع الحاشدة من المدعوين يجلسون في جناح آخر منه ،تطوف عليهم كؤوس الشراب ، وقعد إلى جانبه ’’ ممو ‘‘ وقد بدا في مثل أناقته ومظهره . وراحت جزيرة بوطان كلها تسهر في ثمل ومرح . وتتمايل في أحضان اللهو والطرب . وتوارتمن وجه الدهر كآبته ، وأخذ يطل على الناس بخالص من مظهر الصفو والسعادة . كؤوسالراح تدور ، ورنات العيدان وصوت الغناء والدفوف يشق جو السماء ، ومئات الجواريوالشباب يرقصون رقصات جماعية فتانة تتهادى معها القلوب والمشاعر . وظهرت في تلكالأثناء أطباق فضية فوق أكف رجال من حشم القصر قد فاض كل منها بأكوام من الذهبوالفضة وكرائم التحف ونفائسها ، حيث أخذوا ينثرون تلك الأكوام من علو فوق تلكالجموع الحتشدة في سائر جهات القصر و أنحائه ، فتتفرق فيما بينهم في بريق كأنهاالنجوم تتهاوى عليهم في غزارة من السماء . وعم كرم الأميرجميع الناس . وأدخل الفرحةوالبهجة إلى جميع القلوب . فكم من فقير في تلك الليلة استغنى ، وكم من عديم أيسر ،ولك تزل هذه الأفراح على هذا المونال قائمة لا تهدأ إلى سبع ليال كانت كلها مجمعاللصفو والمرح ، ومقدمة بين يدي ساعة العمر ... ساعة الوصل بين ستي وتاج الدين . وفي ساعة السحر من الليلة السابعة ، والأفراح دائرة وقلوب الناس مستطيرة - كانقد بلغ الشوف بالعروسين أشده ، واستعرت نار الشوق في ضلوعهما ، وامتزج وهجه بندىذلك السحر ونسيمه ، وأخذ كل مظاهر الأنس والبهجة من حولهما يلمس فؤاديهما لمسةكاوية . يلتف بها النسيم ، ويقام من حولها الخشيم ، لا بد أن تتوهج وتتلف ... هنالك ... وفي لحظة من تلك للحظات المتموجة في نسمات ذلك السحر - انفتح باباتلقاء الأريكة التي كان يجلس عليها تاج الدين ظهرت ورائه مقصورة مزينة تميس في فتنةحالمة ... وقد فاح من أركانها أريج العطر ، وأقيم في سائر أطرافها شموع تشع بأضواءمختلفة الشكل تنتشر في جوها نورا ناعسا ذا جمال وسحر ، كما نظمتفي بعض جهاتها أطباقصغيرة مذهبة شُكل فيها ألوان الحلوى ووسائل التسلية . ثم ظهرت في أيدي جمع من ذويالعروسين شمعة باسقة ، في طول القامة . وقد وشيت أطرافها بأغصان من ماء الذهب ،وتوج أعلاها بإكليل من الزجاج المنقوش يشع من ورائه لسان من النور المتوهج .. حيثأقاموها في وسط تلك المقصورة تلقاء نظر تاج الدين ، لتقول له بلسان حالها : ’’ أيها العاشق الذي أفقده الشوق صبره وقراره .. يبدو أنك مثلي فما أقاسيه من ألمواحتراق .. إذن فقم من مكانك هذا الذي سئمته إلى حيث تنتظرك عروسك ... قم فقدآن أن تذوق بعد هذا الذي عانيته - نعيم الوصال ... قم فإن شمعتك مثلك فيالإنتظار .. تقاسي مثل ما تقاسيه جوانحك ... من نار الإصطبار ... حسبك مثليذوبا واحتراقا ... وكفاك مثلي دموعا وتسكابا ... إن ذلك النور الذي ضاع ورائهقلبك .. هو ذا أمامك اليوم ... فلترتم فيأذياله ، كما تفعل الفراشة الملتاعة .. إذتنثر روحها على أذيال اللهب . أيها الساعي ... طالما أتعبت قدميك ابتغاء الوصولإلى هذا المطاف .. أيها السالك .. كم أظمأت كبدك قصدا إلى الطواف ... لقد قدرالله لك كل ذلك في سهولة ... وحققه من أجلك في يسر ... ها هي كعبتك .. قد سعتنحوك . وها هو ذا مطافك قد تدانى إليك ... أيها العاشق السعيد .. قم لتطوفوتلتزم .. وتقبل وتستلم ... أيها العاشق الظمآن .. قم ، فالكأس مترعة .. وخمرتكفي الإنتظار ... ‘‘ . وأدرك تاج الدين من هذه الإشارة وملابساتها أن قد حانتساعة الوصل ولاح فجره .. فنهض من مكانه في سكينة وهدوء ، وسار نحو المقصورة التيفتح بابها في انتظاره ، وإلى جانبه ممو صديق سروره وأحزانه ، يده في يده وقلبه معقلبه ، وقد اشتمل على سيف في جنبه ، وهو شأن ’’ حفيظ ‘‘ العروس في العادة . وعندالباب وقف ممو منحازا ليودع خليله ويشير إليه بالدخول ، وكانت لحظات ... توارى منبعدها تاج الدين وراء الباب الذي ما لبث أن أغلق ، بينما ظل صاحبه واقفا في مكانهذلك كأنه حاجب أمين . ودخل تاج الدين إلى المقصورة ، ليجد عروسه جالسة من وراءتلك الشمعة التي حدثته بدموعها حديث الحب والوصال .. حيث تصافحت عيناهما في سكونحالم وتعانق قلباهما في ذهول طويل ، وتبدلت نار ضلوعهما شهدا وخمرا . وباركت لهماتلك الشموع التي تحترق كؤوسا مترعة من الرحيق .. وشهدت وحدها أجمل لحظات الدنيا لدىالأحبة ... وظل العروسان ثلاثة أيام في انشغال عن الدنيا وما فيها ، يرقدان فيمهد الأحلام ، ويستيقظان على الأحلام ، غذاؤهما شهد الوصال ، وشرابهما كوثر الشفاه
أما ممو فإنه لم يشأ - حتى بعد أن انفض الجمع ، وانصرف الجميع - أن يبارحمكنه من قصر صديقه ، إذ كان سعيدا بأنيتولاها لصديقه المحبوب ، تقضي - إذا أريد أنتكون في أسمى درجات الإخلاص - بأن يظل مكانه كأي حاجب مخلص إلى أن يخرج العروس فياليوم الثاني أو الذي يليه ، ليتلقاه ويكون أول من يهنئه من أصحابه وهكذا اتخذممو مكانه في ناحية من فناء صرح تاج الدين الذي كان عبارة عن حديقة غناء تحيط به منسائر جهاته وحملته دواعي إخلاصه على أن يلازم المكان طوال تلك الأيام الثلاثة ، فلميكن يبارحه إلا بعد منتصف الليل ، أو إلى شأن ضروري له ، ثم لا يلبث أن يعود مسرعاإلى مكانه في انتظار خروج صديقه ليهنئه بحبه الذي سعد به . والحق أن شعور ممو فيتلك الفترة لا سيما بقية الليلة الأولى عندما انفضت حشود الناس ، وطوى بساط ذلكالأنس والصخب ، ولم يبق سواه واقفا عند ذلك القصر وسط سكون الليل - كان شعورا ثائراألهب شوق فؤاده ، وأحاطه بمعنى الوحشة والغربة ، وأيقظ آلامه التي بين ضلوعه، وأثارحبه العنيف الذي كان من غير شك أشد من حب تاج الدين . فإذا علمت أيضا بأنه كان قدلمح مليكة قلبه في تلك الليلة والليالي التي قبلها ولمحته أكثر من مرة ، ورأتهاعيناه وهي غارقة إلى جانب أختها في أبهى زينة وحلي - أدركت أن شعوره إذ ذاك جديرابأن يحدث أثرا جبارا في نفسه ، ومن بعيد أن يتحمله مهما آتاه الله وأمده به من جلدوصبر . غير أن بردا من الآمال المنعشة كانت تسري إذ ذاك في مشاعره ، فتخففمقدارا من الآلام والثورة في نفسه وتجعل فكره ينشغل بنشوتها عن الإنتباه إلى تلكاللواعج الشديدة . فلقد كان لا يفتأ - وهو يجوب كالحارس في أطراف القصر وبينحدائقه - يفكر في الك الملاطفة التي أبداها الأمير نحوه تلك الليلة والليالي التيقبلها ، وقد أخذ يتراءى له من ذلك أكثر من دليل على أن آماله قد راحت تزدهر . إذهل يمكن أن يعتبر شيء من ذلك التقدير الذي أبداه لما بينه وبين تاج الدين منعلاقةالود والخلة ، أو اختياره له خاصة أن يكون قرينه وحفيظه إلى جانبه في عرسه ، أو تلكالملامح الخاصة المفاجئة التي ظهرت في عنايته وعطفه عندما امره بأن يقعد إلى جانبتاج الدين ويتتزيى بمثل زيه وحلته ، هل يمكن أن يكون شيء من ذلك إلا أكبر برهانقاطع على أنه لن يمانع أبدا من أن يسعد هو الآخر ب’’ زين ‘‘ وعلى أن يتزوجه بها ،ويقيم لهما مثل هذا الحفل الرائع عند أول إشارة أو رجاء ؟!.... بل من يدري ؟ فقديكون الأمير لاحظ طرفا من هذا الحب المتمرد في فؤاده وأدركته رقة ورحمة لحرمانه منهذا الحفل البهيج الذي ينفرد فيه صديقه بالسعادة والهناء ، فأراد أن يشعره بالأمل ،ويدخل إلى قلبه البشرى ، فجعل من تصرفه هذا ألطف إشارة إلى ذلك . وأخذت هذهالآمال الجميلة تجعله يشرع في تصوير حياة سعادته وبناء أحلام حبه . وراح يفكر كيفأنه سيحاول تشييد صرح جميل كصرح صديقه ، وسيجعله يزدان بأبهى أثاث ويحيطه بفتنةخضراء كهذه الحديقة . بل لقد حدثته نفسه بأنه لا بد من أن يشرع في التفكير لتدبيركل هذا من الآن فما أضيق الوقت إذا تقدم إلى الأمير بعد أيام لخطبة حبيبة فؤاده ،وعاجله الأمير في كل شيء كما عاجل تاج الدين ، وما أشد على نفسه الصبر بعد ذلك فيانتظار تهييء الجهاز وتدبير الأسباب . والخلاصة أن حلة ممو النفسية في تلكالأيام الثلاثة التي كانت أول عهد فراقه عن تاج الدين ، والتي قطعها منفردا في فناءقصره ينتظر خروجه ورؤيته - كانت أشبه ما تكون بقوس قزح من ألوان مختلفة من المشاعروالأحاسيس ، لا يمكن أن يسمو إلى تصوريها أي بيان . فلقد امتزج الحب القاسي العنيفبأد لهيب من الشوق وخالطهما الأمل المزدهر في أجمل صوره وأصدق إشراقه ، ثم انبثت كلذلك مجتما في سائر مشاعره ، وراح يخلق له من بين ضرام الواجد أحلاما سعيدة ، ونشوةعطرة ، وابتهاجا بفرحة صديقه ووصوله إلى مبتغاه .
وفي صبيحة اليوم الثالثخرج تاج الدين ... وكان أول ما دعاه إلى الخروج هو تذكره لممو . فلقد طالت غيبتهعنه ، واشتاق إلى أن يراه ويطمأن على حالته مع قلبه الجريح . خرج من القصر .. وأخذ يسير في الحديقة متجها نحو باباها الخارجي قاصدا دار ممو دون أن يعلم أنه لايزال واقفا هناك ، ولم ينتبه إلى وجوده إلا بعد أن لمحه على البعد وأسرع يجري إليه .. وهناك امتزج الصديقان في عناق طويل ، ونظر تاج الدين إلى وجه صديقه ، فأدركأن هناك آلاما ولواعج في نفسه ، قد حاول طيها وجمعها في زاوية صغيرة من قلبه لكييتسع للابتهاج التام بفرحة أخيه ... فتنحى به جانبا من الحديقة وأخذ بكفه قائلا : ’’ أقسم لك يا صديقي أنني لو وجدت أي سبيل لتقديم سعادتك على سعادتي ولو ظهرلي أي طريق يمكنني أن أفتدي فيها هنائي وحبي بلحظة واحدة من حبك وسعادتك لما توانيتعن ذلك . ولكنك تعلم أن هذه هي السبيل الوحيدة لوصول كلينا إلى آمالنا التي علقالقضاء قلبينا بها . وثق أنني لن أستسيغ طعم سعادتي التي تهنئني بها إلا بعد أنيسعدني التوفيق في إيصالك إلى مناك وآمال حبك .‘‘ وهكذا ظل الصديقان برهة منالوقت يتبادلان التهنئة والمصابرة . هذا يهنئه من كل قلبه ويشعره بفرحة فؤاده منأجل سعادته ، وذاك يواسيه ويحمله على الصبر ، ويبشره بقرب وصاله هوأيضا .
الصديق ...؟؟؟؟ ألا ما أثمن الصديق الذي يتسع قلبه المحروم للابتهاجبسعادتك ، ويقيم وراء صدره المكلوم عرسا يوم فرحك . هذا الصديق الذي منحتكالدنيا مثله فإفده بسائر مظاهرها ومن فيها ، فإنما هو سراج من أجلك في الظلماء ،وهو أمل لقلبك عند اليأس .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:31 pm | |
| الفتنة
الكون كله منذ فجر الحياة مسرحللصور المتضاد والمظاهر المتناقضة . فهذا الليل والنهار ، والنور والظلام ، هذهالشمس المتوهجة والظلال الوارفة ، هذا الهجر والوصال ، والمآتم والأعراس ، هذهالمآسي والأفراح ، وهذا البؤس والنعيم ، هذه الورود الناعمة بين أشواكها الدامية - كل ذلك نماذج لمشهد هذا الكون المتناقض أبدعه الله كذلك ليوجد في كل من الخير والشرمعناه ، وليستبين كل منهما بالآخر ويتميز كل عنصر بنقيضه ثم لكي تشيع في الكون روحالحركة والكفاح ولترتبط هذة الخلائق بنظام السعي والتعاون . ويأبى هذا السنن فيالكون إلا أن يجري في قصتنا أيضا ، فيجمع فيها عنصري الخير والشر ويمزج فرحةالسعادة بدموع البؤس ... وعنصر الشر في هذه القصة هو حاجب خاص لديوان الأمير ، أمااسمه ’’ بكر ‘‘ وأما اسم أبيه فلم يكن يعرف من هو حتى يعرف اسمه . كانت لهذا الحاجبنفس تنطوي على أشد ألوان الخبث والمكر . وكأنما غذيت روحه بحب الفتنة فهو يتعشقالولوج فيها حيثما لاح له بابها . ولم يكن في مظهره قصيرا وقميئا فقط ، بل كان إلىذلك أجرد الشكل باهت السحنة ذا عينيت تشعان بمزيج من الحقد والكراهية والحسد . وكثيرا ما كان يقترح تاج الدين للأمير أن لو استغنى عن هذا الماكر الخبيثواستبدل به آخر يكون أليق بالقصر ، وأشرف منه خلقا وأصلا . وكان يقول له عنه فيمايقول : ’’ ... إن الحاجب يا مولاي وإن كان لا يرجى منهم فوق ما يرجى من أنالكلاب فيها طبيعة الإخلاص والوفاء أما هذا فإنه لا يعنيه شيء سمى أن يكون وغداخبيثا ...‘‘ فكان الأمير يهز رأسه لكلامه ، ثم يبتسم إليه قائلا : ’’ إنحياتنا يا تاج الدين تضطرنا إلى سفيه من هذا النوع ... فإن لنا خارج هذا القصرشؤونا ومصالح ... ولنا أيضا هناك مشكلات ذات عقد ... قد نحتاج إلى متاعب كثيرة فيحلها لو لم نحو من حولنا سفهاء من هذا القبيل . وإن كل هؤلاء الحجاب والحراس الذينتراهم من حول قصور الأمراء والحكام ، لا يراد منهم أن يكونوا حجابا بمقدار ما يرادمنهم أن يكونوا أداة بارعة لتسيير شؤونهم وحل معضلاتهم . أما أنه غير ذي نسب وأصل ،فلن يضير شيء من ذلك في مصالحنا ما دامت تقضى ، وأما أنه ذو فتنة و خبث فإن شيئا منخبثه وفتنته لن يتطاول إلينا بمكروه أو ضرر .‘‘ وهكذا أصر الأمير على استبقائه ،ولك يستطع تاج الدين أن يقنعه بوجود ما يدعو إلى طرده والاستبدال به . ومضتالأيام لك يَخْفَ فيها على بكر أن تاج الدين يكنُّ له كراهية وبغضا ، فطوى في قرارةنفسه أمرا ، وراح يضع بين عينيه خيوطا لفتنة يثيرها على رأس تاج الدين ... ومضىيتحين لذلك الفرص السانحة ، إلى أن كانت ذات أمسية .... كان الأمير إذ ذاك جالساعلى انفراد في جانب من حديقة قصره ، وليس من أحد حوله إلا حاجبه بكر الذي كانمنهمكا على مقربة منه في تقليم بعض الأغصان اليابسة من أشجار الحديقة وتنسيقها . ولاحت لبكر فرصة سانحة عندما سأله الأمير : ’’ أجاء تاج الدين في ذلك اليومإلى القصر أم لا ؟ ‘‘ ... فقد أجابه قائلا : ’’ إن تاج الدين يا مولاي لم يمربالقصر منذ أربعة أيام .‘‘ وسكت هنيهة ، ثم عاد فقال : ’’ كأني أرى يا مولايأن تاج الدين لم يعد يفرغ للتردد على الديوان كسابق عهده ‘‘ ! فسأله الأمير : ’’ وما الذي أصبح يشغله ؟ ‘‘ ’’ لا أدري ، قد يكون مجرد أنه لم يجد داعيالأن يتردد كثيرا ...‘‘ ثم انتهز فرصة تفكير بدت ملامحه على وجه الأمير ودنا إليهقائلا : ’’ الواقع يا مولاي أنه لم يكن يمكن أحد من الناس أن يصدق بأن الأميرةستي يمكن أن تقدم رخيصة بهذا الشكل لمثل تاج الدين في حين أن جميع أمراء كردستانوسلاطينها كانوا يتمنون هذا الشرف لقاء جميع ما تمتد أيديهم من مجد ومال ‘‘. فأجابه الأمير وقد بدا عليه التقزز من كلامه: ’’ ومن يكون هؤلاء الذينيحسبون ويظنون ..؟ بل من يكون أولئك الأمراء والسلاطين أمام كل من تاج الدينوشقيقيه ..؟ إن كل واحد من هؤلاء الأشقاء الأبطل يساوي عندنا في يوم واحد من أيامالحرب الكريهة جميع ذلك الركام من الأموال والسلاطين ‘‘. فلما سمع بكر هذهاللهجة من الأمير أيقن أن ذلك الإسلوب لن يفيده فيما يريد . فغير مجرى الحديث وقالوهو يتشاغل بما بين يديه : ’’ لا شك أنه يجمل بالسادة أن يشجعوا غلكمانهم علىالمزيد من الاستقامة والخدمة عن طريق إكرامهم وإشراكهم في مجالس صفوهم وأنسهم ،ولكن بشرط أن لا ينسيهم الأنس حقيقتهم ولا يسكرهم عن أداء واجباتهم ، وأن تظلانحناآتهم للأوامر في ساعات الصفو والمرح ، موجودة بنفسها عند الشدائد وفي ساعةالكر والفر . غير أنني أخشى يا مولاي أن يكون بعض هذا التفضل منصرفا إلى غيرأهله فتكون نتيجته الكفران والطغيان . إن البخيل يا مولاي لا تليق بين يديه النعمةوالثراء ، والحقير لا يلائمه ...‘‘ وهنا قاطعه الأمير بحدة شديدة قائلا : ’’ صه أيها لاقذر ، فما الحقير غيرك . إنني أعلم من هو تاج الدين في حبه وإخلاصه ،وأعلم ما يجب عليَّ فعله ، فلا تتماد فيما ليس من شأنك ‘‘ ... فتصاغر بكر حولنفسه ، وتمتم قائلا : ’’ لقد كنت أظن فيه هذا الإخلاص ...لولا أني اطلعت منه علىأمر لعل مولاي الأمير لم يطلع عليه ..‘‘ فقال له الأمير في اشمئزاز : ’’ وماهو هذا الذي اطلعت عليه ؟ ‘‘ - ’’ لقد أصبح يا مولاي منذ أوليتموه شرف هذا القربيستقل بالتصرف في كثير من شؤون القصر الخاصة ... ولقد كان أول ما أذهلني من تصرفاتهفي ذلك هو أن راح يقدم الأميرة ’’ زين ‘‘ إلى صديقه ممو ، ويده بتزويجها منه ...!‘‘ وما إن سمع الأمير هذا الكلام حتى أخ الذهول منه كل مأخذ ، وهب من مكانهيدير عينيه فيما حوله من الفضاء قائلا : ’’ ماذا ؟ تاج الدين ... يتصرف في مثلهذا الشأن دون أن أعلم ..؟ تاج الدين يقوم بتزويج شقيقتي لمن يريد . دون أنيستشيرني على الأقل ؟ أم يبدو والله قد أسرفت في العطف عليه حتى لم تبق في نفسه أيةرهبة مني ولا خوف ‘‘. فدنا منه بكر قائلا : ’’ أليس يدري مولاي من هو تاجالدين ..؟ إنه ذلك المعتز بنفسه ، المغرور برأسه حتى قبل أن يحظى من مولاي بهذاالعطف ... فكيف وقد نُفح غروره اليوم ؟ وإن أشد ما أخشاه والله يا مولاي أن يكونهذا الرجل يهدف من وراء استبداده الطائش إلى غرس نفوذه ونفوذ ذويه في رحاب القصر عنطريق المناسبة والمصاهرة ، ليعلم بعد ذلك الإمارة لنفسه ، ويسلسلها من لدن آبائهوأجداده ..‘‘ وعاد الأمير فجلس في مكانه وهو يقول : ’’ لقد كان لي عزم واللهعلى أن أجعل زينا من نصيب ممو ، وأن أقيم أفراحهما عما قريب . ولكن ها أنذا أقسماليوم بفخر أجدادي فوق هذه الأرض ألا أدع ذلك يكون ، ولو جرت في سبيله سيول منالدماء حولي . فليتقدم إليّ إن شاء كل من ضجر من حمل رأسه ليتوسط أو يستعمل نفوذهفي ذلك .‘‘ وهكذا أقام الأمير ، بفتنة حاجبه الخبيث ، أصلب حاجز بينه وبين كل منكانوا يريدون أن يتوسطوا إليه في تزويج ’’ زين ‘‘ لصديق تاج الدين ، وهدم آخر سافمن الأمل في إقامة فرح هذين الحبيبين ، ولكن دون أن يعلم ممو أو تاج الدين أو أيواحد من أصدقائهما هذه الوشاية التي تسببت في ذلك .. وهذا الدور الخبيث الذي لعبهبكر للوصول باأمير إلى تلك القسوة في الموضوع . غاية الأمر أنه كان يصد إليه كل منكان يفاتحه في هذا الشأن ، أو يحاول الرجاء أو التوسل إليه لتزويج ممو من شقيقتهزين وكان آخر ما قاله في مجلس ضم تاج الدين وشقيقيه وجمعا كبيرا من أصدقائهم ،يحاولون فيه استرضاءه بشتى الوسائل ، هو أن قال : ’’ ... تأكدوا جميعا أنه قديمكن أن تظل زين طوال حياتها عزبة في القصر ، ولكن لا يمكن أبدا أن أجعلها يوما مامن نصيب ممو ولا داعي أيضا إلى أن تعرفوا سببا لذلك أكثر من أنني هكذا أردت . ولاداعي أيضا إلى أن تعيدوا بعد اليوم إلى سمعي هذا الحديث ، إلا إذا رأيتم داعيا إلىإثارة شر أنتم اليوم في غنى عنه ..‘‘ ولقد كاد تاج الدين أن يعلن للأمير إذ ذاكأنهم ليسوا في غنى عن هذا الشر ما دام هو وحده الثمن لما تقدموا إليه برجاء تحقيقه، لولا أنه كان ذا أمل في تطورات المستقبل التي قد تسهل الموضوع ، ولولا أنه كانيرجو استرضاء الأمير يوما ما عن طريق السياسة واللين عوضا عن الثورة والشدة .
في محراب الأحزان
الأيام تمر على ستي وتاج الدين صافية مشرقة ، والدهر يبتسم لهما بألوان من الصفو والسرور ، ويمد من حولهما حياتهما الجديدة ظلالا وارفة من النعيم ، ويقدم كؤوسا مترعة من السعادة التي أنستهما أيام اللوعة والفراق . والحبيبان الآخران لا يزالان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما . يقضي كل منهما الليالي والأيام في صومعة انفراده لا يبصر من حوله أي مؤنس ولا ينتهي إلى سمعه صوت أي راحم . والهموم إذا لم تجد صاحبا يخفف من آلامها ، والزفرات إن لم تصادف مواسيا يبردمن حرها ، فأنى لصاحب هذه الهموم والزفرات أن يتحمل ؟ وأنى للتجمل والهدوء أن يجدوسيلة إلى القلب ؟ لا بد للأفراح لكي تصبح مشرقة ، ولا بد للأحزان لكي تكون متحملةمن صاحب وشريك فيهما . وإلا فما أحرى بالهموم التي تحيط بها الوحشة والنفراد أن تصبح سببا للهياج والجنون . كان تاج الدين فيما مضى أليف ممو لدى سروره وأحزانه فكان خير طبيب ومواس لقلبه كلما هاج به الشوق . وكانت ستي أيضا هي وحدها مأوى الآلام والأفراح لأختها زين ، فمدامعها لا تنسكب إلا بين أحضانها ، وسرورها لا يتمإلا إلى جانبها . أما اليوم فقد مضى هذان الاثنان إلى سبيل سعادتهما ، وانشغل كل منهما بالفرحة بالآخر ... وبقي ممو لوحدته الموحشة ، يشكو فلا يجد من حوله من يتوجعإله ، ويتأوه فلا يرى أمامه من يواسيه . كما بقيت زين أيضا منطوية على آلامها دون أن يدرك أحد ما بها ، فهي دائما مختلية في غرفتها ، تسكب مدامعها بين ظلمات الوحشةوالنفراد ، تتأوه آنا من وحشتها في ذلك القصر ، وتبكي آنا آخر حظها التعس المشؤوم . ومضى على زين من عرس أختها أربعون يوما ... وهي تقاسي آلاما ولواعج تحرق ضلوعها ، ولا تكشف إلى أحد من المخلوقات سرها . أربعون يوما ... كانت زين في خلالها شاردة اللب ، قد اتخذت من غرفتها محربا للبكاء والزفرات ، طعامها كله غصه ،وشرابها مزيج بالدموع . أربعون يوما ... بدت من ورائها تلك الغادة التي طالماسحر جمالها وأسكر ، وقد ذبل منها ذلك الجمال وتهدل ، وعاد كأنه البدر إذ يسري بعدتألقه نحو الرقة والذوبان . ولم يعد يخفي على إحدى فتيات القصر وجواريه ما انتهىإليه حالها . فكن يعجبن من أمرها ، ويرثين لشأنها . ولم تكن تشك إحداهن في أنهاتقاسي هذه الآلام لفراق أختها التي تحبها حبا شديدا .. فكانت كثيرا ما تنتهز إحداهن المناسبات لتخفف عنها وطأة هذه الذكرى لشقيقتها ، ولكن دون أي جدوى . وفي ذات يوم تجمعن كلهن ، وذهبن إليها في غرفتها التي تظل مختلية فيها ، وجلسن من حولهايواسينها ويقلن لها في رقة وعطف :
’’ كم لك أيتها الأميرة الصغيرة تسكبين هذه الدموع في غزارة وألم ؟! وإلى متى تعيشين مع هذه الأحزان وتتوسدين هذا الهم ؟! إن أختك وإن تكن فارقتك غير أنها انطلقت سعيدة مبتهجة بشريك حياتها . فبأي سبب تتقلب هي هناك في سعادتها وأنسها ، وأنت ههنا تجلسين بين الدموع والأجزان ؟ حسبك يا مولاتي ... حسبك هذا الجزع الذي لا داعي إليه . قومي .. فاقتلعي من قلبك هذه الهموم والآلام ، وأزيحي عن مفاتنك قتام هذه الأحزان . جففي لحظيك من هذه الدموع ليعود إليهما سحرهما ، وأزيلي عن وجهك ضباب هذه الوحشة ليرجع إليه إشراقه ... اغسلي عن هذا القدح الرقراق من آثار الدموع ليمتلىء كما كان بياوقت الرحيق ، فقد آن أن تعود السكرة إلى الرؤوس وتطوف النشوة بالقلوب . دعي هذه الغرفة التي جعلت منهابزفراتك جحيما ، ولينبعث كم هذه القوام رشاقته وسط أبهاء القصر وقيعانة فقد طالتعليه فترة الكمود . مزقي عن الورود حجاب هذا الإنقباض ليتجلى بهاؤها . دعي هذهالجدائل تنفرد متهادية على كتفيك في دلال ، وائذني للسوالف من حول صدغيك والخصل الملتوية من فوق جبينك أن تهتز بهما نسمات الإغراء . أعيدي إلى رونق هذا النحر عقده، وليتدل على الجانبين من ليل هذا الشعر قرطاه . هذه الدنيا وزينتها ... هذه الطبيعة وبهجتها .. هذه الأيام من العمر التي تطل عليك بثغر ملؤه البهجة والسعادة .. لا تدعي كل ذلك يفوتك وأنت مطرقة.. لا تسكري نفسك عنها بكؤوس الدمع والأحزان . الحياة جميلة يا مولاتي ، وأنت أجمل منها . والدنيا من حولك مشرقة ، وإشراقك أتم منها . فانهضي ... وافرحي .. وابتسمي .. ليتم في الحياة الجمال .. ويتكامل للدنيا الإشراق ..‘‘ وهنا سكتت الفتيات وقطعن حديثهن . فقد أخذ يتغلب على كلامهن نشيج صدرها ، واختلطت أصواتهن في صوت بكائها ، وراحت تجيب حديثهن بوابل من الدموعلم تسكب مثله إلى ذلك اليوم . ولا بدع ، فالشوق نار في الفؤاد لا تزيده النصيحةإلا اتقادا ، وهو سر مستكن في الجوانح لا يفيده العتب واللوم إلا افتضاح . لا سيماإن كان هذا الناصح لا يدري سر الحزن والألم فيمن ينصحه ، فهو يلقي على سمعه كلامابعيدا عن دنيا قلبه وآلامه ، لا ريب أن ذلك ا يزيد في نفسه إلا شعور بالغربةوإحساسا بالوحشة والآلام . ووجمت الفتيات في حزن وأسف ... وتعلقت أنظارهن بشفتي زين ينتظرن منها أية كلمةتشير بها إلى سبب كل هذه الحرقة والعذاب . ولكن عبرات عينيها ، ونشيج صدرها ، لم يكن شيء من ذلك يدع لها فرصة لأي حديث . ثم نهض نجميعا في ندم شديد مما أقدمت عليه ... وتسللن من غرفتها الواحدة تلو الأخرى في هدوء، وقد ارتسمت على ملامحن مظاهر الدهشة والإنكسار . وأغلق باب غرفتها بعد أن خرجت آخر واحدة منهن ... فرفعت وجهها تحدق النظر فيما أخذ يحيط بها من رهبة الوحشةوالانفراد ، وأخذت تتراءى من حولها أطياف تلك الفتيات ، وقد انقلب كل واحد منها إلى أشباح متجسدة من الهموم والغموم .. وأحست من قرارة قلبها المحطم أن هؤلاء هم وحده مأصدقاؤها الذين ألفوها وألفتهم ، وخالطوا كل حبة من قلبها ونفسها . فراحت تتأمل منحولها تلك الأشباح ، وأخذت تحدثها قائلة : ’’
مرحبا بكم أيها الأصدقاء .. أيهاالأصدقاء للنفوس البائسة والندامى للقلوب المكلومة .. أيها الشركاء في سرِّ ما رواءالجوانح المعذبة ، وأطياف الوسن لعيون الخواطر الحزينة ... يا كوؤس الراح للحلوق المريرة ، ومظهر البهجة أمام العيون القريحة ... العشاق جميعهم قد وصلو إلى محاريب آلامهم ، والسالكون كلهم قد انتهوا إلى مباهج أنسهم وسعادتهم . وها هو ذاقلبي المهجور ساكن فيما بينكم خال من اجلكم ، لا يجوب أحد غيركم في أركانه . لكم اليوم أن ترتعوا فيه كما تشاؤون وان تتصرفوا به كما تريدون ، وأن تتجازوا ذلك إلى كل جهة من مشاعري وطرف من جوارحي . عيناي ... سأتخذ منكم شعاع رقادهما ، شفتاي ... سأملأ منكم كؤوس خمرها ، أفكاري ... سأجعل إليكم في أيامي السود ، وما أشد شوقي إلىالأنس بكم في ليالي الظلماء .‘‘ ثم يلوح لعينيها بين أشباح تلك الهموم خيال ’’ ستي ‘‘ وكأنها جالسة إليها ، تتواسيان وتتشاكيان كما كانتا في أيامهما السابقة ،فتتألق عيناها نحو ذلك الوهم ، وتمضي إليه لتعانقه قائلة : ’’
أختاه ... يا روح زين ونور بصرها ، يا جليسة أفراحي وهمي ، وشريكة سر قلبي ، يا عيش احزان نفسي وجناح المسرة لروحي . لله هذا الدهر الذي جمع نفسينا في طبيعة واحدة ، ثم فرق بيننا فيالحظ والسعادة ؟ ما أعظم شكري لله على أن آتاك الحظ الذي تريدين ، وأسعدك بالطالع الذي كنت تحلمين . فليبتسم لك الدهر ، فإن في ابتسامته عزاء لهمي . ولتسعدك الحياة، ففي إسعادها تهوين لشقائي . أما حظي ، فمهما اشتد سواده الذي به فلن يتجاوزالقسمة التي يجب أن أرضى بها وأسكن إليها . كانت قسمتي في الأزل هذه الهموم التيتحيط من حولي ، والبؤس الذي يقيم في نفسي . ذلك هو المقدر المسطور .. صفو الحياةوأفراحها من أجلك ، وحزنها وآلامها لقلبي . لك تاج الدين الذي أعطاك الدنيا فيهأفراحها ، ولي ممو الذي قدمته إليَّ في همومها وشقائها . فللّه مني ما شاء من قبول بحكمه ورضى بقسمته .‘‘ أما الليل فكانت في معظم أوقاتها تأبى أيضا إلا أن تسهرمختلية في غرفتها . وكثيرا ما كان يحلو لها أن تجلس إلى جانب شمعة من الشموع المتقدة في أنحائها ، تتأمل احتراقها ، وقطراتها التي تجري كالدمع من جهاتها ،وسيرها نحو الذوبان والنتهاء . فتشعر في أسى ولوعة ليمة قد غدت شمعة أخرى بين هذهالشموع ، تسير مثلها نحو الاضمحلال و الانطفاء . ثم تثبت نظرها مطرقة في تلك الشمعةوتحدثها قائلة : ’’
أيتها الأخت القائمة حيالي ، المحترقة بمثل ناري . لك أنتغتبطي وتحمدي الأقدار على ما بين آلامي وآلامك من فوق مثل ما بين مشرق الشمس ومغربها . نارك إنما تعلو ظاهرا منك فقط ، وناري يتأجج لهيبها من أعماق قلبي وباطني . نارك إنما تمس منك خيط هذا اللسان ، ثم لا تتجازه ، وناري يسري لظاها وراء جميع مسالك روحي ، ويقيم لهيبها حربا في كل جوانحي وجسمي . هو في أعلاك نور يشع منحولك بهجة وضياء . وهو في باطني دكنة تملأ ما حولي ظلمات وقتاما . هو في لسانك سحر من البلاغة والتعبير والبيان ، وهو في جوانحي وبين ضلوعي آلام كاوية تفقدني النطق والكلام . ثم أين أنت من أجيج ناري وزفرات نفسي إذ ترقدين منذ لمعة الفجرإلى المساء ، زفرات كاوية ... ولظى مستعر .. وأجيج متقد .. لا يكاد شيء من ذلك يريح نفسي ساعة من ليل أو نهار ، ليس من فم يطفئه ، أو نسمة تخمده .‘‘ وتلمح أثناءاطراقتها في ذلك الليل فراشات تطوف حول تلك الشموع ، فتنظر إليها بعينين زائغتينبالدمع قائلة : ’’
أيها الطائر الهارب من عش الفراق ، والبلبل المولع بأزاهيراللهب ، أيها الحجة الصائبة على المدعي الكاذب ، والباذل روحه رخيصة في شجاعة وشوق . قل لي ، ألا يدركك الملال ساعة من هذا الدوران ، ألا تشعر بتعب من هذا السعيالمرتعش الدائب حول هذا المطاف ؟ ولكن أسفا .. أسفا أن يقارن المتجه نحو الموت برزانة وجأش بذاك الذي يسعى إليه في ضجر مرتعش . كان عليك أن تعلم أن هذا الهلع في السعي مظهر للجزع المعيب ، وأن ارتعاشك الدائب طيش لا ينبغي ، وأن تعجلك للفناءقبل أن ينضج منك الجسم بشوقه إنما هو تخلص من الصبر وآلامه . هلا قعدت تصبر مثلي، إلى أن يذوب الجسم في بوتقة الحشا ، وتتلاشى المادة في ضرام الروح ؟ إذا لبدلت منك هذه الحقيقة الأرضية بروح القدس والخلود ، ولعادت روحا صافية في كأس شفافة من النور . وإذا أمكنك أن تعانق هذا اللهب من دون احتراق وأن تتقلب في جنباته من غيراكتواء .‘‘ وهكذا كانت تمر حياة زين ... خلوات مع الأشباح والأطياف وحديث مع الخيالات والأوهام ، يطوف كل ذلك بها ، ثم يستقر في ذهنها وقلبها وكل مشاعرها شيءواحد ... هو اسم ممو ... هو حظها المنكوب الذي أبعداعن أليف روحها ، وأخرجها من أفراح الدنيا ونعيمها .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:32 pm | |
| آلام ممو
أما ’’ ممو ‘‘ فقد كان عديم الصبروالقرار حتى عندما كان صفيه لا يزال إلى جانبه ، يشركه في ألمه ووجده ، فكيف بهاليوم ، وقد افتقد من جانبه الصديق ، وغاب عن قلبه الأمل ، ولك يبق إلا خيال ’’ زين ‘‘ يشع محياها في ذهنه من خلف ضباب اليأس الأليم القاتل ..!! لقد كانت فترةوجيزة من الأيام ... سرعان ما إختفى فيها ذلك الشاب الرائع ، المعتز بقوته وشخصه ،المعجب ببطولته وبأسه وظهر من ورائها إنسان آخر ذو ملامح ذابلة . ينظر ما حولهبعينين شاردتين ، كأن فيه عتها أو جنونا ، يهيم على وجهه بياض نهاره وسواد ليله ،متنقلا بين الآكام والتلال ، يذرع مرة شواطئ دجلة جيئة وذهابا ، ويتسلق أخرى ذرىالجبال صعودا ونزولا . لا يقر له مكان في أي جهة ، ولا يكاد يستأنس بأي انسان . إنه ممو بعينه .. ذلك العاشق الذي صدمه اليأس في قلبه صدمة واحدة بعد أن شبتالآمال في نفسه ، وكادت تزدهر . وهو بعينه أيضا صفي تاج الدين .. إنه اليوم يراهفلا يكاد يتبينه ، ويجلس إليه ، فلا يرفع رأسه عن إطراقته ، ولا يكلمه بغير آهاتهوزفراته . وهو بعينه ذاك الذي كان سكرتيرا في ديوان الأمير .. إنه اليوم يدخلالديوان ، ويرى الأمير أمامه ، فلا يكاد يستطيع أن يخفي نشيجه . ولكنه مع ذلك ظليكتم سر دائه عن كل مخلوق ، إلا صفيه تاج الدين الذي لم يعد يملك أي وسيلة فيمحاولة إسعاده . أما حينما يهيج به الوجد ويضيق به الكتمان فقد كان يأخذ سمتهإلى خلوات الشطآن ، أو في بعض سفوح الجبال ، حيث يبعث هناك ما شاء من زفراته وأناته، ويسكب كل ما في عينيه من دموع ويتخذ من الرياح السارية من حوله ، والمياه الجاريةمن أمامه جلساء يشكو إليهم همه ويشرح لهم ناره ... كان يمضي ساعات على شاطئ دجلة، جالسا إليه في حديث طويل ، يسكبه على صفحته الرقراقة ، قائلا : ’’ أيهاالمتدفق كدمعي ، الهائج مثل نار شوقي . ما لي لا أراك في ساعة من ليل أو نهارإلا هائجا زخارا ، لا يقر لك قرار ، ولا يهدأ منك البال ؟! أم يبدو أنك تعانيمثلي ويلات هذا العشق وجنونه ، وينطوي سرك على حبيب أفقدك القرار والهدوء فهيالذكرى تثير في طيات جوانحك هذه الثورة الدائبة ؟ ولكن من يكون معشوقك غير هذهالجزيرة الخضراء التي تظل دائرا من حولها ؟ ففيم الهياج إذا ؟ وهي نائمة بين ذراعيكمنازلها مستقرة في قلبك ، يمناك ملتفة منها حول الخصر ، وشمالك مبسوطة فوق عقدالنحر . كل هذا ، ثم لا تشعر بالنعمة ووجوب شكرها ! ... تظل ترغي وتزبد . هياجكيعلو إلى عنان السماء ، وأُوراك ينبعث صداه إلى ديار بغداد ! ألا قل لي ، ما الذيتبغيه بعد كل ما أنت فيه ؟ وأي أمل ضاع منك ، حتى تظل حول نفسك من أجله ؟ لقدكان أولى أن يكون نحيبك هذا في حلقي ، وهياجك في نفسي ، ولقد كنت أجدر منك بأن تعلوإلى السماء زفراتي ، وأن ينبعث حول هذا البلد أوار قلبي . فأنا الذي أظل متحاملابقلبي على خنجر قد غرس فيه نصله . تراءى لعيني منه ، إذ كان بعيدا ، بريق ماء عذب ،ثم استقر منه في فؤادي سم زعاف ليس له دواء له اليوم ! هو يا دجلة قلب مجدب ،أحرقه وهج اليأس ، فما ضر لو نظرت إليه مرة أو مررت عليه في تطوافك حول هذا البساطالأخضر الموشى بالورود وأزهار النرجس والبنفسج ؟ فربما كان أخضرّ فيه أيضا غصن ، أوهفت بين سمومه نسمة باردة .‘‘ ثم يلتفت إلى الرياح التي تظل هافة من حوله ،فيتخذ منها رسولا إلى مليك قلبه ، ويروح يلقنها رسالته إليه قائلا : ’’ أيهاالنسيم الساري في رقة الروح ، المفتوح أمامه باب كل عزيز وممنوع . هل لك أن تلتفتإلى رجاء يعرضه عليك هذا المقيد الحبوس ؟ إن كان كذلك ، فامض أيها النسيم في اتجاههذا المشرق ، فسترى فيه شدة الروعة والجمال ، ومحراب سعادتي وأنسي . فإذا ما وصلتفقف بالأعتاب أولا لتقبلها . ثم ادن إلى مليك ذلك الجمال ، ولكن في تواضع ولطف ،لكي تؤدي بين يديه الثناء اللائق وتقوم له بالتعظيم الملائم . ثم تراجع خطوات إلىالوراء لتعرض عليه رسالة الروح المستعرة .. قل له إنها من مدعوك الذي دمه مداد قلمه، وجسمه المتقد صفحة كتابته . فإذا ما رأيت رقة بدت ملامحها على وجهه فقل له فيأدب ولطف : إنه يا مولاي بائس مسكين .. عاش فترة في حلم قصير من عطفك ، ثم سرعان ماتبدد الحلم وضاع العطف ، وغدا يتخبط في دياجير البؤس والشقاء . إنه ليس يدري واللهأي ذنب ارتكبه ، اللهم إلا قلبا يعرف أنه كان يخفق بين جنبيه ، وهو اليوم هارب منهقد افتقده منذ أمد طويل . ربما كان وهو يخفق بين جوانحه صاحب هوس وهوى يميل إليه ،وربما كان قد اقترف إذ ذاك إثما أو جنى ذنبا ، كأي واحد من هؤلاء الذين خلق معهمالنقص والسهو والنسيان . نعم ، للمالك يا مولاي أن لا يتجاوز عن عصيان عبده ، وأنيتصرف كما يشاء في عقابه . ولكن هل من البعيد أيضا أن يتغمده بعطفه ، وأن تدركهالرحمة له فيدينه إلى ظل حماه ولطفه ..؟ ثم لا تنس أيها الصبا أن تعود إليّبغبار من تراب ذلك المكان . عد إليّ ولو بقليل منه ، فإن ذراته رائحة قلبي وبلسمدائي .‘‘ أمّا أشد ما يكون تألما واحتراقا ، فذلك عندما يُرى منطويا على نفسهمطرقا في غيبوبة عن كل ما حوله من مظاهر الدنيا وصور الطبيعة وأفراد الناس . إنهفي تلك الساعة يكون في مشادة دامية مع قلبه . قلبه الذي أدبر عنه مرة واحدة ولم يعديتعرف إليه . إنه يظل يخاطبه في توجع شديد قائلا : -’’ أيها الخائن الغدار ... قل لي .. هل تتذكر ..؟ هل تذكر العهود والمواثيق والأيمان ، التي كنت يوما ماتسوقها إليّ جملة واحدة لتؤكد بها مبلغ وفائك وإخلاصك ؟ هل تذكر إذ كنت تقرر لي فيشدة وعزم ، بأنك صادق معي في كل أمر ، وأنك مرتبط بي في كل آن ووقت . هل تذكر إذكنت تفتخر أمامي ، مدعيا بملء شدقك أنك ذو بأس عظيم وتحمل شديد في سبيلي ومن أجلي؟ هل تذكر إذ كنت تقعد لتطلعني على مدى غرامك العجيب بي . ذلك الغرام الذييستحيل أن يشغلك عنه أي شاغل أو يصرفك عنه أي صارف ؟ هل تذكر إذ كنت تتصنعالكبرياء والصلف على الناس كلهم من أجلي ، وتشعرني بامتهانك لكل من على هذه الأرضفي سبيلي ؟ أسفا .. أسفا إذ أطرت كل ذلك اليوم بنفخة من عدرك ، ونسيته مرة واحدةلأول هوى في نفسك ، وتركتني إلى حيث لا أجد سبيلا للحاق بك والوصول إليك . ألاقل لي بأي حق أيها الطائر الأهوج الصغير تنطلق إلى حيث تشاء تاركا ورائك هذه الروحالمعذبة في محبسها من هذا الجسد ؟ هذه الروح التي خلقت معها توأمين ، وعشتما معاخير قرينين ، تمد وجودك دائما بسر من فيضها ، وتبث فيك الاشراق من نورها .حسبك طيشاأيها القلب . وكفاك ابتعادا وتوغلا في المجاهل منفردا عن قبس روحك وسراجها . فإنالطريق ، ويحيك ، مظلمة . والهدف أمامك بعيد . إنها ، ويحك ، روحك ! روحك التيهي جزء منك إنها أجدر وأولى بحبك من أي روح أخرى تسعى ورائها . إن كان مقصدك الجمال، فما أكثر ما أولتك هذه الروح من جمالها وإن كان النور والاشراق ، فمن ذا الذييغذيك بأكثر من نورها وإشراقها . أيها القلب عد . عد لا تخدعنك مفاتن الغروروالأصداغ ولا تصدقن شيئا من ابتسامات الثغور والشفاه ، ولا يأخذنك سحر العيون النجل، أو يجذبنك إشراق الوجوه بين ظلمة الشعور الملتوية . فكل هذا الذي يتألق في عينيكنوره إنما هو نرا وجمر ، سرعان ما يتوقد عليك لهيبا ، وتهلك في لظاه . وإلا ،فإن مثلك ألف بلبل ، يقضي كل ساعات العمر بين الخمائل والورود في نحيب وآلام .. ثملا يكون نصيبه منها إلا كما يكون نصيب الفراشة من اللهب . لظى وضنى واكتواء .. ثمهو بعد ذلك قطعة أديم يابسة ملقاة في مهب تلك الورود والأغصان . أيها القلب أنتمعرض نفسك لمجال الهوى والملذات ، مقصدك الوصول إلى صفوها والاستمتاع بنعيمها . ولكني قد عرفت لك مما قاله لي الطبيب الحاذق لهذا الداء أن شفاءك إنما هو الاحتماءعن مطارح الشهوات ، ومبتغاك كامن وراء أشواك الرياضة والحرمان . لقد حدثني هذاالطبيب بأن الداء هو بعينه ذاك الرحيق العذب الذي تهفو وراءه نفسك ، والدواء ليسإلا ذلك العلقم الذي تشتكي منه وتعافه . أيها القلب ، كيف أكلمك ، وعمّ أحدثكوماذا أقول ؟ لا أراك إلا مدبرا عني ، لاهيا عن حديثي وصوتي ، كأنك لم تكن يوماتعرف صاحب هذا الصوت والرجاء .‘‘ وهنا لا تلبث أن تتضرم هذه الكلمات نارا علىالقلب المسكين ، ويتصاعد من سويدائه إلى أعلى الرأس فيح كأنما هو الدخان واليحموم ،وسرعان ما يتلبد هذا الفيح مثل سحاب مركوم في يوم ممطر . ثم ما هو إلا أن ينهمربسيل من الدموع الحارة متدفقة من العينين ! هنالك يروح ’’ ممو ‘‘ مستسلما لتلكالدموع في نشوة وذهول ، ويظل مستروحا بلهيبها ، منتعشا بتدفقها ، بعد أن كادت تخنقهغصة تلك الكلمات في حلقه ، إلى أن تجف من العين ، وتنعصر منه الحشاشة والكبد ، حيثيعود ثانية إلى الحرب بين روحه وقلبه ، ويختنق مرة أخرى بالأحاسيس القاسية ، ويظليعاني من غصتها إلى أن ترحمه حشاشته بفيض آخر من الدموع . وهكذا تظل القصة تتكرروتعود . بكى ممو حتى تقرحت عيناه .. ولم يزل يتوجع ويتحرق حتى كادت أن تنطفئجذوة حياته . ولم يزل ينهار منه القوى وتخور فيه العزيمة ويصفر منه الشكل إلى أنطرحته الحمى في مكان ما على شاطئ دجلة وحيدا إلا من بعض أصدقائه المخلصين الذينكانوا يعودونه ويواسونه بين كل فترة وأخرى . أما داره في المدينة فقد تركها حتىقبل أن يطرحه المرض ، فقد كان يحاول جاهدا أن لا يعلم أحد من الناس سريرة قلبه إلامن كان من خاصة أصحابه كتاج الدين ، خشية أن يبلغ الأمير ذلك فيزداد إلى قسوته ضرامالحمية ، ويذهب خياله إلى أبعد من الواقع بكثير
رحلة إلى الصيد
كان ذلك في يوم شمسه مشرقة وسماؤه صافية ، قد ازدانت فيه الطبيعة بأبهى حلةوأبدع وشي ، تلاقت فيه بهجة الزمان بابتسام الخمائل والورود الرياض تتألق بسندسأخضر وتخفق بنسمات فواحة بالعبير ، والربا أكاليل زمردية فوق جبين الطبيعة نثرت فيأطرافها يد الخلاق أبدع ألوان الزهر ، والجبال الشم قد نسجت حول قممها الخضر آياتخالدة من الجمال والجلال تتطلع إلى عظمة ذلك الجبار الذي أرساها وأقامها ، والأوديةغاصة بأشجار باسقة ، ينبعث من تلافيف أغصانها غناء مختلف البلابل والأطيار ، وعيونالمياه تنساب بين كل ذلك في إشراق وبريق ، كأنها وشي من الحلى المتألق في أطرافغانية وكان قد أطلق منادى الأمير قبل ذلك يعلن في شتى أطراف الجزيرة عزم الأميرعلى الخروج إلى الصيد في ذلك اليوم ، وأن على كل صاحب قوس أو نبل ، أو ساعد وعزيمةأن يكون في ركاب الأمير في تلك المباراة التي سيتولى الإشراف عليها والمشاركة فيها وفي صبح اليوم الموعود تدفق كل أعيان الجزيرة ووجوهها وذوي البأس والمراس فيها . وفي مقدمتهم الأمير وحاشيته إلى خارج المدينة ، وقد تنكب الجميع أقواسهم وصحبواكل لوازم الصيد وأسبابه ، وتبعهم من ورائهم معظم أهل الجزيرة من صغير وكبير ونساءورجال ، ليستمتعوا بمشاهدة تلك المباراة الرائعة التي ستكون تحت إشراف الأمير ... وسرعان ما انتشر الجميع بين تلك الأودية والآكام ، وغابوا متفرقين في شعافالجبال ، كل يبحث عما يستطيع أن يفاخر به غيره في المساء . فربما كان نصيب هذاأسداً كاسراً أو نمراً عاتياً ، يعرض فيه على الناس مقدار شجاعته وإقدامه . وربماكان نصيب ذاك غزلاناً بديعة ، يثبت لهم بها خفته وبراعته . وربما جاء آخر بأشكالنادرة من الطيور والحيوانات . وربما ظهرفيهم من تلقف من كل صنف ونوع ، فراح يهزبينهم سنانه وقوسه ، ويلوح لهم بساعده القوية ، وقد يأتي من ورائهم من خانه الحظولم ينل أي نصيب . ويمضي الأمير إذ ذاك موزعا بينهم إعجابه وتقديره ، وموليا كلامن المكافأة والقرب ما يستحق .
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:33 pm | |
| لقاء الحبيبين
ولندعالآن أولئك الذين تفرقوا في تلك الشعاب منهمكين في شأنهم .. ولنعد أدراجنا إلى داخلالعمران الذي أصبح خاويا من الناس ، ولنأخذ سمتنا إلى القصر .. فسنجد على البعد شبحفتاة واقفة في إحدى نوافذه في جمود وإطراق . ومع دنو خطواتنا من القصر نتبين أن هذهالفتاة إنما هي ’’ زين ‘‘ . هي تلك الغادة التي كانت في يوم ما تظل ترقص جنباتالقصر بظرفها وخفتها ومرحها . ها هي اليوم ، تقف على هذه النافذة في ذبول وإطراق ،وقد اثّاقل بها الهم والكرب ، ونال منها الشحوب والضنى ، مسندة رأسها إلى قبضة كفها، تتأمل بعين كبار الفلاسفة والحكماء هذا الوجوم المخيم على القصر ومعظم ما وراءهمن الأزقة والميادين . إنها تقرأ في ذلك المظهر الطارئ من السكون والوجوم معنىالفناء والانتهاء الذي ينتظر كل إنسان من وراء ساعات لهوه ومرحه ، وتتبين فيهنموذجا عن حالة قلبها المقفر ، الذي طالما ظل مزدهرا بآمال بديعة محفوفة بالأحلامالجميلة ، ثم في مثل طرفة العين احترقت كل تلك الآمال وعصف الدهر برمادها ، وتبددتالأحلام الجميلة ، وأيقظها الزمان على غصة البؤس والحرمان . ولاحت تحت عينيها - وهي في تلك الأثناء - حديقة القصر وهي كبيرة شاسعة الأطراف تفنن الأمير في تشكيلهاوإبداعها . جمع فيها كل أشجار الفاكهة وغيرها . ونسق فيما بين ذلك كل أصناف الورودوألوان الأزاهير التي ولدتها الطبيعة فوق أي رابية من الروابي ، أو على أي شاطئ منالشطآن . تنساب فيما بينها جداول رقراقة تبعث فيما حولها تتمة مظهر الرونق والإبداع . لاحت لها تلك الحديقة خالية .. هادئة ، لا يجوس خلالها أي إنسان ، ولا يرى منبين أغصانها أي مستأنس أو مستمع ، إلا فراشات تجوب بين تلك الورود ، وطيورا يسمعصوتها من بين أوراق الأغصان . فحدثها خاطرها - وقد راقها سكون تلك الحديقة ووافقهواها - بأن تنتهز فرصة وجود بقية طوق في جسمها وحركة في أطرافها ، فتخرج من محبسهافي هذا القصر لتمشي قليلا وسط تلك الحديقة علّها تجد بين نسماتها بردا من الراحةوالانتعاش . واستجابت زين لهذا الخاطر في نفسها ، فنزلت من القصر متجهة نحوالحديقة في تحامل وإعياء شديدين ، وقد ارتدت ثوبا بسيطا من الحريرالأبيض الرقيق ،وشدت خصرها من فوقه بمنطقة سوداء منمنمة بنقوش متفرقة من خيوط الفضة ، أما شعرهافقد جمعته تحت شارة سوداء من القطيفة السميكة في مثل هيئة طربوش قصير يمتد في طرفيهخيطان من الفضة ، وقد أمالت طرفه على جبينها بينما ظل الطرف الآخر مرتفعا عن الصدغوقد بدا من تحته شعرها الفاحم المسترسل . ودخلت الحديقة ، وراحت تمشي بينجنباتها ، وهي تقلب نظرها في الطيور التي ترفرف بين أغصانها قائلة :
’’ أيتهاالأطيار السعيدة : كان لي بينكم في هذا الروض طائر مسكين ، أسود الحظ ، منكوبالطالع ، وقد غاب عنه منذ دهر وحلق في الجو منطلقا ولم يعد ! أفليس منكم من يدري فيأي روض استوطن ، وعلى أي غصن أقام عشّه ؟... وهل فيكم من يحدثني عنه ، أهو حي لايزال يخفق بجناحيه ، ويغرد فوق أغصانه أم نكبه الدهر مثلي فطرحه وأضناه ..؟؟‘‘ ثم انتهى بها السير عند شجرة وارفة الظلال . فارتمت عندها ، واستندت إلىجذعها ، وراحت تتأمل ما حولها من الأزاهير والورود المختلفة الشكل . ثم ثبتت عيناهاعلى وردة صفراء ، وقد تميزت ، عن سائر ما حولها من الورود بصفرتها الفاقعة ، فأثارذلك اللون حسرتها وأيقظ آلامها ... وسرعان ما تخيلتها بائسة أخرى مثلها ، قد اصطبغتبتلك الصفرة مما قاسته في هذا الروض من الوحدة والوحشة ، ليس من يرحمها ، ولا منيرق لها ، فراحت تخاطبها في رقة وحنان : ’’
أيتها الوردة الصفراء ، إن اصفراركهذا والله قد أحزنني .حدثيني ، أهو لون بؤسك أنت أيضا أيتها المسكينة أم هو التوجعوالرحمة لأمثالي من البائسات ؟ أم هي البلابل . قد انشغلت جميعها بورودها الحمراء ،فبقيت وحيدة ليس حولك أي مؤنس أو قرين ؟ آآآه ... إنها قصتي ذاتها أيتهاالمسكينة .! إن لي أختا من أمثال تلك الورود المزدهرة الحمراء ، كان لي عندليبطالما توسلت إليه في إسعادي أنا أيضا به ، ولكنه أبى ، وأبعدني عنه ، وسقاني فيبعده ذل البؤس والهوان .‘‘
وكأنما شائت الأقدار رحمة لهذين الحبيبينالبائسين في ذلك اليوم الذي انصرفت كل الناس فيه من دونهما إلى اللهو والمرح فقررتأن ترأف بهما في ظل هذا الهدوء . .. فراحت تلقي في تلك الساعة في روع ذلك العاشقالمرتمي منذ حين على فراش المرض ، رغبة ملحة في الحركة .. في السير .. السير إلىأيّ جهة ...! فأخذ يتقلب ممو فترة في فراشه ، وهو لا يدري أي سبب لهذا الباعثالمفاجئ في نفسه . ثم أزاح عن نفسه الغطاء وأخذ يجاهد جسمه المتعب في القيام منالفراش الذي ظل حينا من الدهر ملتصقا بجنبه . ثم نهض فارتدى عبائته الرقيقة ،فوق الحلة البسيطة التي كان يلبسها .. وأخذ يمشي .. أخذ يمشي في الطريق التيتمتد أمام عينيه ، دون أن يحدد لنفسه أي اتجاه ، ولم يزل سائرا في تحامل وجهد إلىأن وجد نفسه بين أسواق المدينة الخالية . فأدرك من الهدوء السائد في معظم جهاتها أنالناس قد خرجوا وراء الأمير وصحبه في رحلته إلى الصيد للنزهة . ولاحت لعينيه خضرةزاهية في بعض نواحي المدينة فهفت نفسه إلى أن يتوجه نحوها ، ويتمم سيره إليها ، دونأن ينتبه إلى تلك الخضرة ماذا تكون ، وفي أي مكان تقع . وبعد قليل كان ممو يقففي جهد وإعياء أمام حديقة الأمير زين الدين ، ينظر من وراء سورها إلى جوها الرائع ،ويتأمل هدوئها الكامل ، وخلو جنباتها عما سوى الطيور . ووجد في نفسه بعد ذلك النصبالشديد الذي لاقاه شوقا قويا إلى أن يستريح قليلا في فيئ شجرة من أشجارها . فمضىمتجا نحو بابها المؤدي إلى الداخل ، وقد كاد يسقط من الإعياء . ولم تكن سوىدقائق حتى لاح لعيني زين - وهي لا تزال في مكانها عند ساق الشجرة - شبح ممو علىالبعد ، قادما من بين الأغصان ..! وكانت المفاجأة شديدة على نفسها ... وكانت الفرحةأكبر من قلبها .. فما إن أخذت تحدق النظر فيه لتتأكد أهو خيال من خيالات أوهامها ،أم معجزة حققها الله لها ، حتى غرب عنها الإحساس وطمت عليها الدهشة ، ووقعت مغمىعليها ببين تلك الحشائش والأشجار . أما ممو فإنه أخذ يسير مستروحا ظلال تلكالخميلة البديعة التي طالت غيبته عنها دون أن يدرك شيئا مما حوله . وكان أول ماانتبهت إليه عيناه في سيره تلك البلابل التي لا تفتأ تتنقل بين أغصان الورود فيتغريد لا ينقطع . فراح يتأمل فينة وهو يقول : -’’
فيم كل هذا الهلع أيها الطائرالصغير ؟ إن وردتي التي شغفت بها أزهى من ورودك جمالا ، والحظ الذي نكبت به أشد منحظك سوادا ومع ذلك فها أنا أذوب وجدا ولا يسمع مني أي نحيب أو صوت . أيها الطائر، لقد كان جديرا بك أن تتألم وتتوجع لو أن رياض الدنيا ليس في جميعها إلا وردةواحدة ، كما هو الشأن معي أما وإنه ليس من هذه الأزهار في أي روضة من الرياض أو إلىجانب أي غدير من الغدران ، أو في أي سفح من سفوح هذه الجبال ، فليس التعلق بهاموجبا لأي قلق أو شوق إلى هذا الحد . ولكن قي لي ماذا يصنع وبم يتأسى ذلك الطائرالذي تولّله بوردة لم تجد الدنيا بمثلها ! ثم حرمه الدهر من قربها ، وأبعده حتى عنروضها ، وتركه وحيدا في قفص الوحشة والأحزان ؟ ‘‘. وهكذا ظلت أفكار ممو وهو يمشيفي وسط الحديقة منصرفة إلى مثل هذه الأحاديث مع كل ما يبصره من حوله من الأطياروالورود والأعصان ، إلى أن وجد نفسه فجأة أمام جثة فتاتة ممتدة فوق تلك الحشائش ،ولم يكد ينتبه إليها ، ويمعن النظر ليتبينها حتى دارت الأرض من حول رأسه دورة بددتكل ذرات شعوره ، وألقته في يم من الغشية والنسيان ، وهوى صريعا على مقربة من جثةزين . وشيئا فشيئا أخذت زين تستفيق من غشيتها لترى ممو الذي أبصرته يمشي فيالحديقة منذ قليل ملقى إلى جانبها . فعادت إليها الدهشة والذهول . وأخذت تحدق النظرفي كل ما حولها .. في جدول الماء الذي ينساب أمامها ، في الورود التي إلى جانبها ،في ممو وهيأته ، كأنما تتسائل أهي في حلم من الأحلام أم إنها حقيقة واقعة صحيحة ..؟ ثم استعادت كامل رشدها .. وأيقنت أنها نعمة ورحمة من الأقدار التي أرادت أنتسعدها في هذا اليوم .. ودنت لأول مرة بعد يوم مهرجان الربيع إلى حبيبها الملقى إلىجانبها ، فاخذت تلحظه بعينيها الفاتنتين ، وقد عاد إليهما إشعاعهما بعد أن اختفىعنهما حينا من الدهر . ثم رفقعت رأسه بيمينها في رفق ، ومدت ركبتها من تحته ،وأسندته إليها ، وراحت تحاول في رقة ولطف إيقاظه من غمرته . وبعد فترة من الوقتتفتحت عيناه . فتح عينيه .. فرأى رأسه فوق ركبة حبيبته زين ... ورأى أجمل وجه فيالدنيا يطل عليه بثغر باسم وعين دامعة ورأى يمينها ممتدة فوق صدره الخفاق في حنو . ورفع رأسه .. وأخذ يجيل النظر فيها .. وفي نفسه .. وفي سائر ما حوله .. دون أنيدور لسان أحدهما بكلمة . هذا أسكتته الدهشة .. وتلك عقد لسانها الحياء .. ثم أمعنممو في وجه ’’ زين ‘‘ قائلا : ’’
ماذا ..؟ ألست أنت زين ..؟ ألست أنت قلبي .. قلبي الذي فقدته من بين جنبي ؟ ولكن .. أتراني في منام رائع .. أم نحن في الحياةالأخرى ..؟ في جنان الخلد !! ‘‘ فقالت له زين وقد أخذت كفه في كفها ، كيما يؤوبإليه رشده : ’’
بل أنا زين بحقيقتها يا حبيبي . ونحن هنا في الحديقة ، حديقةقصرنا ألست تذكر .‘‘ وأخذ انتباه ممو يتكامل بعد أن انتهى إلى سمعه صوت زينالرقيق العذب ، وآمن بالحقيقة .. وعلم أنها الساعة التي طالما استرحم الزمان بدموعهأن يحقق لحظة منها ، وعاد ينظر إلى زين من جديد . وأخذ يسرح النظر في عينيهاالساجيتين اللتين تنظران إليه بفتنة مبتسمة مستسلمة كأنما تقول :’’ إن هاتينالعينين من أجلك ...‘‘ وفي ثغرها الرقراق البديع ، وفي ملامح وجهها التي تشع بكل مافي روحها من جمال ولطف ، وفي شعرها الفاحم المسترسل حول وجهها من تحت الشارةالمائلة على جبينها . وسكت ... ثم قال لها في نشوة حالمة : ’’ أنت والله جميلةجدا ورائعة يا زين ‘‘ .. فأجابته : ’’ أنت كل جمالي وسحري وروعتي يا ممو . فها أنتترى كيف فقدت كل ذلك مذ فقدتك فلا تبحث فيّ اليوم عن شيء من ذلك الجمال الذي أسكركمنذ أول ما التقينا ...‘‘ فدنا منها قائلا : ’’
لا يا زين . إنك اليوم واللهلأجمل مما كنت من قبل . وها أنا ذا ألمح بين أيات هذا الجمال سطورا جديدة لم تكن . عيناك ... إن فيهما أسمى مما يقال عنه الفتنة والسحر . فيهما معنى رائع ، احتارت فيمعرفته روحي ، فكيف يستطيع التعبير عنه لساني ..؟ ثغرك ... إن خمره اليوم لتبدو أشدإسكارا ، وابتسامته أكثر فتنة وجمالا . أما هذا الذبول المتهدل على ملامحك فليس إلاآية جديدة بين آيات هذا الجمال الساحر ، ولست أجده في استرخائه ملامح وجهك البديعكالأهداب الناعسة ، إذ تسترخي على العينين الفاتنيتين ...‘‘ وقطع حديثة فجأة .. كأنما أسكتته وخزة أليمة شعر بها في نفسه ، ثم أطرق يقول في هدوء محدثا نفسه : ’’
ولكن مالي ومال الحديث عن الجمال الذي لم أصل إليه ولن أملك منه شيئا ، مالي وأنا المسكين الذي قضت عليه الأقدار بالحرمان ، أتطاول بهذا الكلام إلى البدرالذي لست أهلا للصعود إليه ؟ لي أن أتوسد البيداء التي أتيت منها ، أما هذا الروضفإن له أهله الذين سيجلسون فيه ويستمتعون به ..‘‘ ثم قطعت غصة البكاء حديثه ،وراح يجهش في بكاء حار أليم ! وامتد لهيب دموعه إلى قلب زين فأخذت بكف ممو تبللهبدموعها قائلة : ’’
أقسم يا ممو بالدموع التي أحييت بها الليالي السود ،وبالزفرات التي أذبت فيها بهائي الذي أعجبت به ، وبالخلوات التي لم يكن يترائى ليفيها سوى رسمك ، أنني لن أعوّض عنك إلا بوحشة القبر ، ولن يعانقني من بعدك إلا شبحالموت ، وسأكون وقفا من أجلك ، فإما أن يكون وصالنا في هذه الدنيا ، وإما في الحياةالآخرة ...‘‘ ثم أنهما خشيا أن تلمحهما عين أو تسمع حديثهما أذن في ذلك المكان . فقاما ، واتجها إلى قاعة الحديقة التي كانت مقامة في وسطها . وهناك جلسا يتواسيان .. ويشرحان الهموم والأحزان .. ويتشاكيان من فتنة الدهر وأهله .. وراح بهما ذلكالحديث واللقاء في نشوة حالمة أسكرتهما عن الدنيا وما فيها .
الوفاء
انتهت الشمس إلى مغيبها ،وعادت فلول الناس الذين كانوا غائبين في الرياض إلى بيوتهم ، ودبت الحياة فيالمدينة ثانية بعد الوجوم الطويل ، والحبيبان السعيدان لا يزالان في مجلسهما ذاك ،منتشيين بخمر اللقاء ، وغاب عن فكرهما معنى الزمن وحدوده فلا يشعر أحدهما منه بشيء . وعاد الأمير وصحبه من الصيد .. وجاءوا يؤمون الحديقة ليطلقوا في أنحائها ماصادوه من الغزلان والخشاف ونحو ذلك ... وامتلأت الحديقة بالناس .. وثارتالأصوات والضجة في كل جهاتها ، والحبيبان لا يزالان في غشية تامة عن كل ما يطوفحولهما . وأحس الأمير وهو واقف مع صحبه فيإحدى جهات الحديقة بالتعب يسري فيمفاصله ، وشعر بالحاجة إلى أن يستريح مع صحبه قليلا فتوجهوا جميعا وفيهم تاج الدينوشقيقاه وبكر إلى القاعة .. القاعة التي لا يزال ممو وزين يتبادلان في غبش ظلامهماحديث الحب في ذهول عن كل شيء . ولم يستيقظا من نشوتهما تلك إلا حينما داهمتهماالأشباح .. وأغلقت أمام عينيهما فضاء باب القاعة ...! هنالك انتبه كل منهما إلىما حوله .. وأسقط في أيديهما ... وهنالك .. لم يكن من زين إلا أن اندست تحتعباءة ممو وتضائلت خلفه . بينما دخل الأمير الفاعة ، ومن خلفه جماعته ، ليجدوا شبحامنزويا في ركن من أركانها وسط ذلك الغبش من الظلام ...! فصرخ الأمير فيه قائلا : ’’ من هذا القابع هنا ، وسط هذه الظلمة ، من غير أي رخصة أو استئذان ...؟‘‘ فاستجمع ممو جرأته ، ثم قال ، دون أن يتحرك من مكانه : ’’ أنا ممو يامولاي الأمير ... لم يكن يخفى على مولاي أنني كنت أعاني إلى هذا اليوم مرضا شديداأقعدني في الفراش ، مما منعني عن اللحوق بركب مولاي إلى الصيد . غير أنه أدركتني فيهذه الأمسية وحشة الإنفراد ، فغادرت الفراش لأمشي قليلا .. ووجدتني أمام هذهالحديقة .. فاشتهيت الراحة فيها بضع دقائق ..‘‘ فقال له الأمير ، وهو يتوجه إلىالركن الأعلى في المكان ليجلس فيه : ’’ حسنا . وكيف حالك اليوم ...؟ وهلا أسرجتلنفسك ...؟؟ ‘‘ فقال : ’’ لو وجدت في نفسي الطاقة إلى ذلك لقمت بواجب التحية .. ونهضت من مكاني لقدوم مولاي .. ولكن أرجو أن يعذرني ويعفو عن تقصيري ..‘‘ وأسرجالمكان وجلس القوم .. وأخذ تاج الدين يلحظ ممو من مكانه في المجلس ، ويقرأ في وجههوفي هيأة جلوسه وجمودها دلائل ارتباك لم ينتبه غيره إليها ، إذ كان هو الوحيد الذييدري سر قلبه وآلام نفسه ، وساوره القلق .. وتطلعت نفسه إلى نعرفة السر الحقيقيلجلوس ممو هنا ... في هذا الوقت ... بهذا الشكل !! فانتهز فرصة طلب الأمير كأسا منالماء بينما راحت عيناه تسألانه عن حكايته وسره .. فلم يكن من ممو إلا أن مد يده فيهدوء إلى داخل العبائة ، وأخرج له طرفا من ضفيرة زين يريه إياها .. فرفع تاجالدين رأسه وقد أذهله الأمر .. وأدرك أن خليله بين يدي كارثة قريبة .. ما من ريبفي أنها ستأتي على حياته . وأخذ حاول السيطرة والضغط على أعصابه ليتصنع الهدوءاللازم ، بينما راح عقله يبحث في ثورة لاهبة عن أي وسيلة لإنقاذ حياة صديقه منفاجعة محققة . ولاحت لذهنه الفكرة ... فكره واحدة لم يجد أمامه سواها فتظاهر فيلباقة بالحاجة إلى الإختفاء قليلا في بعض جهات القصر . وما هو إلا أن انثنى خلف بابالقاعة حتى أسلم ساقيه إلى الريح متجها نحو داره ..! ودخل الدار لاهثا ، وعلىملامح وجهه ثورة كالجنون . فاستقبلته زوجته في رعب شديد ودهشة قائلة : ’’ ماذا . ..ماذا حدث هل هناك أي عدو ؟! ‘‘ فأجابها بصوت خافت كي لا يسمعه أحد وهو يسرعإلى الداخل : ’’ عليك أن تسرعي بإنقاذ طفلك وما خف حمله من هنا . أما أنا فيجبأن أبادر إلى إحراق هذا القصر ..! ‘‘ ثم تابع حديثه وهو في عجلة مضطربة نحو مكانالوقود قائلا : ’’ إن ممو و زين واقعان تحت ورطة عظيمة ، في انتظار كارثة محققةتوشك أن تقع بهما . ولا بد أن أسرع في مسابقة هذه الكارثة لأقضي عليها قبل أن تقضيهي عليهما ..‘‘ ثم راح يشعل النار في أثاث ذلك القصر الرائع وجنباته بسرعة ثائرةوهو يقول : ’’ لقد ظل الناس يطفئون النار بالماء ، ولكن ها أنا اليوم سأطفىالنار بالنار ...‘‘ وفي مثل غمضة عين انطلقت ألسنة اللهب تتصاعد من نوافذ ذلكالصرح الذي شيده تاج الدين على أحسن ما تخيلته أحلام حبه جمالا وبذخا وإتقانا ،وأخذت النيران تسري في ذلك الأبنوس المنقوش والأثاث الرائع ، في سبيل إنقاذ صديقه .. والوفاء له ..! وانطلق تاج الدين يستنجد .. وراح الخبر يسري في كل مكان .. وسرعان ما وصل النبأ إلى الأمير وصحبه وهم في مجلسهم ذلك .. فهبوا جميعا في اندفاعوذهول يسرعون إلى النجدة والإطفاء .. بينما تباطأ ممو في مجلسه إلى أن خلت القاعةتماما .. وهناك تنفس الصعداء والتفت إلى زين قائلا : ’’ أرأيت كيف ضحى تاج الدينبقصره من أجل إنقاذنا ؟! والآن وداعا يا زين .. فعلي أن أدرك القوم لإطفاء هذهالنار ، أما أنت فينبغي أن تسرعي الآن وتعودي إلى القصر ...‘‘
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:36 pm | |
| وقفة عابرة
أيها الساقي حسبي ... حسبي فإن العقللا يزال مخمورا ويوم عمري قد أدركه المغيب ، وأخشى أن يداهمني سلطان الأجل كما داهمالأمير ممو ثم لا أجد من حولي خليلا وفيا مثل تاج الدين ينجيني وينقذني .. أيهاالساقي ، لقد عفت والله كؤوس هذه الأوهام الكاذبة .. فأبعدها عن شفتي .. أبعدها ،فلقد كفاني عربدة حول بريق هذا السراب .. أبعدها ويحك قبل أن يطرحني وهج الشمس أمامرقراقه الكاذب ، ويتلفني هناك الظمأ والضنى ... ولكن .. ولكن حدثني ، أليس بينزجاجاتك هذه ما فيه تلك الخمرة الأخرى ..؟ تلك الخمرة التي تعلو بي إلى رحاب القدس، وتسكرني بروعة الجمال الخالد .. وتنشلني من بين هذه الأوهام الفانية وبريقهاالخداع . آه ما أحوجني إلى كأس قد اعتصرت من جنى الروح الصافية عن شوائب الدنيا .. ما أحوجني إلى كأس تسكرني سكرة تاج الدين بخمر إخلاصه ونشوة وفائه ، لكي أعلوبها فوق هام هذه المادة ، وأسحق بريقها تحت قدمي في سبيل الروح التي أعزها ،والوفاء الذي أدين به . ماذا يفيدني تألق القصر الذي ضمني ، وبريق السرير الذيأمتد عليه ، إذا كانت الروح التي يصافحها قلبي قد أشرقت على الانطفاء ثم لم أفدهابنور ذلك القصر والزينة والسرير ؟ وماذا يضيرني من اللهب المتصاعد من حولي ، إذاكان بعيدا عن قلبي تاركا له برد سلامته وذخيرة حبه ؟. هذه المادة الفانية ، ماأثمنها في القلب ، وأبعثها للنشوة في النفس ، عندما تكون فداء للمعاني القدسيةالخالدة . وما أخسها في اليد وأهونها على هذه الأرض عندما تتكبر متطاولة إلى مركزالبقاء والخلود ...
عودة الفتنة
لم يكن سلطان الحب يوما ليجلس فوق عرش القلوب من وراء الستر المرخاة والحجب المسدلة . وليطل وقت اختفائه عن الأنظار والأسماع مهما طال ، فلا بد أخيرا أن يهتك كل ما يحيط به من حجب ، ولا بد أن يتراءى أمام الناس في جبروته القوي ، وسلطانه القاهر ، ولا بد أخيرا أن يعلن عن نفسه وعن شوكته سواء أرضي الناس أم غضبوا ... ولقد استطاع ممو وزين حينا من الزمن أن يخفيا عن الناس سريرة حبهما ، وأن يحجبا عنهم جبروت هذا السلطان الذي يتحكم في قلب كل منهما من غير رحمة ، ولكن هذه الطاقة لم تدم لهما طويلا .. فسرعان ما هتك من حول قلبيهما الستر ، وانترثرت مدامعهما بين أبصار الناس ، وراحت الألسن تتحدث عن حبهما ، وتتخذ من خبرهما لحنا يسري إلى كل مكان ، وينتهي إلى سمع السادة والعبيد ، وراحت التعليقات المتخيلة تنسج حول ذينك المسكينين البريئين اللذين لم يذوقا من الحب إلا صابه وعلقمه أقاويل كاذبة . وتسرب الخبر إلى ’’ بكر ‘‘ . تسرب الخبر أيضا إلى سمع هذا الحبيث ، فراح يلفقه ويجمع خيوطه ويجري وراء الإيضاحات اللازمة له . وفي يوم ما كان قد انتهز الفرصة ، وراح ينشر كل ما سمعه من الأفواه ، وتلقفه من المجالس بين يدي الأمير وسمعه ...! فثار جنون الأمير - ويا لجنون الأمراء حين يثور - واشتعل الدم لهيبا في كل جسمه ، وراحت عيناه المتألقتان تشعان بشرر يكاد يحرق ما حوله ، وقام يذرع المكان الذي ليس فيه إلا هو وذلك الخبيث جيئة وذهابا ، وتقلبت على ذهنه المستعر أفكار جهنمية شتى . فقد كان يدفعه الغيظ مرة إلى أن ينطلق من توِّه بنفسه إلى حيث يجد ممو منفردا فيطير رأسه ، ثم يعود دون أن يعلم بالأمر أحد ، ويدعوه جنونه أخرى إلى أن يعلنها حربا لاهبة على ممو وصاحبه تاج الدين وكل أعوانهما . ولكنه عاد أخيرا ، فتذكر أن هذا الذي يخبره بهذا النبأ حاجب حقير فتان . لا يستأهل إثارة غضبه قبل أن يتريث ويتحقق . فنظر إليه وقد راحت عيناه تنفجران بكل تلك الثورة والغضبة عليه وحده قائلا : ’’ يبدو أيها الحقير الوغد ، أنه يعجبك كثيرا منظر الدماء المسفوكة ..! ولكن إعلم أن هذه الدماء لن تسفك إلا من مذابحك ، إن لم تخلق أمامي البرهان القاطع لهذا الذي تقول ‘‘. فجمدت ملامح بكر قليلا ، وزاغ عقله من صدمة ذلك التهديد .. ثم عاد فتمالك رشده قائلا : ’’ يستطيع مولاي أن يتحقق من هذا الذي أقول إذا دعا ممو إلى مبارزة بالشطرنج الذي يفتخر بالمهارة في لعبه . وليكن الشرط بينه وبين مولاي أن يحقق المغلوب للغالب كل ما يقترحه ويتمناه . فسوف يضطر إلى كشف ذات نفسه وعشقه للأميرة زين سواء أصبح غالبا أم مغلوبا عندما يطلب منه مولاي ذلك ..‘‘ فأعجب الأميربهذا الرأي .. وسرعان ما التفت فدعا خدمه ، وأمرهم بإعداد القاعة الكبرى - وهي القاعة التي كان يتخذ فيها مجلسه للهو والمرح - وتهيئتها لسمر حافل تلك الليلة ، بينما بعث بعض غلمانه الآخرين وراء ممو ليأتوه به ، ويبلغوه دعوة الأمير له للحضور إلى سمر في القصر ... وراح الأمير ينتظر .. وفي قلبه مثل الجمر اللاهب ، ودمه يغلي في رأسه . إنه في ظمأ شديد إلى أن يعرف .. إلى أن يعرف حقيقة هذه العاصفة التي نقلها له بكر ، لكي يشفي بعد ذلك غيظه ، ويتصرف في الأمر على النحو الذي يشاء ... وجاء المساء . وهيئ مجلس الأمير كما أراد .. ووضعت منضدة الشطرنج المرصعة بالذهب في وسط المكان ، وقد صفت من فوقها أحجارها العاجية النادرة . وامتلأت القاعة بالخاصة من حاشية الأمير ورجاله ، إلا تاج الدين وشقيقيه ، فقد تعمد الأمير أن لا يبعث ورائهم . وغصت سائر أطرافها بالحرس والخدم ، واقفين على أرجلهم صفوفا في أحسن لباسهم وكامل أسلحتهم . ودخل الأمير . وهب المجلس قائما ، بينما راح هو يأخذ طريقه إلى الأريكة المقامة له في صدر المجلس . وجلس الأمير .. وسكت الحاضرون .. وأخذ يقلب عينيه فيهم في هدوء ورهبة إلى أن وقع بصره على ممو ، فمد إليه رأسه وقد إتكأ على جانب من أريكته قائلا : ’’ سمعنا أنك تزعم لنفسك مهارة في لعب الشطرنج يا ممو . فهل لك أن تعرض أمامنا الليلة مهارتك هذه ، وتقوم لنا بالمبارزة والنضال .‘‘ فأجاب ممو في هدوء ، وقد أدهشته القسوة التي شعر بها في نبرات كلامه : ’’ لم يكن لي يوما ما أدعي يا مولاي أمامكم هذه المهارة ، ولكن لمولاي السمع والطاعة إذا أمرني بما شاء ‘‘. فنهض الأمير إلى منضدة الشطرنج يشيرإليه ، قائلا : ’’ بل قم .. فإن بيننا وبينك الليلة حربا لا بد أن تتقدم إليها ...‘‘ وقام ممو من مجلسه وقد أوجس خيفة في نفسه .. فجلس تلقاء الأمير ومن بينهما المنضدة . وقبل أن يبدأ باللعب قال له الأمير : ’’ إن الشرط الذي بيننا وبينك هو أنه يجب على الطرف المغلوب ثلاث مرات أن يحقق كل ما يقترحه الطرف الغالب ويتمناه ‘‘ وكان في المجلس ابن شاب للأمير يخلص الود لممو اسمه ’’ كركون ‘‘ ولم يكن يخفى عليه ما بينه وبين عمته زين من الحب .. وقد ألم بطرف مما في نفس أبيه من الموجدة عليه ، وخشي أن ينتهي ذلك المجلس بأي عقاب أو بلاء ينزل بممو . فتسلل من قصره ، وانطلق متوجها إلى تاج الدين يخبره بالأمر ، كيما يحضر ليهون الأمر إذا حدث شيء ، بما له من قرب إلى الأمير . ولم تكن سوى دقائق حتى كان كل من تاج الدين وجكو وعارف قد اتخذ مكانه في ذلك المجلس ، يترقبون ما سيحدث ... وتغلب ممو على الأمير مرتين متواليتين .. وأخذا يبدآن بالمرة الثالثة وقد أعجب الأمير بدهائه ومهارته ، وبدا على وجه ممو وهو منكب على اللعب في استغراق شديد إشراق واضح من الأمل والسرور . بينما راح بكر الذي كان يرمقه من بعيد ، يطوف حول نفسه في قلق بحثا عن أي حيلة يتعثر بها ممو عن التغلب على الأمير في هذه المرة . إذ لا شك أن نجاحه يعني ضرورة وفاء الأمير له بالوعد ، وذلك يعني زواج ممو من زين ... وفي تلك الأثناء لمح بكر زينا واقفة مع فتيات من القصر أمام النافذه المطلة من أعلى جدار القاعة المقابل لظهر ممو ، ترقب اللعب باهتمام .. فالتفت إلى الأمير قائلا : ’’ ولكن كان على مولاي أن يستبدل المكان من خصمه بين حين وآخر كما هو الشأن في اللعب ...‘‘ فنهض كل من المتبارزين ، واستبدلا مكانيهما دون أن يدرك أحد الحيلة التي استهدفها .. وما إن مرت لحظات حتى انخطفت عينا ممو إلى أعلى جدار القاعة الذي يقابله ، ليجد زينا واقفة أمامه ترمقه وهنالك تشتت ذهنه ، وعبثا راح يحاول جمع فكره والتغلب على الأمير كانت عيناه لا تنفكان عالقتين بالاعلى ، ويده تعثو بالعساكر والفرسان من غير هدى ، يفدي الجنود مرة بالخيول ، ويخلط أخرى بين الفيل والوزير وكانت النتيجة أن تغلب الأمير عليه خمس مرات متواليات وختم اللعب على ذلك ! وعاد الأمير إلى مكانه وقد غشي ممو الخجل والحياء فنظر إليه قائلا : ’’ إيه أنسيت الشرط يا ممو ؟‘‘ فأجابه ممو وقد توزعت أحساسيسه بين الغضب من المكيدة التي انتبه إليها والخجل من الإخفاق الذي انتهى إليه : ’’ لا ...فليتفضل مولاي بالأمر بما أشاء .. ‘‘ فقال له الأمير :’’ إنك لست تجهل أننا لن نطلب منك مالا تغنينا به ، أو جاها ترفعنا إليه . و إنما يعنينا أن نعرف السرائر ... فحدثنا عن قلبك . قل لنا من هي التي تكن لها حبا ، وتمني شبابك بها ، كي ننظر .. فإن كانت لائقة لك ، حاولنا إسعادك بها ...‘‘ فأطرق ممو قليلا ، كأنما أخذت نفسه تحوم حول تفسير هذه الكلمات التي ألقيت إليه . وانتهز بكر فرصة هذه الإطراقة منه ، فقال : ’’ يا مولاي : يبدو أن ممو خجل من أن يكشف للأمير النقاب عن تلك التي يهواها . فلقد كنت رأيتها مرة ، وعلمت أنها جارية سوداء معيبة ، لا يليق أن يتحدث عنها في مجلس الأمير ...‘‘ فأثار هذا الكلام غضب ممو ، والهبته حميته وإبائه ، وأخذ ينبض في مشاعره عرق العزة والمجد . وأسكرت الطعنة عقله . فنسي الأمير الذي أمامه ، والناس الذين من حوله ، وانتفض منتشيا يقول لبكر : كذبت والله أيها الحقير النذل ، فما تلك الصفة إلا قرينة خستك ، وكفؤ دنائتك . أما التي عندها قلبي ، فرفيعة المجد ، ليس لذلك البدر أن يتسامى إليها ، رائعة الجمال ، لا تبلغ الشمس أن تكون أختا لها ... أصيلة النسب ليس لغيرها في هذه البلاد أن ينازعها فخر ذلك . إنها أكمل أنثى أبدعتها يد الخلاق . إنها ... إنها أميرة هذه الجزيرة ...! ‘‘ وما كاد أن يطلق هذه الكلمة الأخيرة من فمه حتى قاطعه الأمير وقد صوب نحوه فوهة الغضب قائلا : ’’ ولأجل ذلك ، فأنت لا تخجل من استطالتك إلى تلك المكانة بالغرام بها ، مدنسا بدنائتك قصري هذا ...؟‘‘ ثم التفت إلى الحرس الواقفين على الأبواب وصرخ فيهم قائلا : ’’ ما وقوفكم وانتظاركم بعد هذا ؟ هيا .. فاقطعوا الرأس الذي تطاول فيه هذا اللسان فقد آن أن يعتبر بع غيره ...‘‘ وقبل أن ينقض الحرس على ممو ، هب من عرض المجلس ثلاثة أبطال أشقاء ، كل منهم هامة ، وساعد ، وقامة ..! وقد ظهر في يمين كل منهم خنجر يلتهب . وراح أوسطهم وهو تاج الدين يصعق في أولئك الشرطة الذين بادروا إلى ممو .. قائلا : ’’ مكانكم أيها الاوغاد ، فلستم سكارى ولا مجانين حتى تتجاهلو بطشنا ! أم أنكم نسيتم ذلك الكثير الذي لاقيتموه من أيدينا ...؟ ربما تستطيعون أن تصلوا إلى ممو ، ولكن بعد أن نحقن ما حوله بلجة من دمائكم ، وتتخذوا إليه جسرا من مئات منكم ..‘‘ ثم دار رأسه نحو الأمير ، يرمقه بطرف عينه قائلا : ’’ أما مولانا الامير .. فله إذا شاء التصرف أن يتصرف فيما يريد بنفسه .. فإن له في أيدينا قيودا من نعمته وسلطانه ... قد لا يكون من المناسب أن ننكرها ..‘‘ وبعد قليل نهض الأمير بنفسه إلى ممو فقيد يديه ، وأمر به إلى السجن ..! وسكت تاج الدين وشقيقاه وقد تجرعوا غصة السم نزل إلى قلوبهم . ولكنهم لم يجدوا من الحكمة - وقد نزل الامير في حكمه من القتل إلى الحبس - أن يلحوا في العناد مرة واحدة ورأوا أن يرجئوا محاولة العفو عنه إلى وقت أخر يكون الأمير فيه أهدأ ثورة وأخف غضبا . ثم فض المجلس ، وانصرف الناس في وجوم و حزن . بينما كان ممو يتخذ طريقه إلى قاع السجن !
صفاء الروح
حكم الفلك أزلي قديم ، وإصرارالدهر قضاء لا يتراجع ، وأمر الله قدر لا بد له من نفاذ . فماذا يغني التأوه ولضجر ، وأي فائدة يجني الألم والتوجه ، وأي نتيجة تأتي بها القوة والانفعال إذاكانت سطور القضاء حاكمة بالبؤس والسجن والحرمان ؟! على أن السجن الذي انتهى القدر بممو إليه لم يكن كأي سجن آخر ، وإنما كان مغارة ممتدة في قاع الأرض ، ضيقةالأعلى متسعة الأسفل لا يكاد يمتد شيء من ضياء الدنيا أو نور الشمس إلى داخلها ،اللهم إلا من تلك الكوة العليا ، التي هي وحدها الباب والنافذة والمنور وكل شيء . وأنزل ممو إلى قاع الزنزانة التي استقبلته مظلمة موحشة خالية من أي أحد غيره . فالتف حول عينيه الظلام الذي داهمه ولم يعد يبصرشيئا سوى أشبح السواد المدلهمةالمطبقة من حوله ، فجمد قليلا في مكانه بين ذلك الظلام الدامس ، وراح يخطو في حذرمتلمسا بيديه الهواء ، إلى أن مسّتا الزنزانة وهناك وقف مستندا إليه ، وقد ترنح بين أمواج من الذكريات أخذت تنبعث من نفسه البائسة ... تكر شبابه الغص وقوته النابضة ... عزته وبأسه .. إذ كان هو وتاج الدين من أسعد الناس ، ولم يكن قد مس قلبيهما شيءمن هذه الآلام . ثم تذكر ميلاد هذا الشقاء في قلبه ، ويومه البهيج المرح الذي قضياه معا ، والسكرة التي غشيتهما في مسائه ... وتذكر الآلام .. والآمال التي ترعرعتفي نفسه ، والتي شبت وأخذت تزدهر في قلبه أيام فرح تاج الدين وليالي عرسه وكيف كان يمني نفسه بمثل تلك البهجة والأفراح في عرسه هو أيضا ... وتذكر بعد ذلك خيبة آماله، وتصدع قلبه .. قلبه الذي لم يرحمه أحد ، ولم يعطف عليه إنسان ، وراح يستعرض الليالي التي أحياها بالزفرات على ضفاف دجلة ، حيث لا مخلوق يبصره أو يشعر به ،والدموع التي قرحت عينيه ، وروى بها الآكام والسفوح ، حيث لم تكن هناك أي عين أخرى تواسيه بدمعة ! ثم تلك السويعات الجميلة ... التي كانت كل أيام سعادته من دنياه ،والتي شهدتها نسمات ذلك الروض وورده . ثم تصور كيف عاد الليل بعد ذلك إلى قلبه فأغطش .. وراح يكابد ألوان الشقاء الذي كتبه له الدهر : هذا الظلم له من الناس دونأي جريرة أو موبقة ارتكبها .. افتراآتهم عليه ، واستعانتهم بدموعه وآلامه .. وضع شباك المكر والفتنة في طريق سعادته .. وأخيرا هذا الغضب عليه من الأمير .. الأميرالذي لم يترك له فوق بؤسه وحرمانه حتى حريته التي كان يهيم بها على وجهه ، ليسري عن نفسه بمظاهر الطبيعة التي كانت الشيء الوحيد الذي له أن يشارك الناس في رؤيتهوالاستمتاع به . لقد أبى إلا أن يعصب عينيه بهذا الظلام حتى لا يرى شيئا من ذلك ،وأبى إلا أن يحبسه في هذه الموحشة حتى لا يجد الأنس إلى قلبه أي سبيل . وما إنراح يستعرض في فكره كل هذا .. حتى رق قلبه عليه ، وأدركته الرحمة لنفسه ، وراح يبل لثرى تلك الأرض بدموع أليمة يبكي فيها عمره الذي ضاع ، وأمله الذي خاب ، وقلبه الدامي الذي سحقته الأقدام . ثم التفت حوله ، وقد أخذت أطراف الزنزانة وجدرانهاالسود تلوح لعينيه ، وترائت تحت بصره أرضها العفراء اليابسة خالية من أي شيء يستندإليه الجنب ، إلا دكة ترابية صغيرة في ناحية منها ، يمتد عليها بساط مهلهل . وأدار بصره الذي غشاه الدمع في سائر تلك الأطراف ، كأنما يبحث عن أي شيء يتخيلفيه الرحمة والعطف ، ليتعلق به ويبثه كربه ولكن الزنزانة السوداء قطعة واحدة صماء ،لا تسمع صوتا ولا تفهم نحيبا . فانقطع من نفسه إذ ذاك آخر خيط من أنسه بالدنيا ومنفيها ، ولم يجد أمامه إلا السماء .. السماء التي هي وحدها مثابة المكروبين ومآلالبائسين والمظلومين . فرفع رأسه ونظر بعينيه إلى الأعلى نظرة بعث فيها كل آماله وزفراته المتجمعة بين جنبيه قائلا : ’’ رباه ألست تبصرني ..؟ ألست تبصرني ،وأنا عبدك الضعيف ، كيف أذوب بين كل هذه الآلام التي لا أطيقها ...؟ رباه إنعبيدك في الأرض لم يرقوا لحالي ولتعاستي وشقائي ، وإنما سحقوا جراحي ، كما ترى ، في التراب ، وحرموني حتى من الزاد الذي أتبلغ به في طريق فنائي . فارحمني أنت يا رب ،فوحقك لن أتوسل بعد اليوم إلى غيرك ، ولن أسكب دموعي إلا بين يديك ، ولن أتذلل إلالجلالتك ...‘‘ ولم يطبق جفنيه على هذه النظرة والكلمات التي قالها إلا وقد سرت إلى نفسه روح جديدة ، أخذت تمتد من وراء ضلوعه كما يمتد لسان من النور المتوهج بين تلافيف الظلام ، ولمست قلبه لمسة بعثت فيه بردا من الراحة والهدوء ، واضمحلت تلك الوحشة القائمة من حوله في روح من الأنس الغريب .. وما إن شعر بكل هذا في نفسه ومن حوله حتى عاد فرفع رأسه وقد قام مستندا إلى جدار الزنزانة ، يناجي الله سبحانه قائلا : ’’ إلهي ، لقد اهتديت إلى لطفك إذ فقدت الدنيا كل أسبابها وآمالها ،فوحق وجهك لن أحيد عن بابك بعد اليوم وإن عادت إلي الدنيا بكل ما فيها . فليظلمني الظالمون ، وليكد من أجلي الكائدون ، وليشعلوا قلبي بما شاؤوا من نارهم ، وليحبسوني في الظلمات وفي أوكار الوحوش . فوحق ربوبيتك التي لم أبرح ساجدا لها ، إن ذلك كله لا يضيرني في شيء ولا يقطع قلبي أوهى خيط من خيوط آماله . ما أعذب إلى نفسي الصبر .. ما دمت أستمتع بهديك الذي يشع في روحي ، وما أسهل هذا الظلام ما دمت أجد بين ضلوعي نورك الذي يؤنسني ، وما أهنأ إلى قلبي التعذيب ما دمت محاطا بخفّي رحمتك ولطفك . أما اليأس .. فهل للدنيا كلها أن تجعل لليأس سبيلا إلى قلبي ؟ّ أقسمبالقدّ الذي سبيتني باعتداله ، أقسم باللحظ التي أسكرتني بجمله ، أقسم بالنور الذيأضرمته علي نارا ، أقسم بالحسن الذي لم أذق منه إلا علقما وصابا ، أقسم بكل ذلك أنهذا العذاب مهما أفقدني الهدوء والقرار ، فإنه لن يفقدني الأمل في الوصال حتى ولوأسدلوا بيني و بينه حجاب الموت ! فما أجمل أن يسعد بمناه في ظل خلدك وتحت جناح لطفك . ولماذا لن يسعد ...؟ وهما وحقك يا مولاي ، كما تعلم ، روحان طاهرتان عفيفتان ،لم يتزودا من هذه الدنيا إلا بسعيرها وبؤسها ، تقدمان إلى رحاب الملك الخبير اللطف، ذي الرحمة الواسعة ، والعدل الشامل . واشوقاه يا مولاي إلى ذلك اليوم ...! إذنمضي إلى رحابك ، فتمسح بيمين لطفك عن كلينا مدامع الظالمين ، وتضمنا بين ذراعيرحمتك ، آمنين مقبولين ..‘‘ وهكذا أخذ يهبط إلى قلب ممو ، وهو في قعر تلك الموحشة ، أنس إلهي يحف به ويخفف من آلامه وأحزانه ، بعد أن انقطعت صلته من المخلوقين واستبد به اليأس منهم . وبمقدار انصرافه ويأسه من الدنيا ومن فيها أخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلق آماله به وحده . فاتخذ من مغارته تلك صومعة لا يفتأيناجي فيها الله تعالى ، ويتعبده لياليه وأيامه . يدخل إليه حارسه لإحضار طعامهإليه فلا يجده إلا قائما في صلاة أو ساجدا في مناجاة ... وأخذ جسمه يهبط إلى الرقة والذوبان بينما أخذت روحه تشب نحو القوة والطوق . وكلما راح منه الجسم نحوالرقة والإضمحلال وانطلقت روحه نحو الإنتعاش والقوة ، ازداد غيبوبة عن الدنياوأسبابها وتعلقاً بالسماء ومعانيها إلى أن غذا ذلك الهيكل الجسمي منه لعبة في يدالروح تصرفه كما تشاء ، وبدأت المادة تضمحل في سلطانها فلم يعد للزفرات في الجسم معناها المحرق ، ولا لسعير الفراق في الكبد أثره المذيب . وبدأت الروح ترقب فيشوق ولهفة شيئا واحدا .. وهو الإنطلاق لا من زنزانة السجن إلى الدنيا ، ولكن من قفص ذلك الجسم إلى الرحاب التي هيئت لها ...
| |
|
| |
منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: رد: ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء الإثنين مايو 07, 2012 10:36 pm | |
| اليأس
لم تكن زين قبل أن يصير ممو إلى هذه النهاية ، يائسة من السعادة .. رغم ما كانت تكابده من الآلام . فقد كان لها أمل كبير في أن تنال هي الأخرى مع ممو آمال قلبها ، كما نالت أختها ستي مع تاج الدين . ولكن ما أن علمت بذلك العقاب الشديد الذي أنزله الأمير بممو .. ذلك العقاب الذي جاء فدية له من القتل ! حتى بتر من قلبه كل ما كان يمتد فيه من عروق الأمل ، وأخذ فؤادها ينزف باللهب وخنقتها العبرات ، وضاقت رحاب الدنيا أمام عينيها . و كأنما أطبق عليها ذلك القصر ونعيمه والتصق بخناقها ، فلم تعد تشعر من حولها حتى بالهواء الذي تملأ به رئتيها . وتجمعت على مشاعرها آلام عدة .. أقلها يذيب النفس . كانتتتوجع مرة لمصير ممو وتبكي وحشته وانفراده في ذلك البئر .. وتتألم أخرى من أنه ربمايتخيل وهو في عذابه ذالك أنها سعيدة في رحاب هذا الصرح ، تتقلب في نعيم الحريةوالإنطلاق . ثم تتألم لنفسها ، ولغروب آمالها ، ومن أنها لم تعد تبصر بقية أيامعمرها أي بريق من الرجاء والأمل . ثم تعود فتتقلب بين جمر من زفرات شوقها ولواعجحبها .وكثيرا ما كان يمتزج في آلامها هذه معنى الحيرة والتعجب من كل هذا السوادوالبؤس في حظها ، فتتسائل قائلة : ’’ أي حكمة ترى يا إلهي تكمن وراء كل هذاالوابل الذي أمطرته على أيامي من التعاسة والشقاء ...؟ مرة واحدة .. لم تدر هذاالفلك نحو إسعادي وتفريح قلبي . يوما واحدا .. لم تدع هذه الدنيا تتألق أيضا فيعيني ؟! أسكرت أولا ذلك المسكين ، وطرحته في وهج من حبي . ثم عكست ذلك الوهج إلىقلبي أيضا ، وتركته يكابد حره ولظاه . أسرجت بيني وبينه الضياء قليلا ، حتى إذلمحني ولمحته ، وهفا إلي وانصرفت إليه ، أسرعت فأطفأت السراج وأسدلت بيني وبينهالظلام وتركت كلا ما ينطوي على ناره ، وينفرد لشوقه وحرمانه . أقمت من حول أعينناأفراح الناس وأعراسهم ، بينما تركت وراء جوانحنا مأتما من الأحزان والآلام . فماذا جنيت يا إلهي ...؟ بل ماذا جنى ذلك المسكين الذي أرسلته .. ليبحث عنآماله في ظلام المقام في باطن الأرض ..؟ ولكن ... لماذا أعتب .. ولمَ أقولهذا ؟ فقد علمت أن هذه قسمتي من الأزل ، وقد رضيت بها قبل اليوم . وعليّ أن أرضاهااليوم أيضا صابرة شاكرة . غفارانك اللهم ... لك مني الرضى والقبول بكل ما حكمتبه عليّ أقدارك ...‘‘ ويتراءى أما عينيها شبح ممو ، وكأنما ينظر إليها من وراءسجنه ، وهي طليقة في جنبات القصر ، بعين كاسفة ووجه متألم ، فيثير ذلك لواعجها ،وتحدثه قائلة : ’’ أو تحسب يا ممو أن رحب هذا القصر أوسع علي من مضيق سجنك ؟ أوأن إشراق هذه الدنيا من حولي أقل سوادا في ناظري من ظلمتك التي أنت فيها ؟ أو أنشيئا من النعيم الذي حولي يسليني عنك ويشغلني ؟ لا والله يا ممو ... أقسم لكوأنت قبلة فؤادي الولهان ، وأمل روحي الهائمة - أن سعة آفاق الدنيا أماي لا تزيدنيإلا حسرة وكربا ، وأن إشراق هذا القصر من حولي لا يبصرني إلا بسواد حظي الحالك .. نعيمي .. الزفرات التي تشق صدري ، وطعامي .. السُعار الذي يمزق أحشائي ،وشرابي الدموع التي تذيب كبدي . أما فراشي ، فهو ذلك القتاد الذي يظل يدمي منيسويداء القلب ، ليست لي عين يفرغ منها الدمع لتغمض ، ولا شعور تهدأ منه الثورةليستكين . هذه حالتي يا ممو وأنا في رحاب هذا القصر ، فقل لي كيف حالك وأنت فيغياهب ذلك السجن ..؟ قل لي من هو أنيسك فيذلك الظلام ؟ ومن هو جليسك الذي تشكرإليه الآلام ؟ كيف تقضي الليل ، وأنت لا ترى سمائك كوكبا يواسيك أو يطل عليك ؟! وكيف يمر نهارك دون أن ترى من حولك أي إنسان يحدثك ، أو تمر بك نسمة تنعشك ، أوتبصر أمامك غصنا أو طائرا يسليك ؟ آه لو كان لروحي التي بين جنبي أن تنطلق مرةإلى ذلك الغور لتبصر ذلك المسكين ، وتعود إلي بالخبر عن حالته وصحته وجسمه . أخشىأن يكون الجزع قد استبد به والآلام استحكمت في نفسه فيكون في ذلك المكان قضاؤه . بل آه لو امتد غضب هذا الأمير إلي أيضا ، فاثقلني بالسلاسل والأغلال وزجني معهفي ذلك الظلام . إذا والله لاطلقني من سجن هذه الدنيا إلى رحب الجنان ، وافلتني منقيود هذه النعمة التي حطمتني إلى حيث أستطيع أن أرى فيه سعادتي ، وأدواي ذلك القلبالذي لم يرق لحاله أحد . ما أشد ظلام هذا اليأس في عيني ، وما أشد خوفي من أنيكون الدهر قد انطوى على آخر لقاء بيني وبين هذا إنسان قلبي ، وقرر أن يحرمني حتىمن مشاهدته والإطمئنان على حاله ‘‘ وهكذا أخذت زين تفقد أخيرا بقية ما في جسمهامن حول وقوة ، وعافت كل طعام وشراب ، وأضناها الهزال واليأس إلى أن غدت نهبة للعللوالأمراض . ولم يعد يخفى على أخيها ما تكابده من ألم وحب شديد لممو ولكنه معذلك ظل متجاهلا أمرها غير مكترث بحالها فقد كانت سكرة الغيرة والحمية في نفسه قدغشت على عقله وعاطفته حيال هذهين العاشقين ، تلك السكرة التي نفخها في رأسه حاجبهالخبيث ، إذ رماهما له بتهم باطلة ، وأدخله إلى وهمه أن ممو لم يعد يجد مانعا من أنيلوث سمعة قصره بمعاني العشق والغرام بأخته بعد أن رفض أن يزوجه بها . وانقطعالأمير عن الإلتفات إلى أخته الصغيرة مرة واحدة لا يسأل عنها بكلمة ، ولا يرحمهابنظرة ، بل ولا يحاول أن يمر ولو مرة بجناحها من القصر ليعلم ما حالها وما الذيانتهى إليه أمرها .
الثورة
انقضى عام كامل على ممو وهو لايزال ملقى في سجنه ، ورفيقة شقائه لا تزال تعاني كربها وعلل نفسها وجسمها . وأصدقاؤهما لا يجلو عنهم ذاك الحزن والهم من أجلهما ، لا سيما تاج الدين وستي ، ذاك لا يبارح خياله ممو وهو قابع في وحشة الإنفراد يكابد هذه النهاية التي حكم بها القضاء بعد كل حرمانه وشقائه . وتلك لا تفتأ تتوجع لحالة أختها زين التي تدهورت صحتها وطرحها الضنى والعذاب ، حتى إنها عافت واستثقلت كل مظاهر نعيمها وسعادتها التي آتاها الدهر بعد أن عافت أختها من كل ذلك ونكبها هذه النكبة المريرة . وقد بائت كل محاولات أولئك الأصدقاء لإطلاق سراح ممو والعفو عنه بالخيبة ، فلم يكن أحد ليستطيع أن يستدر بشكل ما عطف الأمير وشفقته عليه . وفي ليلة صامتة هادئة ... كان أصدقاء ممو كلهم مجتمعين في دار تاج الدين ، تلك الدار التي يعرف الناظر إليها أنها كانت في يوم ما قصرا رائعا .. يتبادلون المشورة والآراء لإيجاد حل حاسم لهذه المشكلة . وقد بلغ بهم الكرب أقصاه ، وانتهى الصبر فيهم إلى آخر مرحلة . وارتأى بعضهم أن يغدو جميعا مع صبح اليوم التالي إلى الأمير لآخر مرة .. يستشفعونه في ممو ، ويستدرون عطفه .. و يلحون في الرجاء بإطلاقه .. فإن استجاب فذاك وإلا عادوا فقرروا سبيلا آخر أصلب من هذا ... ولكن عارفاً لم يعجبه الرأي وقال : ’’ إن من الضعف والخور بعد كل الذي عرضناه من رجاء ، وتصنعناه من ذل - أن نعود إلى هذا الإسلوب بعينيه . إن إخراج ممو من السجن لم يعد يمكن عن طريق الرجاء والكلام في الدواوين ، وإنما يخرجه اليوم شيء واحد ، هو هذه السواعد التي نملكها .. فعلينا أن نتركها هي اليوم ترجو وتتكلم ، لا في المجالس والدواوين ولكن في الفلاة والميادين ...! علينا إذا أردنا أن يعود ممو إلينا أن نبادر مع صبح الغد فنرتدي دروعنا ، ونشتمل سيوفنا ، ثم يستوي كل منا على جواده ، فننطلق بالحراب والسنان نهزها ، ونستدر بها وحدها عطف الأمير ، ليطلق سراح ممو . فإن رقق ذلك من قلبه وقضى مرادنا فذاك .. وإلا أعلنا حربا مستعرة هوجاء ، عليه وعلى كل من ستثكله أمه من اتباعه وبطانته ، وعلى رأسهم كلبه اللئيم الحقير . ولتنفتل رحى الآجال إذ ذاك ، تعصف بالرؤوس ، ولتصبح ’’ بوطان ‘‘ حلبة لرقصة الموت ، وليستمتع أهلها بلحن الأتراس والسيوف . فإما شققنا غبار ذلك كله إلى ممو فأنقذناه برماحنا وسواعدنا ، وإما لحقنا به وعانقنا معه الموت والردى .‘‘ وما إن أبدى هذا الرأي ، وأتم كلامه الملتهب حتى أثار حماسة الجالسين ، وأشعل دمائهم ، وأجمعوا على أن يتلاقوا جميعا في صبح اليوم التالي في عدة الحرب ليشنوها غارة على الأمير ...! وفي صبح ذلك اليوم فوجئ أهل الجزيرة من هؤلاء الأشقاء الثلاثة بأمر لم يكونوا يحسبوا له حسابا .وطاف هؤلاء الثلاثة ومن معهم من الأصدقاء والأصحاب على أهلهم وذويهم - وقد حزموا أمرهم على الحرب ، ولبسوا لها لباسها ، وأعدوا لها عدتها - يستسمحونهم ويودعونهم . ثم انطلقوا في خيلهم ورجلهم ، وقد اجتمع منهم عدد كبير ، يؤمون قصرالأمير .. ولما صاروا على مقربة منه اختارتاج الدين ممن معه شيخا مسنا ، فبعثه رسولا إلى الأمير ، يخبره بالشأن .. وأمره أن يقول ما يلي : ’’ أيها الأمير ، هؤلاء الأخوة الأربعة - ممو وتاج الدين وعارف وجكو - لست تجهل أن أحدا منهم لم يتهاون يوما ما في خدمتك ، ولم يتبدل منه الإخلاص في محبتك . فبأي حق وإنصاف تمر سنة كاملة ، وأنت حابس عنهم أعز أخ بينهم .. وملق به في ذلك القبر .. ليس له هناك من راع ولا صاحب ؟! أيقظت عليهم شماتة الحساد ، وأقمت من حولهم هموم الأصدقاء والأصحاب ، وتنكرت لهم ، فلم تستمع منهم إلى استعطاف أو رجاء ! ما هو ذنب ممو ...؟ أليس كل ذنبه الذي جعله يستحق منكم هذا العقاب أنه عاشق ....؟ ولكن ماذا يصنع .. وإن للعشق سلطانا أقوى من سلطانك ؟ فهلاّ انتقمت إن كنت ذا طول وطود من ذلك السلطان الذي عاندك فاسترقّه - عوضا عن أن تنتقم من هذا البريء الضعيف الذي ليس له من الأمر شيء ..؟! أيها الأمير : إن هؤلاء الأخوة الأربعة ليس أحد يجهل أنهم أركان أربعة لسعادتك وسلطانك .. وهم اليوم يتقدمون إلى رحابكم باسم الوفاء والعدل طالبين لآخر مرة إطلاق سراح رابعهم من ذلك السجن . وإلا فإن أحداً من البقية .. لا يجد في نفسه ضرورة إلى الحياة بعد اليوم ...‘‘ وراح الشيخ .. واستأذن على الأمير بعد أن رآه بكر وعرف المسألة كلها .. فأبلغه هذه الرسالة كما حمّله إياها تاج الدين ، ووقف ينتظر الجواب . فأخذ الأمير يفكر وقد بدا على ملامحه الحذر والتريث . ثم نظر إلى الشيخ قائلا وقد أسرّ في نفسه أمرا : ’’ أيها الشيخ . عد إلى هؤلاء الذين أرسلوك ، فقل لهم : من أين ارتكزت في أذهانهم هذه الأوهام الفاسدة حتى تقوم في رؤوسهم هذه الثورة التي لا داعي لها ..؟ وليحدث كل ما يفرض أن يكون ، فهل يعقل أن نفوت ونترك أصدقائنا ، وأن نتخلى عن تقديرهم ومحبتهم ، سيما وإن لهم عندنا خدمات وأيادي لا تنسى ، أما ممو فإنا رأينا أن نفعل به ذلك تأديبا وإيقافا له عند حده ، وها أنا اليوم سأجعل كلا من ممو وزين فداء لتاج الدين وأخويه ، فليطب خاطرهم . بل وسأهبها لهم ليتحققوا من إخلاصنا في حبهم وتقديرهم ..‘‘ فتهللت أساسير الشيخ ، وانحنى شاكرا بين يديه ، ثم انصرف عائدا إلى القوم الذين كانوا في انتظاره . وما إن أخبرتهم بما قاله الأمير حتى سري عنهم وخمدت ثورتهم وتفرقوا عائدين إلى دورهم في انتظار الابتهاج بإطلاق سراح ممو وتزويجه من حبيبته زين .
| |
|
| |
| ملحمة ممو زين قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء | |
|