- 11 -
لم أجد بدا من الخروج بها بسيارتي ، ذهبت بها إلى بقالة قريبة ، اشتريت لها بعض الحلوى ، لم يكن لديها رغبة ، تذكرت أنها تحب وجبة أطفال في مطعم وجبات سريعة ، وكان يوجد فيه بعض الألعاب الكهربائية ، دخلنا المطعم ، طلبت لها وجبة أطفال ، ثم أخذت تلعب بتلك الألعاب ولكن لم تكن مسرورة ، فقد تعودت أن تلعب أختها معها .
خرجنا من المطعم ، تجولت بها بالسيارة ، وهي لم تفتأ تسألني عن أمها وأختها ، ولم تنس أنها كانت لا تمشي ، فأخذت تسأل سؤالها المعتاد ليه غادة ما تمشي ؟!
طالت جولتنا بالسيارة حتى نامت أخيرا ، ثم عدت بها إلى بيت أختى ، وذهبت إلى الشقة ، مجهدا متعبا ، ورأسي مثقل بالتفكير والهموم .
ظهر الأربعاء اصطحبت ندى معي إلى المستشفى ، كانت أمها في شوقٍ إليها فقد مضى أربعة أيام ولم ترها ، حيث كانت ملتهية مع غادة في اشتداد أزمتها أثناء إصابتها بالمايكروب .
اتصلت على أمها من هاتف بالأسفل ، فنزلت وأسرعت تقبلها وتحتضنها وتبكي ، وندى لا تفتر تسأل أمها : ليه أنت جالسة هنا يا ماما ؟ أين غادة يا ماما ؟ والأم تزيد بكاء كلما سمعتها ..
في تلك الأثناء صعدت إلى غادة ، كانت نائمة ، أخذت أنظر إليها بأسى ، وضمور المخ يدق على رأسي بشدة ، يذكرني به في كل وقت ، خيل إلي أني ألقي نظراتي الأخيرة عليها ، اغرورقت عيني بالدموع ، رن جرس الهاتف ، كانت أمها تقول تطلب أن أنزل عند ندى حتى تصعد هي عند غادة ..
عدت بندى مرة أخرى إلى بيت أختي ، هدأت قليلا بعد أن شاهدت أمها ، ودعتها وعدت إلى الشقة ، و ورميت جسمي المتعب على ذلك السرير .
كان صوت غادة وهي تلعب يرن في أذني ، صراخها وهي تركض مع أختها يملأ البيت ، ضحكاتها وأنا ألاعبها يجلجل في كل مكان .
صداع قوي يضغط على مقدمة رأسي ، وألم شديد في عيني يعتصرهما ، وبالرغم من ذلك ذهبت في نوم مضطرب .
عصر اليوم ذهبت إلى المستشفى ، جلست بجانب أمها كل منا كان يسلي الآخر ، كان قليلا من النشاط قد دب في غادة ، لكن لم تكن تعرفني أو تفرح بي إذا حضرت ، كانت كل ما تفعله عندما تستيقظ أن تبكي أو تدور بعينيها ، أو تظل صامتة .
جاء بعض الزوار ، أشفقوا علينا ، بدأوا يحكون لنا قصص لمرضى مرضا شديدا شفوا بعد ذلك ، ذكروا أننا مأجورون على صبرنا ، شكرناهم داعين الله أن لا يريهم مكروها ..
ذهب الجميع ، كانت أمها شبه منهارة ، تنظر إلى ابنتها وتبكي ، وكأنها تودعها ، بنظرات كلها أسى ، تركتها تخرج ما في صدرها من ألم ، هدأت قليلا ، جاءتني فكرة السفر بها إلى الخارج ، لكنها اصطدمت بطول الاجراءات وضيق الوقت ، ثم طرأت البحث عن مستشفى آخر غير التخصصي ، وقررت المضي في ذلك من الغد .
بعد نصف ساعة من نهاية موعد الزيارة ، خرجت أجرجر قدمي ، ركت سيارتي ، كم هو مر طعم الموت ، تذكرت أن أمي تذوقته مع أطفالها سبع مرات ، كانت في لحظات حزنها تحكي لي قصة فقدها لواحد من أطفالها السبعة ، كلهم ماتوا وهم صغار ، في المهد أويمشون ، كانت تذرف الدموع وهي تتحدث عن بنت لها جميلة ، كان عمرها سنتين ونصف ، كانت جميلة هادئة ، تمشي وتلعب عندها ، ارتفعت حرارتها ذات يوم ، ثم ماتت بعد يومين ، كانت امي تحكي لي ذلك وهي تبكي ، رغم مرور عقود من الزمن على موتهم ، لكنه قلب الأم .. تنهدت وتمتمت لها بالدعاء وبعظيم الأجر .
وصلت إلى الشقة ، رميت بنفسي على السرير ، لا أريد أن أفكر فقد تعبت من التفكير ، كل جزء من جسمي يئن من التعب والإجهاد ، حتى غلبني النوم .
في صباح الخميس استيقظت على رنين الهاتف ، كانت الساعة تشير إلى العاشرة وتزيد ، رفعت السماعة ، جاءني صوت أم ندى وهي تنشج وتبكي .
،،،،،
- 12 -
كانت تحاول أن تخبرني شيئا ، قلت لها : هدئي من روعك وقولي ما بك ؟
- إني خائفة عليك .. هناك خبر سيْ ..
- وما هو ؟
- لقد عرفوا مرض غادة ..
- غير معقول ! وما هو ؟ وكيف ؟
- لقد حضر طبيب مصري وكشف عليها وقال .. ثم أجهشت في بكاء حاد ..
- تعوذي بالله من الشيطان الرجيم .. وقولي ما الأمر ؟
- يقول إن لديها فايروس في المخيخ ..
- أخيرا عرفوا ما بها ..
- غريبة ! كنت أتوقع أنك ستنهار !
- اسمعي سآتي الآن ..
أغلقت السماعة ، وأسرعت متوجها نحو المستشفى ، ذهبت إلى الغرفة 7 أ ، لم أجدهما ، تسارعت أنفاسي ودقات قلبي ، قالت لي ممرضة : إنهما بالدور العلوي غرفة 9 .
صعدت إلى الدور العلوي ، كان المكان نظيفا شرحا يدخله الهواء ، ذهبت إلى الغرفة التي ذكرتها لي الممرضة ، كانت الأم تجفف دموعها ، ثم حكت لي تفاصيل ما حدث .
قالت : جاء طبيب مصري كان في إجازة لمدة أسبوعين ، وعاد إلى المستشفى ليأخذ بعض حاجياته ، حيث كان بصددالسفر في إجازة أخرى طويلة إلى بلاده ، فقالوا له : لدينا حالة حيرتنا ، لم نعرف لها تشخيصا ، فجاء وفحص غادة وسألني بعض الأسئلة بعد أن عرفني بأنه طبيب أعصاب ، ثم قال لي : هل البنت كانت تشكو من زكام أو كحة قبل إصابتها بهذا المرض ؟ فقلت : نعم ، كان زكاما ، فقال : إن فايروس الزكام وبعد أن أنهى دورته في جسم غادة لم يخرج كالعادة مع مخارج الجسم ، بل صعد واستقر في المخيخ ، وهناك بدأ يعطل بعض خصائص الإنسان من الحركة والتركيز حيث كنتم تشاهدون رعشة يدها ، وكذلك بعض الحواس الأخرى كالنطق ونحو ذلك .
فأجهشتُ في بكاء حاد بعدما سمعت كلمة فايروس في المخيخ ، فأخذ يطمئنني قائلا : إن هذا الفايروس يأخذ دورته في جسم الإنسان ثم سيذهب وسيعود المريض إلى كامل عافيته في مدة أربعة إلى ستة أسابيع .
كتنت فرحتي لا توصف وزوجتي تقول ستعود إلى سابق عهدها بعد أربعة أسابيع ، إذن عادت الحياة لك يا غادة وذهبت رائحة الموت التي كانت سائدة طوال الأيام الماضية ، وجاء بدلا عنها رائحة الحياة ، وما أجملها من رائحة .
استيقظت غادة من نومها ، حملتها والسعادة تغمرني ، قبلتها سرت بها في أرجاء الغرفة ، كانت لا تزال تتحدث بصوت غير واضح ، لكنها كانت تتحكم قليلا برقبتها ، خرجت بها أتجول في أورقة المستشفى ، كنت في قمة سعادتي ، وكانت فرحة بأبيها وكأنها لأول مرة تشاهده ، كانت في حال أفضل من ليلة أمس ، كانت تشير إلى بعض الأماكن وتتحدث بصوت غير مسموع ، لا بأس يا عزيزتي غدا ستخرجين صوتا ، غدا ستعودين كما كنت تمشين .. تركضين .. تملئين الشقة صراخا ولعبا وجريا .. لن أقول لك كفى .. لن أقول لك توقفي .. لن أقول لك ازعجتيني بل العبي كما شئت ..
عدت إلى الغرفة ، كانت أمها مازالت قلقة ، لم تستوعب عودة الحياة مرة أخرى ، لم تكن تصدق أن ابنتها قد كتب لها الحياة .. مازالت رائحة الموت تستنشقها ، وتملأ رأسها ..
أخذت أشرح لها الأمر ، وكيف أنها ستعود إلى كما كانت زهرة متفتحة بعبقها الأخاذ ، وستعود كما كانت غادة تلك التي ملأت البيت صراخا ..
كنت لا أريد أن أتركها ، ذهبت بها إلى الطبيب ، طبعا لم يكن ذلك الطبيب الأول ، طلبت منه الإذن بالخروج من المستشفى ، لكنه رفض وقال ليس بعد !
استغربت الأمر ، فقال : هناك أمر يجب أن تجلس في المستشفى من أجله ..
13
قال الطبيب : أود أن أقدم اعتذاري حول خطأ قامت به إحدى الممرضات ، فقد مالت إبرة المغذية عن العرق ، مما أدى إلى إصابتها بمايكروب أدى إلى انتفاخ يدها ، وقد وصفت لها مضادا حيويا لمدة خمسة أيام ، وستتعافى من ذلك بإذن الله .
قلت : هذا غير مهم .. عفا الله عنها .. لن أطالبها بشيْ.. فقد شاهدنا ما هو أسوأ من ذلك ، وبإمكاننا الخروج والعودة وقتما تشاؤون .
لكنه أصر على بقائها تحسبا لمضاعفات خطيرة تحصل ليدها ، وافقت مرغما ، وسارت هذه الأيام ونحن في قمة سعادتنا و ولم تحدث مضاعفات ليدها ولله الحمد .
وعادت غادة إلى سابق عهدها تفرح بي إذا حضرت ، فأحملها وأسير بها في جنبات المستشفى ، وهي تشير بصوت غير مسموع إلى أشياء كثيرة تشاهدها ، وكانت تبكي كلما أردت الخروج عند انتهاء وقت الزيارة .
في يوم الاثنين ، وبعد نهاية العمل ذهبت إليهم ، كانت غادة في أفضل حال ، ذهبت إلى الطبيب ، فتحدثت معه بشأن الخروج ، فقال لي لا بأس ، وكتب لها ورقة الخروج ..
عدت إليهما بالورقة ، وكأنها ورقة براءة لسجين محكوم عليه بالإعدام ، فرحت أمها كثيرا ، وبدأت تلملم أغراضها ، حملت غادة ، ولم آخذها بجولة في المستشفى فلديها جولة أفضل .
نزلنا من الدور العلوي ، ومررنا بالدور الأول الكئيب ، طلبت من أمها أن نزور غرفتهما القديمة فرفضت ، كانت رائحته نتنة ، تبعث في النفوس اليأس ، وقرب النهاية والموت ، وعادت رائحة الموت إلى أنفي أشمها مرة أخرى ..
أسرعت الخطى ، ونزلنا إلى الدور الأرضي ، ومررنا بأماكن كانت تذكرنا ببداية مرضها ، كانت الأم تسير وهي تبكي بهدوء ، أحسست به في بطء حركتها وعدم دقة مشيها .
أقسمت في داخلي أن لا أزور هذا المكان ما حييت ، وصلنا إلى السيارة ، وضعت الحقيبة في الخلف ، وانطلقنا نحو الشقة .
تنهدت أمها وقالت : ما أقساها من ستة عشر يوما مرت علي وأنا في ذلك المستشفى ، يا لها من أيام سيئة عشتها هناك ,كنت أشاهد الموت كل يوم ,كنت أتوقع موتها في كل يوم لا بل في كل لحظة .. شاهدت مناظر تذهب بالعقل ، كنت وقتها أدعو الله أن يثبتني .. ما أقساها من ايام .. ثم أخذت تجهش في بكاء حاد ..
طمأنتها أن هذا ابتلاء من الله ، أنصبر أم نجزع ، أنحتسب أم نسخط ، والحمد لله على كل حال ،هاهي غادة تعود إلى سابق عهدها ، كل يوم تتحسن فيه شيئا بسيطا ، وستعود كما كانت بإذن الله كما يقول الطبيب .
ذهبت إلى بيت أختي وأخذنا ندى ، كان لقاء مؤثرا بين الأم وابنتها ، بكت الأم وقتها ما لم تبكه في الأيام السابقة ، فرحت ندى بغادة كثيرا ، وتساءلت قائلة : رجعوا غادة ؟
بعد يومين ، كانت غادة تسير كما يسير طفل في شهره الثامن أو التاسع ممسكة بالجدار أو بالكنب ، وبدأت تتكلم كما يتكلم من هو في ذلك العمر ، كانت تقول بابا .. ماما .. ، وبدأ شيئا من صوتها يخرج.
بعد ثلاثة أيام أخرى ، كنت أسير في صالة البيت وغادة ممسكة بي من الخلف تسير ببطء وتسقط أحيانا ، ولكنها فرحة ووجهها مشرق ...
بعد مضي أسبوعين بدأ صوتها يسمع وبدأت تمشي بشكل أفضل ..
بعد مرور شهر كنا في رحلة برية ، وقفت غادة وندى جنبا إلى جنب ، ثم انطلقا في سباق مثير ، كنت أصرخ لبث الحماس فيهما ، كي أر من تسبق الأخرى ، بينما أمهما جلست في ركنٍ تبكي فرحا ..
،،،،،
14
السلام عليكم ..
أنا غادة ..
لقد طلب مني أبي أن أتحدث إليكم هنا ..
أنا الآن عمري إحدى عشرة سنة ، وأدرس في الصف السادس ، يسرني أن أخبركم أن يدي لم تعد ترتعش ، وعيناي لم تعد تتقلب ، بل أني عدت سليمة تماما بعد مرور ثلاثة أسابيع تقريبا من تلك الوعكة التي مررت بها كما يذكر والداي ..
أعرف أني قد سببت ألما لأمي وأبي ، لكن لم يكن ذلك بيدي ، بل هو أمر قضاه الله سبحانه وتعالى كي يزيد في حسناتهما أو يمحو من سيئاتهما ..
أنا الآن سليمة تماما ، قدماي لم تعد مقوستين ، كما أن صحتي رائعة ولله الحمد والمنة .
لكن أبي مازال يعاني آثار ذلك المرض ، فقد شاهدته عندما يمرض أحد أخوتي الصغار كيف كان يقلق ويطالب أمي أن توليهم اهتمامها ..
أصبح أبي لا يطيقنا نمرض ، يفزع و يخاف أن تتكرر تلك الحادثة .. هذا ما أثرته تلك القصة على أبي ..
أما أمي .. فقد لاحظتها عندما كان أبي يسألها عن تفاصيل معينة في قصة مرضي عندما قرر الكتابة عنها كانت تصمت أحيانا تتدافع عبراتها وأحيانا تنفجر باكية رغم مرور عشر سنوات على تلك الحكاية أو تطالب أبي بعدم نبش الماضي المر لنعيش الحاضر الحلو ..
لقد لاحظت أبي وهو يكتب كان يشعر ببعض الألم ، كان يكتب يوما ليتوقف أياما ثم يعود مرة أخرى للكتابة ، كان كمن يشعر بألم ليتوقف كي يزول ثم يعاود مرة أخرى ..
لا أطيل عليكم آمل أن قصتي لم تسبب لكم ألما أيضا ، وأنها أضافت لكم شيئا .. والسلام عليكم .
،،،،
،،،،