منة الإدارة
عدد المساهمات : 4047 تاريخ التسجيل : 05/03/2012 الموقع : الوطن العربى
| موضوع: قصة رائحة الموت الأربعاء مايو 30, 2012 11:25 pm | |
|
رائحة الموت - 1 – في إحدى ملاهي مدينة الرياض ، كنت واقفا مع زوجتي ، نراقب ابنتنا ندى ذات العامين تلعب في إحدى الألعاب الكهربائية ، كانت البنت يبدو عليها البرود وعدم الاهتمام باللعبة ، ولم تكن فرحة جدا باللعب كما غيرها من الأطفال . كانت ندى بطبعها هادئة جدا ، تذكرني بهدوئي عندما كنت صغيرا ، كان أهلي يمتدحون ذلك الهدوء ، وذلك الصمت الذي يعتريني أحيانا ، كنت وقتئذ استمتع بمنظر الوجوه وهي تتحدث ، وأبدأ أحلل النظرات والكلمات بطريقتي ، ولم أكن ألجأ إلى هذه الطريقة دائما بل في كثير من الأحيان . وحيث أن الشخص يحب نقيضه في الأمور التي لا يحبها ، لذا كنت فرحا جدا ، عندما رزقنا الله بزهرة أخرى تختلف عن أختها ، زهرة أخرى بعبق مختلف ، أضفت إلى البيت رائحة أخاذة ، فقد كانت غادة تحب اللعب ، كثيرة الحركة واللهو ، تستجيب لما تقوم به من كلمة أو حركة أو لهو ، كما أنها تعبر عما في داخلها أريد هذا ولا أريد ذاك ، وصوتها يملأ البيت بكاء وصراخا وحديثا . كبرت غادة وأخذت تلعب مع أختها ، وأصبح البيت يعج بالحركة و الصخب ، على الرغم أنه لم يكن هناك تشاحن أو خصام بينهما ، نظرا لطبيعة ندى الهادئة والمتسامحة ، وكذلك لم تكن غادة ذات مشاكل ، كل ما في الأمر أن البيت أخذ يسمع له صوت . في الشهر الحادي عشر خطت غادة خطواتها الأولى ، وبدأت تدب على قدميها ، فأصبح لها رونق آخر وهي تسير في أرجاء شقتنا وبجانبها أختها تمسك بيدها ، تسير بها هنا وهناك ، يلعبان معا ويلهوان معا ، ويذهبان معي إلى البقالة لشراء بعض الحلويات والحاجيات . كما بدأت غادة في نطق بعض الكلمات البسيطة ، زادتها جمالا ، وجعلنا نستمتع برنين تلك الكلمات وطريقة نطقها ، وكذلك حديثها مع أختها وكيف يتفاهمان معا . بمرور الأيام بدأنا نلاحظ تقوسا في قدمي غادة ، كانت تسير وتتمايل تقريبا يمينا وشمالا ، وللحق فقد كنت اعتقد أن حفاظ الأطفال له دوره في ذلك ، لكن إحدى قريباتي هي التي نبهتنا لذلك ، وذكرت أن الحفاظ لا يعمل ذلك التمايل الشديد . ذهبت بها إلى أحد المستشفيات الحكومية الكبيرة ، وأجرينا لها بعض الفحوصات اللازمة ، فاتضح أن لديها نقصا في فيتامين ( د ) ، ونصحونا أن تتعرض البنت لأشعة الشمس ، فهي أكبر مزود للفيتامين ، وأعطونا كذلك شرابا تأخذ منه البنت خمسين نقطة لمدة شهرين ، ثم خمس نقط يوميا ولعدة أشهر ، كما أخذت أمها تسقيها وتدهن قدميها بشراب ( الحوت ) بناء على نصيحة الأمهات . كم أتذكر تلك اللحظات التي تكون فيها غادة سعيدة ، تلعب بألعابها أو مع أختها ، وعندما يحين موعد الجرعة تناديها أمها ، ثم تفتح البنت فمها ، وعن طريق حقنة بلا إبرة تدفع سائلا مرا من فيتامين دال داخل فمها ، ولشدة مرورته ، كانت تقف قليلا و يتغير وجهها ، ثم تعاود نشاطها من جديد . بعد مرور فترة من العلاج ليست فصيرة ، تحسنت حالتها كثيرا ، وبدأ التقوس يتعدل ولكن ببطء ، وذهب قليل من ذلك التمايل الذي كان يظهر عليها أثناء مشيها ، فحمدنا الله على ما تحقق ، ثم سارت الأيام بنا جميلة إلى أن بدأت الحكاية .. . انتظروني........بتكملة القصة [size=21]
[size=21][b]في مساء يوم أحد ، اصطحبت غادة معي في مشوارٍ سريع ٍ إلى قريب لي لأعطيه غرضا ما ، كان عمرها وقتئذ سنة وستة أشهر ، وقفت بالسيارة أمام العمارة التي فيها شقته ، وجاء قريبي وأعطيته الغرض ، ومن عادته أن يلاعب غادة قليلا ، لكنها لم تتفاعل معه كعادتها ، أثار ذلك انتباهي . في طريق عودتنا إلى البيت لاحظت في وجهها شحوبا ، قلت لعله من آثار مرض الزكام الذي أصيبت به قبل أيام ، وعندما وصلت البيت حكيت ذلك لأمها الذي وافقتني على ذلك التفسير . سارت أيامها القادمة على ذلك الكسل والخمول والوجه الشاحب ، حتى جاء صباح يوم الجمعة ، فقد استيقظت معي في العاشرة صباحا ، وتناولنا إفطارنا معا ، وبدأت في قراءة الصحف ، بينما كانت تلعب بجانبي بوجهها الشاحب ، عندما عدت من صلاة الجمعة وجدتها نائمة ، استغربت الأمر ! فلم يكن من عادتها أن تنام مرة أخرى بعد استيقاظها ، فضلا عن نومها باكرا ليلة الجمعة ، واستمرت في نومها حتى الرابعة عصرا . في تلك الأثناء كنا نتناول غداءنا في صالة الشقة ، عندما استيقظت وأقبلت علينا بوجهها الشاحب المتكدر ، و بمشية غير متزنة ، فقدكانت المسافة من غرفتها إلى الصالة ثمانية أمتار تقريبا ، مشت خمسة منها ثم سقطت على الأرض وهي تبكي ، نهضت من مكاني وحملتها ووضعتها بجانبي . بدأت تظهر منا بعض التفسيرات لسقوطها : - لعلها شوكة في قدميها .. - بل لعلها قطعة زجاجة .. - أو لعلها دعست على شيْ آلمها .. - بل لعلها .. تحسست قدميها بيدي ، لا أثر لشيْ ، ولم تصرخ بمرور يدي عليها ، ومازلت تبكي متكدرة ، أكملنا غداءنا ، واستعدينا للخروج ، فلديهم زيارة لأقاربهم ، وبدأنا نعتبر الأمر عاديا كونه أمر عارض سيزول . في المساء اتصلت عليّ أمها ، لتخبرني أن البنت رغم أنها لم تمشي فقد بدت سعيدة ، وأنها تلعب مع الأطفال وتتفاعل معهم . في ظهر السبت ولما عدت من العمل ، كانت في الصالة هادئة ، جالسة بوجهها المتكدر ، سألت أمها عنها ، قالت : لما استيقظت لم تمش ، فحملتها ووضعتها في الصالة .. ذهبت إليها ، حملتها ، وقبلتها ، حاولت معها أن تمشي فرفضت كليا ، تحسست قدميها مرة أخرى ، لا يبدو هناك شيْ !حركت قديمها وحاولت منها أن تدفعني بقدميها ، فإذا هما قويتان وتحركهما بطريقة طبيعية ! لكن البنت في نهاية الأمر ترفض المشي على قدميها !! قررت الذهاب بها إلى طبيب ، ولكن ليس أي طبيب ، فالحالة ليست مرضا عاديا كزكام أوكحة ، بل هو أبعد من هذا ، إنها قضية مشي ، كان هناك طبيب له سمعة طيبة يعمل في مستوصف ، لكنها لا يعمل إلا ما بعد الثانية عشر ليلا .. ومع ذلك قررنا الذهاب إليه ، فهو الأفضل . في تمام الحادية عشر ليلا ، كنا في المستوصف ومعنا غادة التي مازالت مصرة على عدم المشي ، كان رقمنا أربعة في سجل المنتظرين ، ... في تمام الثانية عشرة وصل الطبيب ، وبعد نصف ساعة جاء دورنا ، كنا في لهفة تامة لمعرفة سر عدم المشي ، دخلنا على الطبيب ، أخبرناه بالأمر ، ف***ا ، قال : لديها زكام سيذهب بمرور الأيام ، قلت: لا يهمني أمر الزكام المهم لماذا لا تمشي ؟! طلب الطبيب منها المشي ، فرفضت تماما ، أنزلتها وطلبت منها أن تمشي وشجعتها بحلوى ، رفضت أيضا ، فحص قدميها ، ثم قال : قد يكون هناك شيْ ما في قدميها ، والطفل يخاف أكثر لذا تجده يرفض المشي لوجود ما يؤلمه .. أكد لنا أن لا شيْ يعيقها عن المشي ، ولكن اصبرا عليها قليلا ، حتى يزول ما في قدميها أوتنسى أمره ، وستعود للمشي مرة أخرى . في تلك الليلة ، عاد إلينا بصيص أمل من كلام الطبيب ، فهو أدرى منا بأي حال ، ولعله كما قال أمر عارض وسيزول ، ولم نكن نعرف أن الأيام كانت تخبي لنا مناظر مرعبة
– 3 –
عندما عدت من العمل ظهر يوم الأحد ، كانت غادة في الصالة جالسة ، كانت تحاول فتح بسكويتا ، فلاحظت أن يدها اليسرى ترتعش ، كما ترتعش يد المصاب بالشلل الرعاش ( باركسون ) ، هالني المنظر وأفزعني ، ترى ماذا يحدث ؟ وأي مرض هذا الذي تعاني منه البنت ؟! فتحت لها البسكويت ، ثم حملتها ، وذهبنا إلى المطبخ حيث أمها ، فسألتها عن البنت وماذا فعلت اليوم ؟ فقالت : استيقظت اليوم ، ولم تمش كعادتها ، فحملتها ووضعتها في الصالة. لم أخبرها برعشة اليد التي رأيت ، فلا أريد أن أزيدها خوفا وقلقا ، عدت للصالة ، جلست انظر إلى ابنتي بقلب وجل ، ومئات الاستفهامات تتصارع في ذهني ، آه لو كنت تتكلمين وتخبرينا ما بكِ ؟ ومم تشكين ؟ لاحظت أن يدها لم تعد ترتعش ، واكتشفت أنها إذا أرادت التركيز على شيْ ما فإن الارتعاش يعود إليها ، مما يزيد استفهاما جديدا على تلك الاستفهامات .
قررت أن أذهب بها إلى مستشفى الأطفال عصر اليوم ، عند الواحدة ظهرا ، ذهبت إلى غرفة النوم ، فأنا متعود أن أنام بعد الظهر ، رميت ذلك الجسد المتعب من العمل ، والذهن المتعب من كثرة التفكير ، والخوف مما يخبيه المستقبل ، وبعد كثرة التفكير استسلمت لنوم مضطرب .
بعد نصف ساعة فقط ، استيقظت على صوت بكاء ، أخذ قلبي يخفق بشدة ، وأنفاسي تتسارع ، فتحت عيني،وبدأ تركيزي يعود إلي ، كانت أمها تبكي وتقول : لابد أن نذهب بها إلى طبيب آخر ، فالبنت لها عدة أيام وهي لا تمشي ، جاء أولاد الجيران ، حاولت أن تمشي لكنها لم تستطع ، فكلما نهضت وقعت مرة أخرى ، فأخذت تزحف وهي جالسة ..! هل جرّب أحدكم أن يستيقظ على صوت أحد يبكي بحرقة ؟ كم هو مؤلم ! وكم هو مرعب ! أدعو الله من كل قلبي أن لا تروا ما رأيته .. فما رأيته شيْ فظيع لا يحتمل .. شعور لا يمكن وصفه يتراوح بين الفزع والاكتئاب . جلست على السرير وبدأت أفيق تماما ، طمأنتها أنني قد قررت أن نذهب بها مستشفى الأطفال عصر اليوم ، وستكون الأمور على خير إن شاء الله . نهضت من سريري ، وذهبت إلى حيث البنت ، كانت تتابع الأطفال بنظراتها دون أن تنهض لتلعب معهم ، عادت تلك الأسئلة تتصارع في ذهني مرة أخرى ، بدأت اتفحص قدميها مرة أخرى ، لعل وعسى ، مررت أصابعي ثم راحتي على أسفل قدميها ، لم يبدو شيْ ، ولم تتألم لوجود شيْ ، حاولت معها أن تنهض فرفضت ، ولكن مع ذلك كانت قدماها قويتان تحركهما وتدفعما بقوة .
في الخامسة عصرا ، انطلقت بنا السيارة إلى مستشفى الأطفال ، البنت في حضن أمها تمسح على شعرها وتقرأ عليها آيات من القرآن الكريم ، وندى في الخلف طفلة صغيرة ، لا تدرك ما يحدث أمامها ، ترقب بيعينيها البريئتين الشواراع والسيارات . بينما أطبق علي صمت مطبق ، أفكر في حل لهذا اللغز المحير ، عدت أحاول الإجابة ، لعله نقص فيتامين دال ، ولكن مستحيل فالبنت قد تحسنت جدا عن ذي قبل ، جلست أنظر إليها وأسألها في داخلي : -ترى ما بك يا ابنتي ، ماذا حلّ بك ؟ وماذا دهاك ؟ آه لو تتكلمين وتحكين لنا مم تشكين وبماذا تشعرين ؟ قلوبنا تخفق مما أصابك الذي لا نعلم له سببا ولا ندرك طبيعته وحقيقته . كانت البنت في حضن أمها ، بوجه شاحب وعينين تخفي في داخلهما الكثير من الأسرار ، كم تمنيت أن تبوح لنا ببعض ما فيهما ! خرجت من صمتي وبدأت أطلق على زوجتي عبارات التفاؤل ، رجلاه قويتان ، البنت سليمة بإذن الله ، لعله أمر عارض يذهب سريعا ، كنت اريد رفع المعنويات وبث قليلا من الحياة داخل السيارة التي ساد عليها الحزن والكآبة ، أب أرهقه التفكير وأم يعتصر قلبها الألم ، وطفلة غامضة لم تعد تمشي فجأة ، وتخفي سر ذلك في داخلها ، وطفلة أخرى تكبرها لا تدرك مدى مرارة ما يحدث أمامها .
وصلنا إلى المستشفى ، ونزلنا بقلوب تخفق لهفة لكشف السر وخوفا من مفاجأة مؤلمة ، كان المستشفى يعج بالأطفال وصراخهم يملأ المكان ، توجهت إلى مكتب الاستقبال ، سألنا الموظف عن اسم المريض ونوع الشكوى ، أخبرناه أن البنت لم تعد تمشي من يومين ، وبسرعة أشار إلى ممر وقال : هذه حالة اسعافية .. اذهبا من هنا .. أسرعنا الخطى نحو الممر ، كان في نهايته طبيب سعودي ، سألنا عن نوع الشكوى ، فذكرت له أن البنت لم تعد تمشي منذ يومين ، فأظهر اهتماما ثم أشار هو الآخر نحو ممر قائلا : من هنا لو سمحتم . كانت طريقتهما ، حتى وإن لم تكن مقصودةكافية لإثارة نوع من الخوف كان كافيا لأن تجهش الأم في بكاء خارق ، بينما تعلقت ندى بطرف ثوبي من الخلف وأخذت تبكي خوفا من بكاء أمها . وصلنا إلى المكان الذي أشار إليه الطبيب ، ووجدنا أنفسنا أمام طبيبة ،سألتنا عن نوع شكوانا ، فحكيت لها قضية المشي . كان يقف بجانب الطبيبة طالبان من كلية الطب بدا أنهما في سنة الامتياز ، فقد أخذت تشرح لهما عن حالة غادة ، حيث أخذت تخلط العربية بالانجليزية ، قائلة إن شكوى الأب بأن ابنته لا تمشي ، بينما هي خائفة وتطبق برجليها على جسم أبيها ..
أثارت الطبيبة غضبي ، فقد أخذت تشرح للطالبين ، ولم تراعي تلك الحالة السيئة التي كنا فيها ، وخاصة أنها كانت تشير بقلم رصاص على قدمي غادة التي ممسكة بي وتبكي خائفة ، وأمها تبكي هي الأخرى وندى أرعبها بكاء أمها ، فكان منظرنا يدعو للشفقة . قاطعت شرح الطبيبة غاضبا : ماذا سنفعل الآن ؟ قالت : لابد من تنويم الطفلة ليوم واحد حتى نعرف سبب عدم مشيها .. ثم أشارت إلى مكان نذهب إليه لنكمل إجراءات تنويم الطفلة . زاد بكاء الأم ، وزاد خوفي على ابنتي ، يبدو أن الأمر ليس بالهين ، مجرد فحص سريع ثم علاج ، أو تحليل ونتيجة ، بل الأمر أكبر من ذلك ، تنويم وعلاج قد يطول .
[b][size=21][size=21][b]–
وصلنا إلى المكان المحدد ، استقبلتنا ممرضة ، فأخذت بعض البيانات ، الاسم والعمر ونوع الشكوى وتاريخها ،ثم اتصلت بالهاتف على قسم التنويم لتستفسر عن رقم السرير الخالي . طلبت زوجتي إحضار حقيبة بها بعض الملابس لها وللطفلة ، وطلبت أن أضع ندى عند أختي ، فقد يطول تنويم البنت . عدت للطبيب الذي استقبلنا أولا ، وسألته عن حقيقة مرض ابنتي ، لم يذكر لي ِشيئا ، بل قال هناك أسباب كثيرة لعدم المشي ، وأن الأشعة والفحوصات والتحاليل ستبين كل شيْ ، زاد قلقي وبدأ قلبي يخفق بشدة ، وبدأت الاحتمالات السيئة تلوح في ذهني .
أمسكت بيد ابنتي ندى ، وبدأت أسير في ممرات المسشفى بلا هدى ، كنت كالمخنوق ، وضاع تركيزي وتفكيري ، ركبت السيارة وانطلقت بها بفكر تائهة ، وابنة تجلس بجانبي تسألني بلا كلل : ليه تركنا ماما وغادة هناك يا بابا ؟ ليه غادة ما تمشي زي أول يا بابا ؟ وليش أخذوها ؟
زادت ندى بأسئلتها وببراءتها آلامي ، حاولت بأسلوب مبسط تفهمه ابنة الأربع سنوات أن أشرح لها أن غادة وماما سيعودان غدا ، كنت أشرح ذلك وأنا مشفق عليها ، فقد وجدت نفسها فجأة بلا أم ولا أخت وقريبا بلا أب . رحماك يا الله .. ذهبنا أربعة وعدنا اثنين ، وبعد قليل سنتفرق أكثر .. بنت مريضة في المستشفى الله أعلم بحالها ، وأم قلبها منفطر مع ابنتها ، وبنت أخرى صغيرة ستعيش بعيدا عن أمها وأبيها ، وأب قلبه منقسم بين الجميع .
وجدت نفسي أقف أمام إحدى البقالات ، فاشتريت بعض العصائر والبسكويت لندى وللأطفال الذين ستحل ضيفة عندهم إلى الغد .
ذهبت إلى بيت أختي ، شرحت لها ما جد من أحداث وكيف أن المستشفى قد قرر تنويمها ليوم واحد ، ليعرف حقيقة شكواها ، طمأنتني أختها بأن ندى ستكون بخير عندهم ، ولا داعي للقلق على غادة فستكون بخير بإذن الله . شكرت أختي على مشاعرها ، وذهبت إلى الشفة ودخلتها ، كانت موحشة ، لا أحد فيها وقبل ساعة كانت تعج باللعب والحديث ، جمعت ملابس الأم وذهبت إلى دولاب الطفلة ووقفت أجمع ملابسها الصغيرة ، فستان ذو ألوان جميلة ، هل يا ترى ستعود لترتديه ، وهذا الفستان لا زلت أذكرها عندما لبسته كانت رائعة وهي تركض به .
ألقيت نظرة على ألعابها ، سريرها ، عرائسها ، كان كل شيْ لمسته أو لعبت به أو كانت تفرح به يجعل قلبي يخفق ، وبطني يعتصر ، لم أعد أحتمل ، فحملت بعض ملابسها وخرجت من الشقة .
وصلت إلى المستشفى ، وعرفت أنهما في غرفة 7 أ ، طرقت باب الغرفة ، فسمع صوت أمها تقول أدخل ، كانت الغرفة مستطيلة الشكل ستة أمتار في ثلاثة تقريبا ، وكان يشاركهما الغرفة امرأة أخرى مع طفل مريض ، وجدت زوجتي قد هدأت قليلا ، وغادة بجانبها تلعب بعلبة عصير جاءت مع وجبة العشاء ، أخذت ألقي بعض كلمات التفاؤل عليها ، غدا ستخرجين يا أم ندى ، غدا سيعرفون سبب عدم مشيها ، هنا أفضل من جلوسنا في البيت بقلب خائف ..
نظرت إلى غادة ، كانت بوجهها الشاحب، ونظراتها التي تخفي وراءها الكثير من الأسرار ، أسرار مرضها وأسرار ما تحس به ، أخذت أكلمها : غادة ما بك ؟ لماذا لا تمشين ؟ ماذا حدث يا حبيبتي ؟ هلا تكلمت وأرحتينا ؟ هلا أخبرتنيا ما بك ؟
تعبت من الحديث ، فتركتها وعدت أتكلم مع أمها ، التي كانت تتفحص ملابسها وملابس البنت ، جاءت إحدى الممرضات فقامت بأخذ عينة دم من وريدها ثم تمتمت وهي خارجة : النتيجة بكره ..
في السابعة أعلن عن نهاية الزيارة ، ودعتهما وقلبي يعتصر ، خرجت من المستشفى ، قررت الذهاب إلى ندى ، رحبت أختي بي وسألتني بلهفة عن غادة وأمها ،أخبرتهم أنهم أخذوا بعض التحاليل وأن النتيجة ستظهر غدا ، جاءت ندى تركض لما رآتني ، وجلست بجانبي ، أخذت أسألها هل ترغبين أن تذهبين معي الى البيت أم تجلسين تلعبين معهم ؟ كنت أدعو الله أن تقول أريد البقاء هنا ، لكنها لم تجب ، بل ظلت بجانبي وكأنها لا تريدني أن أتركها .
بعد أن تناولت العشاء ، عدت إلى البيت وحيدا ، بدأ البيت لي وكأنه كهف موحش في غابة موحشة ، خلعت ثوبي ورميت جسدي المنهك ، وبعد طول تفكير وتعب شديد استغرقت في نوم كثير الأحلام وكلي تفكير في النتائج غدا . - 5 – بعد نوم متقطع وغير مريح نهضت من فراشي ، كنت متعبا ومرهقا ، قررت الذهاب إلى المدرسة ، حاولت أن أكون متماسكا ، لا أريد أن يحس أحد المعلمين بالأمر ، فلا أريد أن يسألني أحد عن مرضها ، فقد كنت على وشك الانهيار .. لكن ولسوء الحظ ، قابلني معلم كثير الأسئلة ، فمجرد أن رآني حتى قال لي : ما بك ؟ وجهك شاحب ؟ - لا شيْ .. - هل أنت مريض ؟ - لا .. - ندى مريضة ؟ - لا .. بل غادة .. - ما بها ؟ - لا تمشي .. - كيف ؟ ومنذ متى ؟ - منذ يومين .. - وماذا فعلت ؟ - ذهبت بها إلى المستشفى .. كان يسألني وأنا أجاوبه باقتضاب ، وبقلب متماسك ، وأحاول أن أنهي هذا التحقيق بسرعة ، لكن لما طالت أسئلته ، أوشكت الانهيار ، فأخذت الكلمات تخرج مني ببطء ، فأحس بذلك توقف عن الأسئلة وأخذ يشد من أزري ، أعرف حرصه علي كزميل وصديق ، ولكن أحيانا تأتي لحظات ترغب في أن تكون وحيدا .. كان اليوم الدراسي يمر بطيئا ، كنت انتظر موعد الخروج ، كي أذهب سريعا إلى المستشفى لمعرفة نتائج التحليل وآخر التطورات . بمجرد أن أنهيت حصصي ، حتى خرجت من المدرسة ، وذهبت إلى المستشفى سريعا ، قفزت على السلالم ، ووصلت إلى الغرفة ، سألت أمها بلهفة عن النتائج ، فقالت يقولون كلها سليمة ، وسيعملون لها بعض الأشعات . كانت غادة كما تركتها ، وجه شاحب ، وتلعب ببعض الألعاب التي كانت تحبها وأحضرتها لها من الشقة مساء أمس . ذهبت إلى غرفة الأطباء ، كان فيها طبيبان باكستانيان ، هما المعنيان بعلاج الأطفال المنومين ، سألتهما عن حالة غادة ، فذكر لي أحدهم المكلف بعلاجها ، إن نتائج التحاليل الأولية لم تظهر لنا شيئا ، وسيقومون بأخذ أشعة على قدميها عصر اليوم ، سألته عن موعد الخروج فقال ليس قبل أن نعرف السبب ! عدت لزوجتي وغادة ، أخبرتهما بما قاله لي الطبيب ، وعن تأخر موعد خروجهما ، فقالت إني لم أتوقع الخروج سريعا من هنا ، سألتني عن ندى ، أخبرتها أنها بخير ، لم أذكر لها سؤالها الكثير عن أختها ولماذا أخذوها . حضرت أختي ومعها بعض الألعاب لغادة ، لعبة تضغط على بعض الأزرار فتعطي لك أصواتا مختلفة ، أخذت تلعب بها بوجهها الشاحب وبصمت غريب . في وقت الزيارة المسائية ، ذهبت إلى المستشفى بحثا عن خبر جديد ، خبر يحدد نوع المرض وطريقة العلاج ، ذهبت إلى غرفة الطبيب أولا ، لكنه قال لي : الأشعة سليمة وكل شيْ سليم ، لم نجد سببا ، سنجري أشعات وتحاليل أخرى . لا أدري هل أفرح أم أحزن ؟! هل أفرح لعدم وجود مرض لدى غادة ؟ أم أحزن أن البنت تعاني ولم يكتشفوا ما بها ؟! ذهبت لهما ، وكالعادة البنت شاحبة الوجه ، وتلعب بهدوء ببعض ألعابها ، كنت أمها متماسكة هادئة ، سألتني إن كان معي مئة ريال تريد أن تتصدق بها على الأم الموجودة معها في الغرفة ، فقد حكت لها عن سوء حالتهم المادية ، فتحت محفظتي لم يكن بها سوى مائتي ريال هي آخر ما تبقى من راتبي ، وبقي على موعد الراتب يومان فقط ، أخرجت مائة وأعطيتها إياها . عندما جئت لزيارتهما ظهر الغد ، ذكرت زوجتي أن أخوها زارها ، وأعطاها مائة ريال ، أعطتها لي وقالت مئتك عادت لك ، تذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ما نقص مال من صدقة بل تزده ) في المستشفى هدأت أعصابنا قليلا ، لكن سر عدم المشي يؤرقنا ، الفحوصات الأولية تقول إنها سليمة ، ومضى يومان ونحن نعيش هدوءا لم نكن نعرف أنه الهدوء الذي يسبق العاصفة . [b]- 6 –
بعد مضي يومين من وجودها في المستشفى بدأت حالة غادة تتطور ، وأصبحنا نشاهد أعراضا أخرى للمرض الغامض، ولكنها أعراض لا تحتمل .. فبعد يومين من جلوسهما في المستشفى ، لاحظت الأم إزدياد رعشة يد غادة ، فقد بدأت ترتعش في كل لحظة ، بعد أن كانت ترتعش سابقا عند تركيزها على فعل شيْ . كان منظرها وهي ترتعش منظرا مخيفا ، تقطعت له قلوبنا ، وانهمرت له دموعنا ، .. ربّاه .. ماذا يحدث وأي مرض هذا الذي بدأ يفتك بهذه الزهرة الصغيرة ، رباه لطفك بنا . في اليوم الرابع بدأت الحالة تسوء أكثر ، فقد لاحظنا أن عيونها بدأت تتقلب ، حيث يختفي سواد العين ثم يعود مرة أخرى . بكت أمها وعلا نحيبها ، وهالها المنظر ، فقد كانت المسكينة ملازمة لها طوال الوقت ، حار الأطباء في تفسير ما يحدث أمامهم ، وضاعت سبلهم ، ولم يجدوا تفسيرا لما يشاهدون . وكان كل ما يفعلوه هو أجراء تحاليل جديدة لأمور أدق ، تحاليل للدم دقيقة ، اختبار أعصاب ونحوذلك مما لا أذكره . كان كل من يحضر لزيارة غادة ، يخرج وهو يبكي ، أحس بأن البنت تحتضر ، وأخذ يشفق علينا ، حتى من كانت أعصابه قوية انهار أمامنا ، وأخذ يدعو لنا بالثبات . كان منظر غادة وعيونها تتقلب ، ويداه ترتعشان ، منظرا لا يحتمله إنسان، منظرا يهز الكيان ، يفقده توازنه ، ويجعله يضطرب لا يدري ماذا يفعل . رحماك رحماك بنا يا الله ، رحماك إنها ابنتنا .. رباه فالطف بها وبنا .. ضاقت بنا الدنيا بما رحبت ، أحسسنا أن البنت تنهار أمامنا ، وأننا سنفقد ابنتنا ، ذهبت إلى الطبيب ، طلبت تفسيرا لما يحدث ، هزّ كتفيه لا يدري ! صرخت به : أيعقل هذا ؟! طبيب أطفال لا تدري أي مرضٍ تشكو منه غادة ؟! ومع هذه الأعراض الواضحة ؟! - أحتاج إلى مزيد من الفحوصات .. رد على باقتضاب .. - لقد ملأتم يدها ثقوبا من كثرة التحاليل دون فائدة . - هذا مرض غامض لم نعهده من قبل ! - وأي فحوصات تريد ؟ - أشعة مقطعية للمخ ؟ - أتعتقد أن المخ هو السبب ؟ - يبدو ذلك .. زاد خوفي بعد سماع كلمة ( المخ ) ، وبدأ قلبي يخفق بشدة ، أتراها النهاية ، عدم مشي ثم يد ترتعش ثم عينان تتقلبان .. ليس له تفسير سوى المخ الذي يقول ، هل هذا قدرها أن تعيش ما كتب الله لها ثم .. ، تعوذت من الشيطان الرجيم ... عدت لزوجتي بوجه مختلف ، وجه مرعوب ، حاولت أن اصطنع ابتسامة صغيرة ، لكنها لم تستمر فقد ذهبت مع أول نظرة لغادة ، كانت يدها ترتعش ، وعيناها تتقلبان ، أحسست بأن هذه الأيام هي أيامها الأخيرة . سألتني أمها : - ما بك ؟ - لا .. لا شيْ .. - ماذا قال لك الطبيب ؟ - لم يقل شيئا .. - وجهك يقول خلاف ذلك .. - يريدون عمل أشعة للمخ .. مجرد احتياط .. - المخ ؟! ثم أجهشت في بكاء مرير ..
في صباح يوم غد ، قرر المستشفى عمل أشعة مقطعية للمخ ، جهزوا سيارة اسعاف ، واصطحبوا الأم وغادة ومعهما ممرضة، وانطلقوا نحو مستشفى الرياض المركزي ( الشميسي ) ، وعندما وصلوا هناك قاموا بتخدير البنت ثم وضعوها في جهاز الأشعة ، وبعد ثلث ساعة تقريبا انتهوا من الأشعة ثم عاد الجميع ، على أن تخرج النتيجة صباح الغد .
[/b][/size] [/b]
[center][b][size=21][b]- 7 –
كانت الساعات تمضي بطيئة ، كنا نريد معرفة نتيجة الأشعة المقطعية ، هل هومثل ما توقعه الأطباء أم هو مرض آخر ، قلبي لم يقل لي شيئا ، كنت كورقة سقطت من شجرتها وتطير بها الرياح في كل مكان ، تصعد الجبال وتحط في الأودية ، ابنة مريضة وأطباؤها يقولون لا نعرف مرضها وكل يوم هي في انحدار .. وأم لا تفتأ تبكي كل لحظة وهي تشاهد يد طفلتها الصغيرة ترتعش أمامها وعينيها تتقلبان ، وطفلة أخرى تعيش بعيدة عن أبيها وأمها وجدت نفسها فجأة هكذا دون مقدمات . في صباح الخميس وفي وقت الزيارة ، وجدت أمها تبكي بلا توقف ، حاولت أن أخفف عنها رغم أني كنت أحتاج من يخفف عني ، قالت لي وهي تبكي : ابنتنا ستموت .. انظر إليها إنها لم تعد تجلس كما كانت ! كلما أجلستها ترنحت وسفطت على ظهرها وتقلبت عيونها .. حيث حملتها بين يدي وسرت بها في الغرفة وعندما وقفت أمام المرآة ، فتحت فمها لتقول لي شيئا ، فوجئت أنها لا تخرج صوتا فكانت كمن يهمس همسا ، كانت تقول لي : بابا .. كان يبدو لي ذلك من خلال حركة شفتيها ، فوضعت أذني قريبا من فمها فأصبح الصوت واضحا أكثر ، كانت تقول مثل ما توقعت : بابا .. بابا .. خفق قلبي وانهمرت دموعي ، ووقفت بجانب المرآة وقتا استعيد توازني ، حتى لا تراني أمها وتنهار ، كنت دائما أحاول أن أظهر بمظهر المتماسك ، لكن يا ترى هل استطيع أن أكمل حتى النهاية . عدت بها وأجلستها في حجري ولم أقل لأمها حقيقة عدم خروج صوت أثناء حديثها ، فقد تنهار ، وعندما وضعتها في سريرها بكت وخرج منها صوت بكاء ضعيف ... قبيل الظهر جاء الطبيب وأخبرنا بأن نتيجة الأشعة سليمة ولا يوجد شيئا في المخ ، حمدت الله ، وأمسكت بالطبيب ، وخرجت به من الغرفة وأخبرته بأمر الكلام وعدم الجلوس ، فاكتفى بهز كتفيه ومط شفتيه مظهرا تعجبا كبيرا على وجهه . بحلول المساء ساءت حالتي النفسية جدا وأصبحت أتوقع موتها في أي لحظة ، رق قلوب بعض الأقارب بنا ، اتصل بي أحدهم قائلا : لماذا لا تغير جوا . - وهل هذا وقت تغيير جو ؟ قلت له . - اسمع غدا الجمعة هناك مناسبة في حريملاء يجب أن تذهب معي . - أتمزح أم إنك في كامل قواك العقلية .. - بل أنا جاد تماما .. اسمع سأمر عليك بالسيارة بعد صلاة الجمعة وسنعود وقت ما تريد ..
أصرت زوجتي أن أذهب ، وأن أحضر هذه المناسبة ، ورفضت ذلك تماما ، لكن بعيد صلاة الجمعة وجدت قريبي يصعد إلى الشقة ليصطحبني معه في سيارته ، وهو يقول : سنعود وقتما تريد .. في المناسبة كان واضحا علي تأثير مرض ابنتي وكان الجميع يحاولون عدم سؤالي عن ابنتي وكنت سعيدا بذلك كوني لا أريد الحديث عنه .. كنت طوال الوقت أفكر فيهما ، ترى ماذا حدث ؟ هل من أعراض أخرى ؟ هل ظهر تحسن عليها أم زادت انحدارا ؟ ترى هل عرف الطبيب مرضها أم مازال يهز كتفيه ويوميْ براسه ؟ بالطبع كان ذلك قبل ظهور الجوال ، ولم أكن أعرف رقم المستشفى . أصابني صداع شديد من جراء كثرة التفكير ، وقبيل المغرب ، كانت السيارة تقلني عائدا إلى الشقة ، وبمجرد أن وضعني عند سيارتي ، حتى انطلقت بها نحو المستشفى فكلي شوق لمعرفة ماذا حدث لهما ؟ - 8 –
وصلت المستشفى وصعدت السلالم سريعا ، وعندما كنت في الجزء الأخير منه ، إذ سمعت صوت صراخ كبير لمجموعة من الأطفال ، كانوا يصرخون في وقت واحد وكأنهم قد اتفقوا على ذلك . زاد استغرابي .. توجهت إلى الغرفة ، وجدت الأم ممسكة بغادة وهي تستفرغ ، ثم أتت ممرضة لتحقنها بحقنة ، سألت : ما الأمر ، أخبروني أن أطفال هذا الجناح أصيبوا ببكتيرياء معدية ، فأصيبوا باستفراغ واسهال شديدين . أصبحت تعتمد على المغذيات في طعامها وشرابها ، وكانت تأخذ علاجها عن طريقها أيضا ، زاد هذا المرض من معاناة غادة ، وبعد يوم من الاستفراغ والاسهال أصبحت عظما بلا لحم ، وتحول اهتمامنا إلى القضاء على هذه البكتيرياء . اعتبر الأطباء ما حدث لأطفال ذلك الجناح أمرا عاديا فهو يحدث في جميع المستشفيات ، قال ذلك طبيبها بعد أن عاتبته على ما يحصل للأطفال من مأساة حقيقية ، صراخ وبكاء لا ينقطع ، واستنفار من جميع الأمهات . بعد هذه الجرثومة تحول أنظار الأطباء إلى علاج الأطفال منها ، ونسوا أمر أمراضهم التي دخلوا المستشفى من أجلها ، فتوقفت التحاليل والفحوصات ، وكذلك تحولت اهتمامنا إلى هذه البكترياء التي أخذت تفتك بالأطفال . جاءني إحساس قوي بأن غادة ستموت ، وأن نهايتها قريبة ، زادت حالتي النفسيةسوءا ، كنت جسدا بلا روح ، لا أعرف ماذا أفعل و ولا أين أذهب .. أهيم في كل مكان ، وضاع تفكيري وتشتت تركيزي . أمسكت بأمها وهي تبكي بكاء مرا ، قلت لها : إن الله أعطانا غادة وإذا كان الله قد قدر أن يأخذها فلا راد لقضائه ، وسيرزفنا الله بإذنه تعالى بغادة أخرى ، أيعقل أن يمر أسبوع والبنت في هذا المستشفى ولا يعرفون ما بها ؟ أيعقل هذا ؟ أعراض واضحة كوضوح الشمس ، بنت لا تمشي ، يداها ترتعشان ، عيناه تتقلبان ، ثم أصبحت لا تجلس ثم قالت أمها أنها لا تستطيع أن تثبت رقبتها ، وفوق هذا أصبحت تتكلم بلا صوت .. قررت الخروج بها من هذا المستشفى ، وعلاجها في مستشفى آخر ، تذكرت مستشفى الملك فيصل التخصصي ، طلبت من الطبيب تقريرا عن حالتها ، تغير وجه وفسر هذا الأمر بتفسير آخر ، أخبرته أني أريد علاجها في مستشفى آخر .. سكت قليلا ثم قال : أمهلني قليلا وسأعطيك طلبك صباح الغد .. وبالفعل ففي صباح يوم الأحد أعطاني الطبيب التقرير وكان من صفحة واحدة مكتوبا باللغة الانجليزية ، أتذكر أنه كان يقول فيه : طفلة في شهرها الثامن عشر جاء بها والده قائلا أنها لا تمشي بمرور الأيام حدثت تطورات في حالتها حيث أصبحت لا تجلس ثم لا تتحكم في رقبتها ... تقرير مؤلم بالفعل ، انطلقت به كمن أعطي حريته من سجنه العتيد الذي قضى فيه سنين طويلة ، ذهبت إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي ، سألت عن مكان استقبال المرضى ، وصلت إليه كان على الشباك موظف سعودي ، أعطيته التقرير وسألته عن النتيجة ، فقال : ستجتمع لجنة لتدرس التقرير ثم ستقرر قبول علاجها من عدمه . كان قليل من الأمل تكون لدي ، جلست أتخيل ابنتي وهي في هذا المكان الجميل ، تنام على أحد أسرته ، وتتلقى عناية ممرضاته ، ويكفي أن تشم رائحة هذا المكان فتشفى بإذن الله .. زادت مساحة الأمل لدي بعد أن عدت لمستشفى الأطفال فوجدت أن غادة بدأت تتعافى قليلا من البكترياء فتوقف الاستفراغ والاسهال . لا يمكنني أن أنسى تلك الليلة ليلة الاثنين ، كنت قبل نومي قد اعتدت في كل ليلة أن أدعو الله أن يحفظ لي ابنتي وأن يشفيها من مرضها ، لكن في هذه الليلة وبعد إلحاح في الدعاء أحسست براحة نفسية هدأت أعصابي بعدها كثيرا ، وأصبحت اتنفس بطريقة هادئة ، وأحسست بانزياح ثقل كبير كنت أشعر به جاثما على صدري . نمت تلك الليلة وأنا متفائل برد مستشفى التخصصي وأنه سيقبل بعلاج ابنتي ..[/size] [center]
[/b][/b] [/center] [/size][/b][/size][/center][/size][/b] | |
|