(رسالة إلى ولدي)
يا ولدي.. أريدك كذاك الأمير!
يا ولدي..
إن رزقك الله السنين لتكبر، وإن منحني الله بركة في العمر لأراك بالإيمان تتقدم.. فحلمي أن أبصرك كذاك الأمير.. صاحب الخُلق القويم، وذي النفس الأبيّة والهمة العليّة.. أمير الموصل الملك الشهيد عماد الدين زنكي.
يا ولدي..
هو ليس ككل الأمراء ولا مثل الملوك.. فهو لم يسكن القصور ولا يعرف طريق البنوك.. وأنّى له ذلك وقد وهب نفسه وماله وأهله وحياته للإسلام ولرفعة الإسلام ولإعزاز المسلمين ودحر الفرنجة المحتلين.
يا ولدي..
اسمعني بقلبك لا بإذنيك.. اسمع مني ما سأرويه عن سيرته وجهاده.. [فقد كانت سيرته رحمه الله من أحسن سير الملوك وأكثرها حزمًا وضبطًا للأمور، وكانت رعيته في أمن شامل يعجز القوي عن التعدي على الضعيف.] ومن ذلك أنه [كان ينهى أصحابه عن اقتناء الأملاك، ويقول: "مهما كانت البلاد لنا فأي حاجة لكم إلى الأملاك، فإن الإقطاعات تُغني عنها، وإن خرجت البلاد عن أيدينا فإن الأملاك تذهب معها، ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية وتعدوا عليهم وغصبوهم أملاكهم"]...
رحمه الله، ليته يأتي اليوم فيرى ماذا فعل السلطان وأصحاب السلطان بالأملاك والعباد! أما هو، فإليك ما قاله ابن الأثير: ["وكانت الموصل أقل بلاد الله فاكهة، فلما عمرت البلاد، عملت البساتين بظاهر الموصل وفي ولايتها. وكان يقصده الناس ويتخذون بلاده دار إقامة؛ وذلك لحسن سيرته"].
ومن حسن سياسته وحفظه للبلاد أنه [كان لا يُمكِّن رسولَ مَلِك يعبر في بلاده بغير أمره، وإذا استأذنه رسول في العبور في بلاده أذن له، وأرسل إليه من يُسيِّره، ولا يتركه يجتمع بأحد من الرعية ولا غيرهم؛ فكان الرسول يدخل بلاده ويخرج منها ولم يعلم من أحوالها شيئاً. وكان رحمه الله لا يُمكِّن أحداً من خدمه من مفارقة بلاده وكان يقول: "إن البلاد كبستان عليه سياج، فمن هو خارج السياج يهاب الدخول، فإذا خرج منها من يدل على عورتها ويُطمع العدو فيها زالت الهيبة وتطرق الخصوم إليها"].
ومن آرائه التي تنمّ على حنكته أنه [لما اجتمع له الأموال الكثيرة أوْدَعَ بعضها بالموصل، وبعضها بسنجار، وبعضها بحلب، وقال: إن جرى على بعض هذه الجهات خرق أو حيل بيني وبينه استعنت على سد الخرق بالمال في غيره].
يا بني..
ما كان لهذا الأمير ما ذكرتُ لولا أنه كان عظيمًا في نفسه، ديّنًا في خلقه، متبعًا لأمر ربه، مهتديًا بسنّة نبيّه. فقد كان له مقدار من المال يتصدق به كل جمعة، ويتصدق فيما عداه من الأيام سراً مع من يثق به.
[وكانت غيرته شديدة ولا سيما على نساء الأجناد، فإن التعرض إليهنّ كان من الذنوب التي لا يغفرها، وكان يقول: "إن جنديَ لا يفارقوني في أسفاري، وقلّما يقيمون عند أهليهم، فإن نحن لم نمنع من التعرض إلى حُرَمهم هلكن وفَسَدْن".
وكان رحمه الله قليل التلوّن والتنقل، بطيء الملل والتغير، شديد العزم، لم يتغير على أحد من أصحابه مُذ مَلك إلى أن قُتل إلا بذنب يوجب التغير، والأمراء والمقدَّمون الذين كانوا معه أولاً هم الذين بقوا أخيراً، مَنْ سَلِم منهم من الموت؛ فلهذا كانوا ينصحونه ويبذلون نفوسهم له. وكان الإنسان إذا قَدِم عسكره لم يكن غريباً؛ إن كان جندياً اشتمل عليه الأجناد وأضافوه، وإن كان عالماً قصد العلماء، فيُحسنون إليه ويؤنسون غُربته فيعود كأنه آهل. وسبب ذلك جميعه أنه كان يخطب الرجال ذوي الهمم العلية، والآراء الصائبة، والأنفس الأبية، ويوسّع عليهم في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل واصطناع المعروف].
أسمعت يا بُني..؟!
من كان ذا همة عالية صاحَبَ أصحاب الهمم العلية، ومن أراد لبس ثوب العزة بحث عن أقرانٍ ذوي أنفسٍ أبيّة.. ومن تمنى الشهادة بصدق جاءته ولو على فراشه.. فهناك عند قلعة جَعْبَر، كان لقاء أميرنا مع الشهادة (نحسبه كذلك والله حسيبه)، [فبينما هو نائم دخل عليه نفر من خدمه فقتلوه غيلةً ولم يجهزوا عليه، وهربوا من ليلتهم إلى القلعة التي كان يحاصرها، ولم يشعر أصحابه بقتله. فلما صَعِدَ أولئك النفر إلى القلعة صاح مَنْ بها إلى العسكر يُعلمهم بقتله، فبادر أصحابه إليه، فأدركه أوائلهم وبه رمق. ثم ختم الله بالشهادة أعماله.
فأضحى وقد خانه الأمل، وأدركه الأجل، وتخلَّى عنه العبيد والخول، فأيّ نجم للإسلام أفل، وأي ناصر للإيمان رحل، وأيّ بحر ندي نضب، وأيّ بدرِ مكارمٍ غرب، وأيّ أسدٍ افتُرِس]!
رحمه الله.. كان أسدًا بحق، تهابه السباع، مقدامًا لا يأبه بالموت.. حتى أنه يُروى من شجاعته ما لم يُسمع بمثله؛ منها: قبل أن يلي الإمارة أنه [كان في نفر وقد خرج الفرنج من البلد، فحمل عليهم هو ومن معه، وهو يظن أنهم يتبعونه، فتخلَّفوا عنه، وتقدَّم وحده وقد انهزم مَنْ بظاهر البلد من الفرنج فدخلوا البلد، ووصل رمحه إلى الباب فأثَّر فيه وقاتلهم عليه، وبقي ينتظر وصول من معه، فحيث لم ير أحداً، حمى نفسه وعاد سالماً، فعجب الناس من إقدامه أولاً ومن سلامته آخراً].
وصلنا النهاية لكنها كانت بداية عز للأمة فقد خَلَف أميرَنا رحمه الله أبناؤه الذين ساروا على دربه، ومن أبرزهم نور الدين محمود.. ومن منا لا يعرفه، ومن جنده وخواصه صلاح الدين الأيوبي.. رحم الله الجميع وجزاهم عن جهادهم خيرًا.
هؤلاء من أريدك يا ولدي بهداهم أن تهتدي.. فاسمع مني واقتدِ
حفظك المولى في كنفه..
توقيع: أمك التي تحبك
* ما بين الأقواس [ ] مقتبس من كتاب:
الروضتين في أخبار الدولتين:
النورية والصلاحية لأبي شامة شهاب الدين المقدسي
منقول