سكان العراق القدماء
.يتفق المؤرخون على أن الإنسان العراقي القديم يقف وراء التطور الحضاري المشهود في العراق وهو صاحب رسالة التطور النوعي للمجتمع والانتقال التاريخي به من البدائية إلى الحضارة والمدنية لكنهم ينكرون عليه التطور اللاحق الذي ظهر في الآلف الرابع ق.م على الرغم من انهم لم يعثروا حتى الآن على موقع واحد في العالم يزامن المواقع الحضارية العراقية أو يبلغ ما بلغته من إبداع حضاري على أيدي سكانها من سومريين وأكديين وغيرهم من الأقوام التي سكنت بلاد وادي الرافدين في تلك الأزمنة المبكرة من التاريخ. لقد رفد سكان المناطق الشمالية الحضارة بعناصر مبتكرات لا تضاهي شأنهم شأن سكان المناطق الجنوبية. وبتبادل الخبرة وانصهار الأفكار ظهرت حضارة العراق ونمت وتطورت في العصور التاريخية. لاحظنا ان القرى الأولى ظهرت بجهود الإنسان العراقي وهو الذي طور أنماط الحياة فيها وابتكر حاجاتها الأساسية وهو الذي ابتكر الكتابة وادخل البشرية في ما يعرف بالعصور التاريخية أو عصر فجر التاريخ (3000 سنة ق.م) حيث تطورت قرى كثيرة إلى مدن شهدت ظهور أول أشكال السلطة (السلالات الحاكمة) أو عصر دويلات المدن السومرية مثل كيش والوركاء وأور ولكش وأوما. والملاحظ على معظم المدن الحضارية تركزها فيما حول نهر الفرات في القسم الأوسط والجنوبي من العراق. والراجح أن جريان الفرات في أرض مستوية، جانبها الغربي هضبي مرتفع، تنحدر باتجاه دجلة جعل حوضه أكثر ملاءمة للاستقرار البشري، إذ يمكن التحكم في فيضانه بتحويله عبر قنوات إلى دجلة فضلاً عن إمكانية إقامة المدن على الحافات المرتفعة غربي النهر. والذي يدقق في قوس المدن الأولى (أور وأريدو والوركاء ونفر) وان نهر الفرات يمثل خط الإمداد الدائم من شبه جزيرة العرب للإنسان العراقي الذي اضطلع بمعظم النتاجات الحضارية في وادي الرافدين يجد دعماً لهذه الفرضية، فهي بعيدة نسبياً عن مجرى النهر الحالي وربما ربطت بالنهر عن طريق قنوات توصل الماء وتسمح بالملاحة في آن واحد، على خلاف حوض دجلة حيث كانت سرعة الجريان وطغيان النهر على كلا الضفتين إضافة إلى تهديدات خارجية مثلتها القبائل الجبلية في المرتفعات الشرقية بخاصة، قد عقدت فرص استقرار حضاري فيه.
تطور التاريخ في العراق
ابتدأ النشاط البشري الملموس في بلاد وادي الرافدين في حدود (100-60) ألف سنة ق.م، حيث ظهرت اثار الجماعات الأولى من انسان نياندرتال في منطقة الرطبة وحوض صدام وكهف شنايدر. وتدل الاثار المكتشفة حتى الآن على اهتمامات الانسان، كما تحدد في الوقت نفسه طبيعة حياته ومصادرها، وابرزها (الالتقاط والصيد). وتدل اثار الحيوانات المتوحة التي عثر عليها في هذه المناطق وقرب مراكز استقراره على اصول الحيوانات التي دجنها الانسان فيما بعد. وتكشف البقايا العظيمة المكتشفة لانسان تلك الفترة عن اوجه الشبه بينها وبين المجموعة البشرية المعاصرة لها التي عاشت في فلسطين مما يدل على وجود علاقة بينهما. وعبر العصور الثلاثة التي اصطلح عليها المؤرخون (العصر الحجري القديم، والأوسط، والحديث) تطور نشاط الانسان الأول في العراق وبدأ انتقاله التاريخي من الالتقاط والصيد إلى الزراعة والتدجين وظهر اثر هذا في نضج كفاءة الاداء والعمل إذ بدأت مصنعاته من الالات تتنوع لتلائم شكل الانتاج وتتحسن من حيث المواد الأولية والمظهر الخارجي والكفاءة لتلائم حاجاته الاجتماعية والذوقية. وفي العقدين الأخيرين من الالف العاشر ظهرت القرى الزراعية التي كشفت طبقاتها الأولى عن نشاط زراعي حيواني منتظم وكشفت عن استقرار اجتماعي منفتح عرف مستوى من الترف.
وهكذا ازدهر الاستقرار الاجتماعي في مئات القرى الزراعية. وتنوعت مصادر الانتاج والوسائل المستخدمة فيه، وعبر الاستقرار الاجتماعي عن نفسه في نضج مستمر في المستخدمات الاجتماعية على أن أبرز المبتكرات التي لها اهميتها الاجتماعية آنذاك والتاريخية هو (الفخار) الذي اصبح تطور صناعته وزخرفته وشكله مقياساً لتمييز حقب من التقدم في العصر الحجري الحديث وهو سمة تعكس التقدم الاجتماعي. وشاع استخدام المعادن وتطور النمط العمراني بتطور المباني وتطور تلوين الخرف وتطورت المعابد وتطور الفن واتسع انتشار مراكز الاستقرار الاجتماعي في وسط العراق ونموها السريع، وظهر الدولاب الذي يصنع به الفخار وبدأت الحضارة العراقية تأخذ طريقها إلى خارج العراق، وفي فجر التاريخ (3000 ق.م) تعززت مكانة المعبد ودوره الاجتماعي والاقتصادي الذي ارتبط بتطور القرى الزراعية الى مدن يتسع فيها التخصص الاجتماعي شمولاً ودقة، ويعبر ظهوره عن بداية نشوء المركز الذي يقود النظام الاجتماعي العام، وقد توج هذا التطور بابتكار الكتابة إذ عثر على أول نموذج لها بهيئة صورية تعود إلى سنة 3000 ق.م في الطبقة الرابعة من موقع مدينة الوركاء، وظهرت اثار هذا العصر وأبرزها الاختام الاسطوانية والكتابة في سوريا ومصر وعيلام وأواسط انضوليا. ويدل هذا الانتشار على الأثر المبكر للنشاط الحضاري في العراق في الأقوام المجاورة كما يعطي فكرة عن حجم التطور الذي شهده العراق وانتهى إلى ظهور أول اشكال السلطة وبداية عصر حضاري جديد.
عصر فجر السلالات
تبلور تطور المجتمع العراقي في الربع الاخير من الالف الرابع ق.م وبرزت فيه جماعتان رئيستان هما السومريون ومن اطلق عليهم الأكديون في عهود لاحقة. وعلى الرغم من تركز السوموريين في المدن الجنوبية مثل اريدو وأور في محافظة ذي قار والوركاء في محافظة المثنى، وتركز الأكديين في كيش في محافظة بابل وسبار في محافظة بغداد وبعض المواقع في محافظة الانبار فقد امتزجت كلتا الجماعتين وتفاعلتا في كل المدن العراقية القديمة. وربما كانت القيادة السياسية للاكديين ثم للسومريين ومن بعدهم للاكديين والسومريين مرة أخرى.
وظهر الأموريون الوافدين عبر الفرات في العراق في الربع الأخير من الالف الثالث ق.م وتعاظم نفوذهم حتى تسنموا القيادة السياسية للبلاد في مطلع الالف الثاني ق.م وظهر التخصص الاجتماعي واضحاً في الانتاج، وظهر أيضاً الترابط العضوي بين انماط الانتاج والنظام الاجتماعي. وبعد اختراع السومريين الكتابة في حدود 3000 ق.م بداية للعصور التاريخية في العراق وقد رافق هذا التطور تطور اخر مهم، بل ربما كان أكثر أهمية، هو ظهور السلطة في شكل سلالات ظهرت كل منها في مدينة، ويظهر من دراسة جداول الملوك السومرية ان السلطة (الملوكية) نزلت من السماء إلى الأرض، أول مرة، في كيش قرب بابل غير انها اندثرت بفعل الطوفان الذي اكتسح الأراضي عدا رجل الطوفان. ثم عادت إلى الظهور ثانية بعد الطوفان في مدينة (كيش)، وعلى يد ملوك هذه السلالة تحققت الوحدة الداخلية في العراق في عصر مبكر (2800 ق.م) بحدوده الحالية تقريباً. ومن السلالات السومرية المشهورة سلالة الوركاء الأولى وملكها الخامس كلكامش (2700 ق.م). وقد خلدت السلالة وملكها في الملحمة البابلية المشهورة (ملحمة كلكامش). ومن السلالات السومرية الاخرى سلالة أور الأولى (2650 ق.م). وتكشفت اثار هذه المدينة عن تقدم الفنون والثقافة، فمن هذه المدينة وصلت إلينا القيثارة المشهورة، كما تطور استخدام العربة وادخلت في الأغراض العسكرية فضلاً عن الزراعة والنقل، واخر سلالات هذا العصر سلالتا لكش وأوما (2550). ويعد الملك أور وامكينا صاحب اصلاح اجتماعي قانوني في العالم وهو الذي وضع أسس التشريعات القانونية التي ظهرت بعد هذا التاريخ، والى ملك أوما لوكال زاكيزي ترجع الجهود الأولى لتوحيد دويلات بلاد سومر وربما الأرض الواقعة بين الخليج العربي والبحر المتوسط إذ يذكر في كتاباته انه وصل من "البحر السفلي إلى البحر العلوي" وتلقب بلقب ملك سومر. جاء التطور الكبير على يد سرجون الأكدي (2371-2316ق.م) الذي انتزع السلطة من السومريين في مدينة (كيش) واستطاع بعد فترة قصيرة توحيد دويلات المدن السومرية. وبجهود لاحقة شملت دولته الخليج العربي والأراضي العربية حتى البحر المتوسط وشمالي العراق، حيث كانت مدينة أشور تحتل احد المراكز الإدارية، الأكدية المهمة، وشمالي سوريا وبلاد عيلام في الشرق وحارب القوام التي هددت حدودها ومصالحها في أسيا الصغرى ومنطقة (اوان) فظهرت بذلك أول دولة مركزية تضم أراضي واسعة من الوطن العربي وهي المحاولة الأولى للوحدة التي تمت بقيادة العراق.
وأضيف إليها مناطق أخرى من الوطن العربي أبان حكم حفيده نرام – سين (2291-2255 ق.م) وبقيت تلك الإمبراطورية مزدهرة إلى ان استولى عليها الكوتيون (عقاب الجبل) الذين دام احتلالهم قرابة مائة عام (2211-2120ق.م) وكانت من احلك فترات التاريخ لما أصاب البلاد من خراب ودمار على أيديهم.
العصر البابلي القديم
أعقب نهاية سلالة اور الثالثة (2006 ق.م) قيام عصر جديد في العراق عرف بالعصر البابلي القديم نسبة إلى مدينة بابل، وكون الأموريون قوام هذا العصر بعد ما ظهروا قوة بشرية وسياسية قوية في وسط العراق وجنوبيه. والظاهر ان دور الأموريون الاجتماعي وتزايد اعدادهم بعد التحاق بقاياهم في الجزيرة العربية بهم كانا عاملين اساسين في نجاحهم في تاسيس عصر جديد بعد ان عاشوا منذ الالف الثالث ق.م جزءاً من مجتمع العراق القديم إلى جانب السوموريين والأكديين، ظهر الأموريون أول الأمر سلالات متفرقة ابرزها سلالتا ايسن ولارسا.
أسس سلالة ايسن اشبي ابرا الأموري (2017-1985ق.م) وبدأ حكمه بتأديب العبيلاميين في غربي إيران حالياً في معركة لم يفكروا بعدها في الأعتداء على العراق، وازدهرت في عهد هذه السلالة الثقافة العراقية القديمة (السومرية) وتطور التشريع الذي اظهر عناية خاصة بأستخدام عناصر الانتاج وادواته ووسائله ورعاية الأسرة. كما ظهر أول مرة دور لسكان المدن من خلال مجالس الشعب مما يشير إلى تطور في شكل السلطة وجوهرها.
أما سلالة لارسا فقد أسسها الملك الأموري نبلاتم (2005-2025ق.م) وقد واجهت هي الأخرى الخطر العيلامي القادم من الشرق ثم ظهرت السلالة الثالثة في بابل على يد سومو-ايم (1894ق.م) الأموري زعيم احدى القبائل الأمورية التي التحقت في عصر لاحق باصولها الأمورية القديمة في العراق، واتخذت بابل عاصمة لها.
كما ظهرت مملكة اخرى عرفت بمملكة (اشنونة) التي قادت عدة مدن مثل تل حرمان وخفاجي وتلول الضباعي وشجالي واسمر، وازدهرت المعرفة في هذه المملكة كالعلوم والرياضيات، والقوانين أيضاً خصوصاً تلك التي تتعلق بتحديد أسعار البضائع الأساسية فضلاً عن أمور المجتمع. ومن بين هذه السلالات كان الازدهار السياسي من نصيب سلالة بابل الأولى التي اتجهت في عصر ملكها السادس حمورابي (1793-1751 ق.م) إلى توحيد العراق في إطار سلطة مركزية واحدة واخضاع الملوك المعاصرين كافة.
اتجه حمورابي إلى العناية بالنواحي الإدارية والاجتماعية والثقافية فاتبع نظاماً مركزياً في الإداارة ربط بموجبه حكام المناطق به وفصل في سلطاتهم بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية وحول وظائفهم إلى وظائف إدارية، واهتم بالبريد وسرعة وصوله بين العاصمة والمدن الأخرى، ونظم المعابد وحدد صلاحيات الكهنة وألغى محاكمهم وانشأ المدارس إضافة إلى دور العلم والمعرفة في المعابد، وبدأت أول مرة حركة العناية بتراث العراق القديم وتدوينه واعاد كتابة الملاحم السومرية.
واهتم بالجيش واتبع نظام التجنيد الاجباري وسن قانوناً موحداً للبلاد يبدو انه اعتمد التشريعات القديمة ولكن برؤية عصره ويهدف إل توحيد المجتمع وتعزيز هيمنة الدولة.
تعرضت الدولة البابلية لأقوام غازية، فقد واجهت في آن واحد ضعف الملوك الذين جاءوا بعد حمورابي وانقسام الدولة إلى مملكتين ضمت الأولى جنوبي العراق والخليج وعرفت بمملكة القطر البحري اوسلالة بابل الثانية بقيادة ايلوم. وثارت مدن لارسا واور والوركاء وواجهت الدولة البابلية اخطاراً خارجية تمثلت بالغزو الحثي والغزو الكشي والغزو الخوري وقد استولى الحثيون على بابل ولم يبقو فيها طويلاً إذ سرعان ما تركوها للكشيين. كما غزا الخوريون منطقة كركوك واحتلوها زهاء قرن من الزمن. يتسم العصر البابلي بقوة السلطة المركزية وانفصالها عن المعبد إذ اختص الملك ومعاونوه بشؤون المجتمع. وظهرت مجالس المدن التي اختصت بالقضايا الكبرى فضلاً عن المشاركة في الحكم، وتطورت تنظيمات الجيش وكان الملك يرأس الجيش المؤلف من المجندين إضافة إلى الجيش الثابت. وتورت مكانة المرأة فشاركت في الجيش ومارست التجارة ومختلف المهن الأخرى. ويتسم هذا العصر أيضاً بظهور القوانين، موحدة وشاملة، ويعكس الحرص على اعطائها طابعاً مقدساً اهميتها في تنظيم المجتمع وسيادة العدل الاجتماعي في الدولة وفي نشوء النظام العام المعبر عن وحدة المجتمع في الوقت نفسه.
وتتجلى قيمة العصر البابلي بعاصمة بابل ذات الموقع الوسط بين مراكز تجارية وزراعية متعددة. واهتم البابليون بالري، وازدهرت الثقافة والأدب والفنون، فإلى هذا العصر تعود أقدم نسخة من ملحمة كلكامش وقصة الطوفان وقصة الخليفة البابلية وتعطي منحوتات العصر فكرة عن النحت الذي اتسم بالواقعية.
الاحتلال الكشي
تعرض العراق للاحتلال الكشي (1595-1157ق.م) وهم قوم اجانب من أواسط جبال زاجروس تغلغلوا في المجتمع البابلي وساتغلوا فرصة سقوط بابل على يد الحثيين (1595ق.م) فغزوا الدولة واتخذوا من (دور كوريكا لزو) عاصمة لهم. وكانت لهم صلات بمصر واتسم عصرهم باستخدام الحصان في النقل والعربات في الحروب لذلك اهتموا بالخيل وانسابها. وواجهوا غزو العيلاميين وتهديدات الاشوريين معاً إلى ان استطاع العيلاميون القضاء على الحكم الكشي في حدود (1157 ق.م) ودموروا بابل ومدناً عراقية أخرى وسلبوا ممتلكاتها بما في ذلك مسلة النصر ومسلة حمورابي أيضاً وتمثال مردوخ كبير الالهة البابلية.
يتفق المؤرخون على أن الإنسان العراقي القديم يقف وراء التطور الحضاري المشهود في العراق وهو صاحب رسالة التطور النوعي للمجتمع والانتقال التاريخي به من البدائية إلى الحضارة والمدنية لكنهم ينكرون عليه التطور اللاحق الذي ظهر في الآلف الرابع ق.م على الرغم من انهم لم يعثروا حتى الآن على موقع واحد في العالم يزامن المواقع الحضارية العراقية أو يبلغ ما بلغته من إبداع حضاري على أيدي سكانها من سومريين وأكديين وغيرهم من الأقوام التي سكنت بلاد وادي الرافدين في تلك الأزمنة المبكرة من التاريخ. لقد رفد سكان المناطق الشمالية الحضارة بعناصر مبتكرات لا تضاهي شأنهم شأن سكان المناطق الجنوبية. وبتبادل الخبرة وانصهار الأفكار ظهرت حضارة العراق ونمت وتطورت في العصور التاريخية. لاحظنا ان القرى الأولى ظهرت بجهود الإنسان العراقي وهو الذي طور أنماط الحياة فيها وابتكر حاجاتها الأساسية وهو الذي ابتكر الكتابة وادخل البشرية في ما يعرف بالعصور التاريخية أو عصر فجر التاريخ (3000 سنة ق.م) حيث تطورت قرى كثيرة إلى مدن شهدت ظهور أول أشكال السلطة (السلالات الحاكمة) أو عصر دويلات المدن السومرية مثل كيش والوركاء وأور ولكش وأوما. والملاحظ على معظم المدن الحضارية تركزها فيما حول نهر الفرات في القسم الأوسط والجنوبي من العراق. والراجح أن جريان الفرات في أرض مستوية، جانبها الغربي هضبي مرتفع، تنحدر باتجاه دجلة جعل حوضه أكثر ملاءمة للاستقرار البشري، إذ يمكن التحكم في فيضانه بتحويله عبر قنوات إلى دجلة فضلاً عن إمكانية إقامة المدن على الحافات المرتفعة غربي النهر. والذي يدقق في قوس المدن الأولى (أور وأريدو والوركاء ونفر) وان نهر الفرات يمثل خط الإمداد الدائم من شبه جزيرة العرب للإنسان العراقي الذي اضطلع بمعظم النتاجات الحضارية في وادي الرافدين يجد دعماً لهذه الفرضية، فهي بعيدة نسبياً عن مجرى النهر الحالي وربما ربطت بالنهر عن طريق قنوات توصل الماء وتسمح بالملاحة في آن واحد، على خلاف حوض دجلة حيث كانت سرعة الجريان وطغيان النهر على كلا الضفتين إضافة إلى تهديدات خارجية مثلتها القبائل الجبلية في المرتفعات الشرقية بخاصة، قد عقدت فرص استقرار حضاري فيه.
تطور التاريخ في العراق
ابتدأ النشاط البشري الملموس في بلاد وادي الرافدين في حدود (100-60) ألف سنة ق.م، حيث ظهرت اثار الجماعات الأولى من انسان نياندرتال في منطقة الرطبة وحوض صدام وكهف شنايدر. وتدل الاثار المكتشفة حتى الآن على اهتمامات الانسان، كما تحدد في الوقت نفسه طبيعة حياته ومصادرها، وابرزها (الالتقاط والصيد). وتدل اثار الحيوانات المتوحة التي عثر عليها في هذه المناطق وقرب مراكز استقراره على اصول الحيوانات التي دجنها الانسان فيما بعد. وتكشف البقايا العظيمة المكتشفة لانسان تلك الفترة عن اوجه الشبه بينها وبين المجموعة البشرية المعاصرة لها التي عاشت في فلسطين مما يدل على وجود علاقة بينهما. وعبر العصور الثلاثة التي اصطلح عليها المؤرخون (العصر الحجري القديم، والأوسط، والحديث) تطور نشاط الانسان الأول في العراق وبدأ انتقاله التاريخي من الالتقاط والصيد إلى الزراعة والتدجين وظهر اثر هذا في نضج كفاءة الاداء والعمل إذ بدأت مصنعاته من الالات تتنوع لتلائم شكل الانتاج وتتحسن من حيث المواد الأولية والمظهر الخارجي والكفاءة لتلائم حاجاته الاجتماعية والذوقية. وفي العقدين الأخيرين من الالف العاشر ظهرت القرى الزراعية التي كشفت طبقاتها الأولى عن نشاط زراعي حيواني منتظم وكشفت عن استقرار اجتماعي منفتح عرف مستوى من الترف.
وهكذا ازدهر الاستقرار الاجتماعي في مئات القرى الزراعية. وتنوعت مصادر الانتاج والوسائل المستخدمة فيه، وعبر الاستقرار الاجتماعي عن نفسه في نضج مستمر في المستخدمات الاجتماعية على أن أبرز المبتكرات التي لها اهميتها الاجتماعية آنذاك والتاريخية هو (الفخار) الذي اصبح تطور صناعته وزخرفته وشكله مقياساً لتمييز حقب من التقدم في العصر الحجري الحديث وهو سمة تعكس التقدم الاجتماعي. وشاع استخدام المعادن وتطور النمط العمراني بتطور المباني وتطور تلوين الخرف وتطورت المعابد وتطور الفن واتسع انتشار مراكز الاستقرار الاجتماعي في وسط العراق ونموها السريع، وظهر الدولاب الذي يصنع به الفخار وبدأت الحضارة العراقية تأخذ طريقها إلى خارج العراق، وفي فجر التاريخ (3000 ق.م) تعززت مكانة المعبد ودوره الاجتماعي والاقتصادي الذي ارتبط بتطور القرى الزراعية الى مدن يتسع فيها التخصص الاجتماعي شمولاً ودقة، ويعبر ظهوره عن بداية نشوء المركز الذي يقود النظام الاجتماعي العام، وقد توج هذا التطور بابتكار الكتابة إذ عثر على أول نموذج لها بهيئة صورية تعود إلى سنة 3000 ق.م في الطبقة الرابعة من موقع مدينة الوركاء، وظهرت اثار هذا العصر وأبرزها الاختام الاسطوانية والكتابة في سوريا ومصر وعيلام وأواسط انضوليا. ويدل هذا الانتشار على الأثر المبكر للنشاط الحضاري في العراق في الأقوام المجاورة كما يعطي فكرة عن حجم التطور الذي شهده العراق وانتهى إلى ظهور أول اشكال السلطة وبداية عصر حضاري جديد.
عصر فجر السلالات
تبلور تطور المجتمع العراقي في الربع الاخير من الالف الرابع ق.م وبرزت فيه جماعتان رئيستان هما السومريون ومن اطلق عليهم الأكديون في عهود لاحقة. وعلى الرغم من تركز السوموريين في المدن الجنوبية مثل اريدو وأور في محافظة ذي قار والوركاء في محافظة المثنى، وتركز الأكديين في كيش في محافظة بابل وسبار في محافظة بغداد وبعض المواقع في محافظة الانبار فقد امتزجت كلتا الجماعتين وتفاعلتا في كل المدن العراقية القديمة. وربما كانت القيادة السياسية للاكديين ثم للسومريين ومن بعدهم للاكديين والسومريين مرة أخرى.
وظهر الأموريون الوافدين عبر الفرات في العراق في الربع الأخير من الالف الثالث ق.م وتعاظم نفوذهم حتى تسنموا القيادة السياسية للبلاد في مطلع الالف الثاني ق.م وظهر التخصص الاجتماعي واضحاً في الانتاج، وظهر أيضاً الترابط العضوي بين انماط الانتاج والنظام الاجتماعي. وبعد اختراع السومريين الكتابة في حدود 3000 ق.م بداية للعصور التاريخية في العراق وقد رافق هذا التطور تطور اخر مهم، بل ربما كان أكثر أهمية، هو ظهور السلطة في شكل سلالات ظهرت كل منها في مدينة، ويظهر من دراسة جداول الملوك السومرية ان السلطة (الملوكية) نزلت من السماء إلى الأرض، أول مرة، في كيش قرب بابل غير انها اندثرت بفعل الطوفان الذي اكتسح الأراضي عدا رجل الطوفان. ثم عادت إلى الظهور ثانية بعد الطوفان في مدينة (كيش)، وعلى يد ملوك هذه السلالة تحققت الوحدة الداخلية في العراق في عصر مبكر (2800 ق.م) بحدوده الحالية تقريباً. ومن السلالات السومرية المشهورة سلالة الوركاء الأولى وملكها الخامس كلكامش (2700 ق.م). وقد خلدت السلالة وملكها في الملحمة البابلية المشهورة (ملحمة كلكامش). ومن السلالات السومرية الاخرى سلالة أور الأولى (2650 ق.م). وتكشفت اثار هذه المدينة عن تقدم الفنون والثقافة، فمن هذه المدينة وصلت إلينا القيثارة المشهورة، كما تطور استخدام العربة وادخلت في الأغراض العسكرية فضلاً عن الزراعة والنقل، واخر سلالات هذا العصر سلالتا لكش وأوما (2550). ويعد الملك أور وامكينا صاحب اصلاح اجتماعي قانوني في العالم وهو الذي وضع أسس التشريعات القانونية التي ظهرت بعد هذا التاريخ، والى ملك أوما لوكال زاكيزي ترجع الجهود الأولى لتوحيد دويلات بلاد سومر وربما الأرض الواقعة بين الخليج العربي والبحر المتوسط إذ يذكر في كتاباته انه وصل من "البحر السفلي إلى البحر العلوي" وتلقب بلقب ملك سومر. جاء التطور الكبير على يد سرجون الأكدي (2371-2316ق.م) الذي انتزع السلطة من السومريين في مدينة (كيش) واستطاع بعد فترة قصيرة توحيد دويلات المدن السومرية. وبجهود لاحقة شملت دولته الخليج العربي والأراضي العربية حتى البحر المتوسط وشمالي العراق، حيث كانت مدينة أشور تحتل احد المراكز الإدارية، الأكدية المهمة، وشمالي سوريا وبلاد عيلام في الشرق وحارب القوام التي هددت حدودها ومصالحها في أسيا الصغرى ومنطقة (اوان) فظهرت بذلك أول دولة مركزية تضم أراضي واسعة من الوطن العربي وهي المحاولة الأولى للوحدة التي تمت بقيادة العراق.
وأضيف إليها مناطق أخرى من الوطن العربي أبان حكم حفيده نرام – سين (2291-2255 ق.م) وبقيت تلك الإمبراطورية مزدهرة إلى ان استولى عليها الكوتيون (عقاب الجبل) الذين دام احتلالهم قرابة مائة عام (2211-2120ق.م) وكانت من احلك فترات التاريخ لما أصاب البلاد من خراب ودمار على أيديهم.
العصر البابلي القديم
أعقب نهاية سلالة اور الثالثة (2006 ق.م) قيام عصر جديد في العراق عرف بالعصر البابلي القديم نسبة إلى مدينة بابل، وكون الأموريون قوام هذا العصر بعد ما ظهروا قوة بشرية وسياسية قوية في وسط العراق وجنوبيه. والظاهر ان دور الأموريون الاجتماعي وتزايد اعدادهم بعد التحاق بقاياهم في الجزيرة العربية بهم كانا عاملين اساسين في نجاحهم في تاسيس عصر جديد بعد ان عاشوا منذ الالف الثالث ق.م جزءاً من مجتمع العراق القديم إلى جانب السوموريين والأكديين، ظهر الأموريون أول الأمر سلالات متفرقة ابرزها سلالتا ايسن ولارسا.
أسس سلالة ايسن اشبي ابرا الأموري (2017-1985ق.م) وبدأ حكمه بتأديب العبيلاميين في غربي إيران حالياً في معركة لم يفكروا بعدها في الأعتداء على العراق، وازدهرت في عهد هذه السلالة الثقافة العراقية القديمة (السومرية) وتطور التشريع الذي اظهر عناية خاصة بأستخدام عناصر الانتاج وادواته ووسائله ورعاية الأسرة. كما ظهر أول مرة دور لسكان المدن من خلال مجالس الشعب مما يشير إلى تطور في شكل السلطة وجوهرها.
أما سلالة لارسا فقد أسسها الملك الأموري نبلاتم (2005-2025ق.م) وقد واجهت هي الأخرى الخطر العيلامي القادم من الشرق ثم ظهرت السلالة الثالثة في بابل على يد سومو-ايم (1894ق.م) الأموري زعيم احدى القبائل الأمورية التي التحقت في عصر لاحق باصولها الأمورية القديمة في العراق، واتخذت بابل عاصمة لها.
كما ظهرت مملكة اخرى عرفت بمملكة (اشنونة) التي قادت عدة مدن مثل تل حرمان وخفاجي وتلول الضباعي وشجالي واسمر، وازدهرت المعرفة في هذه المملكة كالعلوم والرياضيات، والقوانين أيضاً خصوصاً تلك التي تتعلق بتحديد أسعار البضائع الأساسية فضلاً عن أمور المجتمع. ومن بين هذه السلالات كان الازدهار السياسي من نصيب سلالة بابل الأولى التي اتجهت في عصر ملكها السادس حمورابي (1793-1751 ق.م) إلى توحيد العراق في إطار سلطة مركزية واحدة واخضاع الملوك المعاصرين كافة.
اتجه حمورابي إلى العناية بالنواحي الإدارية والاجتماعية والثقافية فاتبع نظاماً مركزياً في الإداارة ربط بموجبه حكام المناطق به وفصل في سلطاتهم بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية وحول وظائفهم إلى وظائف إدارية، واهتم بالبريد وسرعة وصوله بين العاصمة والمدن الأخرى، ونظم المعابد وحدد صلاحيات الكهنة وألغى محاكمهم وانشأ المدارس إضافة إلى دور العلم والمعرفة في المعابد، وبدأت أول مرة حركة العناية بتراث العراق القديم وتدوينه واعاد كتابة الملاحم السومرية.
واهتم بالجيش واتبع نظام التجنيد الاجباري وسن قانوناً موحداً للبلاد يبدو انه اعتمد التشريعات القديمة ولكن برؤية عصره ويهدف إل توحيد المجتمع وتعزيز هيمنة الدولة.
تعرضت الدولة البابلية لأقوام غازية، فقد واجهت في آن واحد ضعف الملوك الذين جاءوا بعد حمورابي وانقسام الدولة إلى مملكتين ضمت الأولى جنوبي العراق والخليج وعرفت بمملكة القطر البحري اوسلالة بابل الثانية بقيادة ايلوم. وثارت مدن لارسا واور والوركاء وواجهت الدولة البابلية اخطاراً خارجية تمثلت بالغزو الحثي والغزو الكشي والغزو الخوري وقد استولى الحثيون على بابل ولم يبقو فيها طويلاً إذ سرعان ما تركوها للكشيين. كما غزا الخوريون منطقة كركوك واحتلوها زهاء قرن من الزمن. يتسم العصر البابلي بقوة السلطة المركزية وانفصالها عن المعبد إذ اختص الملك ومعاونوه بشؤون المجتمع. وظهرت مجالس المدن التي اختصت بالقضايا الكبرى فضلاً عن المشاركة في الحكم، وتطورت تنظيمات الجيش وكان الملك يرأس الجيش المؤلف من المجندين إضافة إلى الجيش الثابت. وتورت مكانة المرأة فشاركت في الجيش ومارست التجارة ومختلف المهن الأخرى. ويتسم هذا العصر أيضاً بظهور القوانين، موحدة وشاملة، ويعكس الحرص على اعطائها طابعاً مقدساً اهميتها في تنظيم المجتمع وسيادة العدل الاجتماعي في الدولة وفي نشوء النظام العام المعبر عن وحدة المجتمع في الوقت نفسه.
وتتجلى قيمة العصر البابلي بعاصمة بابل ذات الموقع الوسط بين مراكز تجارية وزراعية متعددة. واهتم البابليون بالري، وازدهرت الثقافة والأدب والفنون، فإلى هذا العصر تعود أقدم نسخة من ملحمة كلكامش وقصة الطوفان وقصة الخليفة البابلية وتعطي منحوتات العصر فكرة عن النحت الذي اتسم بالواقعية.
الاحتلال الكشي
تعرض العراق للاحتلال الكشي (1595-1157ق.م) وهم قوم اجانب من أواسط جبال زاجروس تغلغلوا في المجتمع البابلي وساتغلوا فرصة سقوط بابل على يد الحثيين (1595ق.م) فغزوا الدولة واتخذوا من (دور كوريكا لزو) عاصمة لهم. وكانت لهم صلات بمصر واتسم عصرهم باستخدام الحصان في النقل والعربات في الحروب لذلك اهتموا بالخيل وانسابها. وواجهوا غزو العيلاميين وتهديدات الاشوريين معاً إلى ان استطاع العيلاميون القضاء على الحكم الكشي في حدود (1157 ق.م) ودموروا بابل ومدناً عراقية أخرى وسلبوا ممتلكاتها بما في ذلك مسلة النصر ومسلة حمورابي أيضاً وتمثال مردوخ كبير الالهة البابلية.