النصارى في عصر الخلافة الأموية
الدكتور راغب السرجاني
اتخذ التسامح مع النصارى في عصر الخلافة الأموية عدَّة أشكال ومظاهر، ومن هذه المظاهر اشتراكهم في الإدارة والوظائف المختلفة؛ فنرى الخليفة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- منذ أن كان واليًا على الشام، أدرك أنَّ النصارى من الروم والعرب يمثِّلون أكثريةً في سورية، وكان منهم أصحاب الحرف والموظفون، والأطباء والكُتَّاب، وأنه لا يمكن الاستغناء عن هؤلاء إذا أراد أن يُحسِنَ إدارة الولاية؛ فأبقاهم في وظائفهم، وقَرَّب النابهين منهم.
وعَهِدَ معاوية -رضي الله عنه- الإدارة المالية إلى أسرة مسيحية، ظلَّت تتوارث فيما بينها تلك الإدارة، وهي أسرة سرجون، ويقال: إن معاوية -رضي الله عنه- عيَّن طبيبه ابن أثال عاملاً على خراج حمص، كذلك اتخذ عبد الرحمن بن زياد في خُراسان كاتبًا من النصارى هو إسطفانوس، وكتب ابن البطريق -وهو من أهل فلسطين- للخليفة سليمان بن عبد الملك، ومن كُتَّاب الخليفة هشام بن عبد الملك تاذري بن أسطين النصراني، الذي قلَّده ديوان حمص.
كما كان كثير من النصارى يعملون في بلاط الخلفاء والولاة، ومن هؤلاء الطبيب اليوناني ثياذوق، طبيب الحجاج بن يوسف الثقفي، وأيضًا الطبيب اليهودي ماسرجويه، والذي عمل في بلاط الخليفة مروان بن الحكم، وقام بترجمة كتاب في الطب عن السريانية[1].
ومن مظاهر التسامح في علاقة المسلمين بالنصارى في الخلافة الأموية أنَّ دور العبادة الخاصة بالنصارى من كنائس وبِيَعٍ، تمتعت بالحماية والصيانة، بل استُحدِثَ الكثيرُ منها في ظلِّ الحكم الإسلامي..
وقد حافظ خلفاء بني أمية على الكنائس والبيع؛ فعندما هَدَّمَت الزلازل جانبًا من بيعة الرها الكبرى، أمر معاوية -رضي الله عنه- بترميمها وإعادتها إلى سابق عهدها.
كما بُنِيَتْ أولُ كنيسة بالفسطاط في حارة الروم زَمَنَ ولاية مسلمة بن مُخَلَّد والي مصر، بين عامي (47-68هـ)، ولما أنشأ عبد العزيز بن مروان مدينة حلوان أَذِنَ لخادمين مَلْكَانيين من خَدَمِه ببناء كنيسة هناك عُرفت بكنيسة الفرَّاشين، كما قام البطريك ليوناس بتشييد أخرى.
بل إن عبد العزيز بن مروان والي مصر سمح لبعض الأساقفة ببناء ديرين هناك، كما سمح لكاتبه أثناسيوس ببناء كنيسة في قصر الشمع، ولم يكتفِ أثناسيوس بواحدة بل شيَّد ثلاث كنائس هي: كنيسة مار جرجس، وكنيسة أبي قير داخل قصر الشمع، وأقام ثالثةً بالرها.
وتُشير بعض أوراق البردي إلى أسماء حكام أقاليم وموظفين من القبط منذ السنوات الأولى للحكم الإسلامي في مصر، ويرجع تاريخ هذه الأوراق إلى سنة (22هـ/ 642م)، كما تُشير كل الدلائل إلى اختيار ولاة مصر خلال هذه الفترة نصارى للعمل في مختلف الوظائف؛ فكان منهم الكُتَّاب، وعمال الدواوين، وحكام الأقاليم، بل وعمال الخراج أيضًا.
فقد كان والي الصعيد في نهاية ولاية عبد العزيز بن مروان (65-86هـ/ 685-705م)، مصريًّا نصرانيًّا، واسمه بطرس، كما كان حاكم مريوط مصريًّا نصرانيًّا كذلك، ويُدعى تادفانس، وفي عهد والي مصر قُرَّة بن شريك (90-96هـ) تَوَلَّى ديوانَ الإسكندرية رَجُلٌ من النصارى يُسمَّى تادرس[2].
وفي العراق عاش النصارى في بحبوحة من العيش؛ يُمارسون شعائرهم الدينية في كنائسهم وبيعهم.. فهذا هو الحَجَّاج -الذي اتهمه بعض المؤرخين باضطهاد النصارى- كان عامله على خراسان يبني للنصارى البِيَعَ، وقد سمح له الحجاج بذلك، وفي فترة ولاية الحجاج قام سعيد بن عبد الملك بن مروان، عامل الموصل، بإنشاء دير هناك سُمِّيَ دير سعيد على اسمه، وكان سعيد يتعهده دائمًا بالرعاية؛ حتى أصبح إيراد بساتينه وحدائقه ثلاثمائة ألف درهم سنويًّا[3].
كما تمتَّع النصارى في عهد عمر بن عبد العزيز بالكثير من عدله ورحمته؛ فقد أمر عماله بألاَّ يهدموا كنيسةً أو بيعةً أو بيتَ نارٍ صُولِحوا عليه[4]، كما كتب عمر إلى عامله بالبصرة يقول له: "وانظر مَن قِبَلَكَ من أهل الذمة قد كَبُرت سنُّه، وضَعُفت قوته، ووَلَّت عنه المكاسب؛ فأجْرِ عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه"[5]!! كما أمر بجَعْل صدقات بني تغلب -وهم نصارى- في فقرائهم، دون ضَمِّهَا إلى بيت المال[6].
المصدر: كتاب ( مستقبل النصارى في الدولة الإسلامية ).
عن موقع قصة الإسلام
الهوامش
[1] حسن علي حسن: أهل الذمة، ص91-93، بتصرف.
[2] المرجع السابق ص130، 131.
[3] ابن فضل الله العمري: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، 1/92، بتصرف.
[4] الطبري: تاريخ الأمم والملوك، 4/72.
[5] أبو عبيد: الأموال، ص50.
[6] ابن الجوزي: سيرة عمر بن عبد العزيز، ص79.