مظاهر الإحتفال بشهر رمضان حول العالم " إسبانيّا "
رمضاننا في إسبانيا وفي مدريد على وجه الخصوص عجيب وغريب ومثير للتساؤل وجدير بالتسجيل، جاءنا رمضان هذا العام في ظروف حالكة وأيام عصيبة تمر بها الأمة من أقصاها إلى أقصاها، ولعلنا هنا في غربتنا نشعر بآلام الأمة مضاعفة، ولكننا قد نختلف عن الناس في بلادنا بأننا نحاول أن نشق طريقاً وننطلق نحو الأمام، ولا نبقى في أمكنتنا مراوحين نندب حظنا العاثر ونشق الجيوب ونلطم الخدود، ثم نلتفت الى الجهة الأخرى لنمارس حياتنا نفسها فلا نفعل شيئاً ولا يهمنا أن نفعل شيئاً.. ضرورة الغربة، ضرورة النأي .. ضرورة الحصار!.
كل واحد من أبناء الجالية مهتم بأمر أمته اهتمامه بأمر أسرته وأولاده وكلما زاد الشعور بالغربة والنأي والحصار كلما ازداد تمسك الناس هنا بهويتهم يشدونها عليهم شدّ الأعرابي عباءته في ذلك اليوم شديد الرياح.
همّ فلسطين يعيشه هاهنا العرب والمسلمون ساعة بساعة ولحظة بلحظة حبلا ً وثيقاً يشدهم الى انتمائهم فلا ينتقلون عنه، كل واحد منا هنا يعتبر نفسه ويعتبره الإسبان رغم أنفه ممثلا عن العرب والمسلمين أجمعين، يوم غزت جيوش صدام بغباء منقطع النظير الكويت أصبحنا كلنا صدّاماً حتى إن ابنة لي صغيرة يومها اسمها سلام في الثامنة من عمرها كانت تأتي كل يوم من المدرسة باكية وتقول لي من هذا ال....الذي يدعى صدام ؟ كل أولاد المدرسة يغلطون في اسمي وينادونني صدّاماً!.
ويوم قام الصرب بذبح مسلمي البوسنة، أصبحنا ضحايا تمشي على الأرض، كان الناس ينظرون إلينا وفي أعينهم عبرات المشاركة الوجدانية والتأسف لحالنا، وعندما قُتل (محمد الدرة) قهرًا وصبرًا قتلنا يومها جميعاً، ثم جئنا من الموت لنحيا صارخين بكل ما آتانا الله إياه من قوة على أبواب السفارة الإسرائيلية في مدريد.
فترى السوري الى جانب المصري إلى جانب السوداني إلى جانب الكويتي إلى جانب اللبناني كلهم يتحدى بالكوفية الفلسطينية هذا الحجم المستفحل من الظلم والقدرة على الذبح، ويؤكد هناك على أنه لم يعد بالإمكان السكوت ولم يعد يجدي الصمت ولا الانتظار.
وعندما حدث ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر - ولا أراكم الله مكروهاً- أصبحنا جميعاً مشتبه بهم، وحتى أولئك الذين لم يقربوا في حياتهم مسجداً ولم يؤدوا صلاة، عمّ البلاء الناس وطمّهم، وأصبحنا جميعا ابن لادن يسير بين الناس في شوارع مدريد تلاحقه النظرات القاتلة، وتحرقه الزفرات المتهمة، وتؤلمه الأفكار الشيطانية التي لاحت في الوجوه وتذبحه النيّات الُمبيتة، الخارج من بيته كان لا يضمن العودة إليه سالماً، والذاهب إلى عمله لا يعرف إن كان سيستمر في مزاولة ذلك العمل، كل أولادنا كان اسمهم يوم ذاك وحتى البنات منهم أسامة، كل حجاب كان قنبلة موقوتة، وكل سحنة عربية شرقية أو غربية كانت صاروخاً قابلاً للانفجار.
وتواصينا بأن لا نرفع عيوننا نحو ُبرجَي ساحة كاستيا في قلب مدريد خشية أن يظن القوم أننا ندرس ميلهما الهندسي الشاذ تدبيراً منا لهجمات مشابهة!.. جارتي العجوز "مرثيدس" والتي كنا نحمل إليها البطيخ كلما ذهبنا وجئنا من السوق لأنها تحب البطيخ ولا تجد من يحمله إليها، قالت لأبي الأولاد ذات يوم وهي تناقشه حساب الكهرباء أتريد أن تقتلني يا ابن لادن، ولم ينفع معها لا صلة الجار ولا البطيخ الذي كنا نحمله إليها!
لم تشهد مدريد في تاريخها الحديث رمضاناً كرمضان العام الماضي ولم تشهد المراكز الإسلامية الرئيسة فيها زحفاً إنسانياً هائلاً كذلك الذي شهدته إبان ضربات الحادي عشر من سبتمبر، هبّ الناس إلى المساجد لصلاة التراويح وكأنهم في مهرجان اعتراضي سِلميّ على كل الظلم والأذى الذي لحقهم من الشارع الإسباني ووسائل إعلامه، كنا نصلي التراويح تحت حراسة مصفحات الشرطة التي تعاطفت مع المسلمين في مدريد وقد عايشتهم لأول مرة عن قرب فاكتشفت أنهم بشراً وليسوا أغوالا تريد أن تنهش اللحوم والأكباد!.
ما حدث في العام الماضي كان هائلاً ولكنه لم يتجاوز من حيث حجمه وأهميته ما يحدث في مدريد هذا العام في رمضان، فلقد بلغت أعداد المصلين في أول ليلة من رمضان في المركز الإسلامي السعودي في مدريد- والذي يعتبر واحدا من أكبر المراكز الإسلامية في أوروبا من حيث الحجم والمساحة -أن اضطر القائمون عليه إلى فرش أرض الممرات الداخلية وأروقة المدرسة الملحقة بالمركز بالسجاد لتتسع للأعداد الهائلة من المصلين.
وصلّت النساء في طابقين ونحن مازلنا في العشر الأوائل من رمضان، الناس تريد أن تفرّ إلى الله، العرب والمسلمون يريدون أن يتظاهروا ضد الظلم والكراهية والقهر والعنصرية، الرجال والنساء والأطفال جاؤوا إلى هنا ليعبروا عن رفضهم لغزو العراق، وليرفعوا أصواتهم بآمين مزلزلة كلما دعى الإمام لفلسطين ومجاهديها، الجالية تبغي أن تقول للحكومة الإسبانية إننا أناس مسالمون، لكننا نرفض دعمك لغزو العراق.
وإننا قوم لا يحبون الإرهاب، ولكننا ندعم المقاومة المشروعة الأخلاقية المبررة ضد الغزاة في العراق وضد الطغيان الأعمى القاتل السفاح في فلسطين .. وكلاهما اعتداء سافر غير مبرر ولا مشروع ولا أخلاقي !!.
رمضان هذا العام ذو نكهة مختلفة على الرغم من مقتل أحد الشباب من الإخوة المغاربة على أبواب مسجد ختافة على يد مجموعة من ذوي الرؤوس الحليقة وذلك بعد أدائه صلاة التراويح والتي أصبحت هاهنا مظاهرة للتحدي من أجل البقاء والحفاظ على الهوية في هذه البلاد، ومظهراً من مظاهر الاعتراض على الأوضاع المخزية للعرب والمسلمين في بلادنا البعيدة القريبة .
رمضان هذا العام تضمخه ريح المسك في جروح شهداء الأقصى، وتعطره استجابة الله لعباده بأن لا يستباح العراق وأهله، والناس يعرفون أن الله لم يخذلهم، وأن العراق لم يكن لقمة سائغة سهلة في أفواه الغزاة المعتدين .
رمضان هذا العام تظاهرة يؤمها الآلاف ليقفوا وراء إمام مغربي في السابعة عشرة من عمره، وهبه الله من الصدق والصوت ما جعله يهز أركان مسجد عمر بن الخطاب في مدريد بدعائه على المستعمرين الظالمين ودعائه للمجاهدين المحتسبين، والناس من ورائه يبكون ويجأرون إلى الله أن آمين .
رمضان هذا العام وعلى الرغم من الجراح والقهر والظلم والشقاق والنفاق... طعمه طعم النصر الآتي، طعم الإرادة الحرة والأجيال الفتية التي تجاوزتنا في كل شيء والتي لم تسكت وعرفت كيف تعبر عن رفضها والتي عرفت الحق والتزمته.
طعم رمضان هذا العام في إسبانية طعم الغدّ المقبل بالأمل والأفراح وكل الورود البيضاء الطاهرة والحمراء القانية التي روّت بها هذه الأمة تربتها بدم شهدائها في كل مكان، لتنتش البذور وتزهر بإذن ربها صحوة وانتفاضة وفجراً آتيا على دروب المحن، وإن غداً لناظره قريب.