... وقد كنتُ أجيئُكِ ليلاً وصُبحا، وصحْواً وسُكْرا؛ لكنّني جئتُكِ دوماً سُفوراً لا قناعا. وكنتُ طرقتُ جرسَ بيْتِك، ففتحت لي الخادمة باباً فمررْتُ منه، ثمَّ آخر، فمررتُ منه، ثمَّ بابَ صالونِك، فرأيتُكِ وسط حشْدٍ من الناس والأشياء والأقوال والأفعال.
كانواْ يشربون الخمور ويدخِّنون السجائر ويسخرون من كلِّ شيء. وكنتُ رأيتُ الخمورَ تشربُهم والسجائرَ تُدخِّنهم والأشياءَ تسخرُ منهم.
فرحَّبتِ بقدومي وأجلستِني جنبَك، وقدّمتِ لي كأساً ليس كأسي لأشربَ خمراً ليستْ خمري. آنذاكَ وضعتُ قناعاً على وجهي، وستاراً على أفكاري وحجاباً على أحاسيسي، لأصيرَ والأقنعةَ شيئاً واحدا. وبهذا الصنيع المبتذل، ولجتُ ـ من بوابتِه الواسعة ـ «مكانَ التنكُّر» جاحداً بأفضالِ العِشقِ عليَّ، ضارباً عرضَ الحائطِ جُرأتي، خاذلاً مواقفي حول حرية التعبير، مُرتدّاً عن معتقدي الأدبي، كافراً بما فكّرتُ فيه قُبيْل طرق بابَك، قبل السير في الشارع إليك، قبل أن أفتح باب قلبي إليك، زمناً قبل أن أعرفك.
ولكنّه «مكانَ التنكُّر»، وفيه أرى شبابي وعطائي وعشقي ودمائي «ذهبواْ». ورأيتُني شيئاً ملفوظاً كالشيءِ الذي قُضِيَ به شيءٌ فَلُفِظ، ورأيتُكِ في الأدخنة تتبخرين خلف قناعِك، وفي وسطِ الحشود، وحيدة؛ وفي صخبِ القهقهات، كئيبة؛ وعبر غلالة السُّكْر، فراشةً مبتلَّة...
ورأيتُكِ أمام قناعِك خلف وعودِك لي، وتحت رحمة خُموركِ متعاليةً على عشقِك، وجنبَ محبوبِك بعيدةً عن نفسِك، وفي ثورة جسدِك خارجَ أحلامِك...
إنّكِ في «مكانَ التنكُّر» الكريه، وهو مكان خطر؛ ففيه تنكّر المخلوقُ لخالقه فكفر، وفيه تنكّر الولدُ لوالدِه المحتضر، وفيه تنكّر المتعلّمُ لمعلّمه عندما فاز واستقر، وفيه تنكّرتِ الكلماتُ للحروف على حدِّ القهر، والحروفُ للخطوطِ وأداً في السِّر، والخطّاطُ للقلم عندما استدار عن النثر والشعر...
إنّه مكان الخيانة والغدر؛ فإيّاكِ أن تجيئيني ـ بعد الآن ـ قِناعا! جيئيني ـ إذا ما كنتِ راغبةً في ـ سفوراً لا قِناعا! وقولي لي كلمةً صادقةً من روح الدِّنان، وقبّليني قبلةً مشفوعةً بحنان، وافرشي لي جسدَكِ لأغسِلهُ من التنكُّر وعدم الامتنان، وأنجبي لي أشعاراً وقصصاً وروايات لا تعترف لا بحبكة ولا بمكان أو زمان...