دقت الجرس و توارت إلى الوراء. منحنية الرأس، تائهة النظرات. تحمل بين يديها رضيعا كأنها تحمل حياتها. ابتسمت و طلبت منها الدخول. خطوات مترددة وواهنة. ولجت إلى الداخل و لسانها لم يكف عن الشكر . طلبت منها أن تنتظر بعض الوقت حتى أستعد و آخذها معي إلى الموعد المحدد.
"سعيدة" الاسم الذي سمعت صديقتها تناديها به في تلك الليلة الممطرة. كانت ليلة باردة تستوطن فيها الأمطار كل جزء من أجزاء المدينة. رياح قاسية ترسل أصواتا مرعبة تتسلل إلى البيوت النائمة. كانت "سعيدة"تحتمي بإحدى البنايات الشاهقة و تداري عن جسمها النحيل بمعطف انكمش و توحد مع جسدها من شدة البرد. أوقفتني صديقتها و توسلت إلي أن آخذها إلى بيتها المتواجد في أطراف المدينة. صعدت إلى السيارة في سكون رهيب ، ترتعش و تئن كأنها عجوز على مشارف القبر. لم تكف عن التأوه والأنين. سألتها و الخوف بدا يسري بين ضلوعي"ما بك؟" بعينين غائرتين و فم شاحب قالت"أظن أنه الوحم..لم أستطع تحمله."المطر يهطل بغزارة شديدة ويحجب الرؤيا. لم أتكلم. ساد صمت القبور بيننا. قالت مندفعة:"كل الرجال بحال ..بحال.. واعدني بالزواج..."خانتها الدموع و تسللت من بين مقلتيها غزيرة كما الأمطار. سألتها بعدما ركنت السيارة جنب الطوار:"هل عائلتك على علم بما حدث لك؟" دست وجهها بين يديها و أطلقت العنان لزفرات متتالية منبعثة من جوف روحها الجريحة. كأنها كانت تتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء و تعيد كل حساباتها. سؤال في غير محله أشعل نار جهنم بداخلها. لم أكن أقصد أن أزيد من متاعبها و آهاتها. كانت لحظة عصيبة علي، اختلط فيها الحابل بالنابل. انطلقت من جديد بعدما غابت تلك الأمطار الشديدة. أو أشفقت علي و توارت وراء الغيوم السابحة في الفضاء حتى أجد سبيلا بين تلك السيول الجارفة. نزلت من السيارة في صمت مهيب . خنقت كل الآهات التي كانت تجثم على صدرها. نظرت إلي، شكرتني و انصرفت. اخترق فجأة صوتي الفضاء الصامت، ودفعت الكلام من بين شفتي دفعا و ناديت عليها طالبة منها أن تتصل بي عند الحاجة.
كانا لنا موعد مع إحدى الجمعيات التي تهتم بالنساء اللواتي هن في وضعية صعبة. استقبال ثم تعارف. لاحظت ارتباك "سعيدة" و ترددها في الإجابة على بعض الأسئلة. تركتها وحيدة مع المسئولة عن المركز حتى يتحرر لسانها أكثر. جالت عيناي يمينا و يسارا و ارتاحت على رسومات جميلة معلقة على الحائط. فتح باب به أطفال تختلف أعمارهم. سألت بسذاجة عن من المسئول؟ تاه سؤالي بين ضجيج و صراخ المستقبل . رائحة منعشة تنبعث من الداخل، حلم يرفرف في الفضاء و يستوطنني، أيادي تتشابك وتنطلق بين البراري دون أحكام قبلية، صور جميلة تتراقص أمامي بكل حب ...استيقظت من سفري الغير المعلن على صوت "سعيدة". سألتها:"ماذا هناك؟" حملت رضيعها بين يديها و طبعت على خده قبلة قوية و همست إليه "لن نفترق أبدا..أبدا..؟"غادرنا المؤسسة . حاولت أن تختلق الابتسامة. انسابت دمعة تلو الدمعة..ثم تهاطلت كشلال الجبال الشامخة دون سابق إنذار. قالت بصوت واهن، آت من زمن بعيد:"وعدوني بالتفكير..وأعطوني موعدا آخر." كانت أنفاسها ترتفع و تنخفض بشكل مزعج كأنها في سجن و تبحث لها عن منفذ من بين الضلوع. كنت متيمة به..أشم رائحته في كل ما تلمسه يداي..طيفه لا يفارقني كحارس يحميني..قال لي يوما من أيامنا الحلوة:" أنت قدري.." كان صوته يحدث زلزالا بداخلي و يجعلني ألامس نجوم السماء. ما أجمل الإحساس بيد تمسح عن روحك وخز الإبر. كانت حركاتي ..أنفاسي.....ترقص على مسمع صوت قدميه. في لحظة من لحظات الزمن الجميلة والغادرة، أشاح وجهه عني و تركني وحدي مع الكوابيس و أحلام اليقظة. لست أدري. طول الطريق وهي تتكلم كمن طعن من الخلف في غفلة منه. لم أرغب أن أوقف تدفق مشاعرها المجروحة عن البوح بالكلام الغير المباح..نام رضيعها على صدرها المتهالك، دندنة بعد دندنة.. و هي تائهة بين صور الزمن الجميل الذي كانت متوجة فيه كملكة، وواقع يقلع الأشجار الباسقة من جذورها، و يهد الجبال ذات النفوس الأبية..ويجعلها تسقطا أرضا و تتهاوى.
لا أنسى يوم رن هاتفي في وقت ليلي متأخر، وكم أنزعج من أي اتصال ينبثق من بين ستائر الليل المخيفة. صوت واهن، متهالك، لا يقوى على الكلام الطويل. كانت هي، تتأسف على الإزعاج و تطلب بشكل خجول أن أساعدها. سألتها بشكل متردد: ماذا حصل لك؟ لا حياة، صمت طويل و أنفاس ترتفع وتنخفض كعداء يبغي الحصول على المرتبة الأولى. و أخيرا همست إلي: "لقد أنجبت..أنا تائهة .".أخذت أدرع الغرفة ذهابا و إيابا و الهاتف بين يدي، قلت لها:"سعيدة، هل عائلتك على علم بذلك؟" قالت بنبرة حاسمة:"لقد خيروني بين الموت بينهم أو الدفن خارج أسوار المدينة." تركت روحي تنوب عني في الكلام و ذهبت صوب النافذة أستريح على نسمات الهواء الممزوجة ببرودة فصل الشتاء، حتى تتجدد خلايا بدني و أعود أرفرف في الفضاء بدون خواتم بريدية. قلت لها أنا أيضا بنبرة حاسمة: "سعيدة، أنا في انتظارك."