لبيان رقم 2
نبذتُها مُكرَهاً.
عن غير قصد غادرْتُها، ووجدت نفسي أبتعد عنها قاطعا متاهات التيه والغثيان طلبا للنجاة بذاتي التي أصابها ضيرُ الوطن وثلة من بعض الإخوة في المواطنة.
الآن، بعد مرور كل هذه السنين، أتساءل: هل أنا الذي تركْتُها أم هي التي تركتْني؟
الآن... وأنا أعود إليها بعد طول غياب، تطأ قدماي أرضها، يضمني جيدُها السخي بحنو، فينفث صدري آهة وزفرة لهما ألم المخاض وصرخة الجنين: "آآآآآآآآآآح يا أنا! آآآآآآآآآخ يا أنا! آآآآآآآآه يا الأيام!"... بعد ذلك أستنشق أريجها الملوث، أشعر بقليل من الارتياح، وأخطو في تفاصيلها الصغيرة والكبيرة علني أشفي ظمئي. أمتطيها عبر كل الجهات لكي أحس بالدفء الذي طالما افتقدته.
الآن... هي ذي تفتح لي دراعيها وتضمني، تقبلني كالأم ثارة وكالحبيبة المولَعة بي ثارات أخرى.
الآن... وأنا أقطع راجلا أوصالها الملوثة يذكرني كل موقع أمر به، كل شارع أو زقاق أعْبُره بتاريخ مضى أو بصورة مرت وتمتد في القدم. هي صور لا تأتي بالضرورة مُرَتبة حسب وقوعها في الزمن، لا بل تأتي بفوضوية، في مزيج من ذكريات عتيقة تمتد حتى تلامس تخوم الطفولة الأولى وذكريات أكثر حداثة من ذلك أو أقل أو ما بينهما أو... أو... أو... وهلم جرا. هنا، وسط هذه البنايات الشامخة، في خضم هذا الضجيج المسعور، تأتيني صورة الطفل الذي كنتُه ذات يوم، نفس ذلك اليوم الذي سأُصاب فيه بصعقة الحب الذي اصطلاني تجاه الحبيبة البيضاء، حبيبتي التي سلبت لبي طفلا ثم تملكتني فيما بعد ذلك عبر مراحل العمر الذي يمر مرور الريح الهاربة.
ليس من العسير بتاتا على ذاكرتي أن تعرض أمام عيني الداخليتين ذلك الشريط الملون بالأبيض والأسود والذي يعيدني إلى ماض يمتد حتى أعماق الطفولة الأولى. أضغط على زر ذاكرتي فأرى الطفل الذي كنتُه على بعد كيلومترات معدودة من الدار البيضاء، على الطريق الوطنية التي تربطها بمدينة الجديدة، في الضيعة العائلية التي تعود إليها أولى صور الطفولة. كانت ضيعة "عين سيّرْني" على مقربة من بلدة "أحد السوالم" عالمي الخاص والوحيد. لم أكن أعرف غير هذا الفضاء الفردوسي، ولم أكن أعتقد بوجود أمكنة أخرى غيره ما عدا مزارع بعض إخوتنا في الله أو ضيعات بعض جيراننا من المُعمِّرين الفرنسيين. لم نكن نعرف غير هذا العالم الساحر، نمرح فيه ونسرح، نطارد العصافير والفراشات... العصافير؟ ها طيور الحمام التي كانت تشاطرنا الحياة!... ها طيور "الجَوْش"! أكثر العصافير بداوة وتوحشا. ها "بلهدهود"! الطير الأنيق المغرور بنفسه والذي لم يتح لي يوما أن أداعبه بين يدي وأسائله عن سر جماله وخباياه الداخلية. ها "السَّمّان" الذي حينما يطير ينطلق مثل القذيفة، يمزق هكذا الصمتَ فنرتعد نحن الصغار ونرتعب لحظتها بفعل المفاجأة... ها "بو المقيصات" العصفور المغفل... ها "مْسِيسي" الرشيقة، الممشوقة القوام، المعجبة بنفسها وهي تختال في مشيتها كعارضة أزياء... ها "صْطيْلة" المزركشة دوما وكأنها في حفل زفاف لا ينتهي... وها الفراشات القزحية التي قيل لنا إن غبار أجنحتها لو دردرناه على عاناتنا الملطاء فسيصبح لونها أسود مثل الرجال الكبار، حتى لو كانت خالية من الزغب أصلا... كنا نريد أن نكبر بسرعة!... هذا صحيح. ولكي نكبر بسرعة كنا نقتات من نباتات الطبيعة ونتبع بالحرف ما بلَّغَنا إياه سابقونا: "الحمَّيْضى" تليق لوجع البطن، نبثة "الحُلِّيبة" يليق سائلها الأبيض الذي يشبه الحليب لتغليض وتكبير الذكر حين تُسكَب فيه بضع قطرات، "كرينبوش" ينقي الدم... "بيض الغول" لا يجب حتى تذوقه لأنه سم قاتل... و... وهلم جرا.
وها إنني أعود ذات مساءٍ، ككل مساء، هربا من الليل الذي أخذ يشرف على بسط ستاره المليء بالأشباح إلى حيث البيت الفسيح. كنت أكره الليل لأنه مليء بالجن وبـ "عائشة قنديشة" التي لها قَدَما ناقة والمولعة بخطف الأطفال، و"بُوعُّو" الذي يبث الرعب، و"حمار الليل" الذي يضرب بقساوة تجعل المرء كمجنون تائه، وزد على ذلك كائنات لامرئية أخرى من التي تترصد الأطفال حسب ادعاء من كانوا أوصياء علينا أو أكبر سنّاً منّا. لذلك، حينما كانت الشمس تغادر نحو الغرب، وفي انتظار عودتها غداً كان حزن العشيّ يدخلني كما العادة بالتدريج.
كالكتاكيت عدنا ذاك المساء، مضى كل منا إلى حال سبيله قبل أن يأتي الليل اللئيم. جلست كالعادة على عتبة البيت داخل السورالواسع أراقب غروب الشمس وأنصت إلى هدوء الغبش الذي مزقه فجأة صوت عمِّي "الصْغير" أبو الشوارب الطويلة المعقوفة كمنجل (كانت تبهرني، وكان لطيفا جدا لأنه كان يسمح لي بمداعبتها وهو يموت ضحكا). رأيته وقد دفع باب السور الخلفي مهرولا، مناديا، صارخا بأعلى صوته وهو يلوح بيديه: "واااااااالسي محمد! وااااااااجلّول! وااااانتوما راه.... السلطان مات!... السلطان مات! الله يرحم السلطان... واااا ناري ناري أميمتي السلطان مات!".
في تلك اللحظة أصبت بهلع لا سابق له لأنني لم أر من قبل عمي "بو الشوارب" على تلك الحالة التي بدا لي فيها كمجنون. هرع إليه الآخرون من أعمام وأقرباء وعمال المزرعة. ساءلهم إن كانوا سمعوا الخبر كما سمعه هو... أين سمع الخبر؟... الراديو. تجمهروا حول صندوق عجيب وأخذ أبي يدير أزراره بتأن وصبر. كان الجهاز يصدر ثارة أصواتا متحشرجة، وثارة موسيقى، وثارات أخرى كانت أنفاسه تنقطع ولا تعود إليه الروح إلا بعد أن يعالجه والدي من هذا الجانب أو ذاك بضربات خفيفة بقبضة يده.
كانوا كلهم يحيطون بأبي! أبي كان هو المركز! لم يكن يحس بأنني أمسك بساقه وأنا أنظر إليه من أسفل وكأنه جبل شامخ. كنت أعتقد بأن أبي هو أقوى رجل في العالم. لكنني في لحظة ما رأيت عينيه تدمعان كالآخرين بعد أن طبطبوا كثيرا على الصندوق العجيب وأداروا أزراره عدة مرات وسمعوا أخبارا ربما لم تسرهم. نعم! السلطان مات!... مات! سمعت نواح نساء وكلمات رددها الرجال مثل "المدينة"... "الملك"... "الموت"... "السلطان"... "محمد الخامس"... ما "المدينة"؟ ما "الموت"؟ ما "السلطان"؟ من هو "محمد الخامس" هذا؟...
هنا يحدث للصورة في ذاكرتي ما يشبه "القَطْع". تنطفئ تماما ويعم ظلام دامس. الصورة التي تليها مباشرة وبعفوية قصوى، تلك اللصيقة بها في ذاكرتي كالتَّتِمة، هي هذه التي تعكسني في يوم الغد أو في اليوم الذي بعده أو بعد اليوم الذي بعدهما أو... لا أدري.
أتذكر أنني في ذلك الصباح الباكر وجدت نفسي أعتلي ركبة "أبَّا الجيلالي" داخل سيارة "الرونو" المتوسطة الحجم والتي كانت مقصورتها الخلفية مملوءة عن آخرها ببعض أفراد العائلة. لم يستشرني أحد حول رغبتي في مرافقتهم ولم أسأل أحدا عن الوجهة التي كانوا يقصدونها. كانت العادة أن أرافقهم كل يوم أحدٍ للتسوق في "أحد السوالم". لكن، هذه المرة، كان أبي يوجه "الرونو" في الاتجاه المعاكس. كان يقودها بسرعة فائقة جعلتني أحس تجاهه بفخر وإعجاب نادرين. كنت أرى أشجار الأوكاليبتوس السامقة والمحيطة بجانبي "طريق الجديدة" تفر بسرعة جنونية نحو الخلف. كان ذلك يثير في داخلي مزيجا من الاندهاش والمتعة. وكانت الأرض الواسعة بأشجارها وحقولها وبيوتها المنتشرة هنا وهناك كواحات صغيرة تبدو لي كبساط يمتد حتى يلامس أطراف الأفق الذي لا نهاية له. كانت الحقول الشاسعة هي الأخرى تتراجع نحو الخلف، وكان الأفق يبدو لي بعيدا بعيدا جدا على الجانبين وكأن لا مجال للوصول إليه. ثم ها إنّ هذا العالم الفسيح يأخذ في التقلُّص ثم الاختفاء رويدا رويدا بقدرما كان أبي يأخذ في التخفيف من سرعة "الرّونو" وهي تتسلل داخل فضاء مغاير تماما. أحسست بأنني أنتقل إلى عالم آخر بالتريج، عالم مليء بالطرق الملتوية وبالبنايات التي يزداد علوها ارتفاعا طالما السيارة توغل في سيرها نحو الأمام. دارت السيارة إلى اليمين مرات، ثم عرجت على اليسار مرات، لفّت ودارت، وكنت في عز دهشتي وانبهاري أعد طوابق البنايات الشاهقة المتفاوتة العلو والمتراصة بانتظام جنبا إلى جنب. كان الآخرون يتجادبون أطراف الحديث الذي لم أتبين منه شيئا كثيرا. كان ضجيج خارجي يتكون من أبواق السيارات وأصوات بشرية أخرى صاخبة يتسلل حتى داخل السيارة ويعم أرجاءها. هل مررتُ من هنا فيما قبل؟ يجوز. ولكنني لا أتذكر. يبدو أنها المرة الأولى التي أكتشف فيها هذا "الكون" الفريد من نوعه. بدأت أخمن أن هذه هي "المدينة" التي سمعتهم يتكلمون عنها من قبل، هذه هي "الدار البيضاء" لأن اللون الأبيض هو الطاغي على البنايات الملتفة فيها. ثم إن هذا الهواء الذي أستنشقه غريب عني. حتى الهواء هنا له طعم آخر، طعم مغاير لهواء ضيعتنا. لم أكن في حاجة إلى سؤال أحد من الكبار الذين كانوا غارقين في عالمهم الخاص لكي يجيب عن تساؤلاتي التي لا نهاية لها... وها سرعان ما أركن والدي سيارته في ركن ما من شارع ما... ترجلنا. وهنا تضاعفت دهشتي وازداد انبهاري. تناسلت تساؤلاتي لِما رأيتُ. وجدتُ نفسي وسط غابة كثيفة، أشجارها بنو آدم. كانوا يشدون على أيدي بعضهم البعض وفي الأيدي الأخرى مناديل بيضاء يلوحون بها أو يمسحون بها دموعهم. أتذكر أن لباسهم كان نظيفا يطغى عليه اللون الأبيض واللون الأسود. كانوا أنيقين. وحينما كنت أرفع رأسي إلى أعلى كانت تتراءى لي نساء يزغردن وينُحْن في نفس الوقت وهن يخدشن خدودهن بأظافرهن. أُصبتُ بهلع شديد وأخذتُ في البكاء والصراخ وأنا أنتفض بين قبضة يد أبي الذي كان يمسك بدراعي منذ أن غادرنا السيارة. حملني بين دراعيه دون أن يسألني عمّا بي وواصل السير في خضم الزحام. لما شعر بالثعب ألقاني فوق كتفيه فشعرتُ بكثير من الراحة وانتابتني متعة وأنا أرى الأشياء من أعلى. كنت فوق كتفيه كسلطان لم يمت بعد. كان أريج دهان "رُوجَا" الذي اعتاد أن يطلي به شعر رأسه الأسود الناعم يملأ خياشيمي ويبعث في داخلي إحساسا غريبا. أخذت أراقب ما يحيط بي: حشود من البشر مصطفة بانتظام تولول وتصرخ ملء حناجرها: "الله يرحم السلطان!... عاش الملك!... عاااااااااش الوطن!... لا إله إلا الله، محمد رسول الله... لا إله إلا...".
رأيتُهم يتقدمون نحو مكان ما وكأنهم اتفقوا على اللقاء فيه من قبل. الكل كان يتجه نحو مركز المدينة أو نحو مكان آخر محدد فيها، بنظام وانتظام! عجب! كان الشارع أو الشوارع كأنها منحدرة يتدحرج عبرها كل هذا القوم بتلقائية ودون جهد! إلى أين كانوا يتجهون؟ الله أعلم. لا إله إلا الله... محمد رسول الله...
"الله يرحم السلطان!... عاش الملك!... عاااااااااش الوطن!...".
ويعم ظلامٌ دامسٌ في ذاكرتي.
قَطْع.
لم أعد أتذكر شيئا بعد ذلك.
ما أتذكره الآن هو أنني بعد العودة إلى عالمي الأصلي، إلى حياتي الطبيعية، لم أنَم تلك الليلة إلا قليلا. كنت حزينا، وكنت أتساءل:
"أهذه هي "المدينة"؟"
"أهذه هي الدار البيضاء؟"
"هل عبَرتُ هذه المدينة ذات يوم ثم نسيْتُ؟"...
"أكانت موجودة وأنا لا عِلم لي؟".
كنت تلك الليلة أعود إليها خلسة، كنت أسافر في تفاصيلها المجهولة وأنا في فراشي طعمة للنوم الذي أخذ يكستحني بالتدريج. كنت أناجيها وكانت لا تجيبني. لعنتُ سن المدرسة الذي لم يحن بعد لكي أتعلم الكتابة فأبعث لها كل يوم برسالة حب.
باتت في حضني ولم تعانقني.
في تلك الليلة لم يضربني حمار الليل. ضربتني الدار البيضاء.
لم أكن أعرف أن تلك هي "صعقة الحب".
آآآآآآآآح ياني عليك يا "كويزة"!
صدقيني، إني أكرهك حتى أقصى درجات الحب، وأحبك حتى أقصى درجات الكراهية، فاطلبي مني السماح والأمان لأنني مشرف على الموت فيك.
الآن أو غداً.
لا يهم.