كان وقت الظهيرة قد حان او كاد ..... وجموع من البشر يسيرون فى الشوارع ينبئون بيوم آخر مزدحم وأنا ما زلت محاصرا داخل سيارتى الصغيرة التى ملتشأن كل شئ فصارت حركتها أشبه بحركة سلحفاة مريضة . كل ما فى الحياة فقد القدرة على الحركة . ضاق صدرى من هذا الحصار وددت لو أضرخ , أفكار عديدة تدفعنى إلى الجنون ......... إلى فعل شئ لا أعلمه لا أسمع سوى صوت العربات أما البشر فلا وقت لديهم للحديث , فهم حين يرغبون فى التخاطب ينشدون ذلك من خلال جمادات سجلوا عليها أصواتهم لتقوم بدورهم , وحين يريدون الاستفسار عن شئ يلجأون للجمادات التى وضعوا بها خلاصة تجارب الجنس البشرى . إنهم يتجنبون الحديث مع بنى جنسهم ويفضلون التعامل مع الآلآت ربما لشعورهم بمتعة مخالفة الأجداد أو لأنهم فقدوا قدرة التواصل . ليكن ما يكون فلقد قررت أن اترك سيارتى وحدها فى خضم المعركة مقنعا نفسى بأنها معركة الآلآت أما البشر فلا وجود لهم . نزلت من عربتى ودخلت المقهى الذى كان قطعة من الشارع . لم أجد مكانا لأجلس فيه .. مر وقت لا اعلم مقداره وأنا واقف .. لحظات ووصل إلى مسامعى صوت أألفه ينادينى بأسمى .....يأتى من مغارة الزمن البعيد .. زمن الطفولة . كان لابد أن انظر تجاه الصوت الذى يغلفنى بغلاف شفاف . وفعلا نظرت فوجدت شخصا ما زلت اتذكر وجهه ......أنه ........... هو ....... رفيق صباى . قال لى : الا تعرفنى ؟ فاجبته : بالتأكيد اعرفك , فهذا الوجه الطفولى لم يفارق خاطرى فقاتل : الا زال وجهى طفولى ؟ فقلت : بلا شك وسيظل فقال: ألا تزال تذكر أسمى فقلت : لا زلت اذكر معناك فهو أجل وسمى فقال : إن الأسماء تدل على الأشياء فقلت : تلك خدعة ابتدعها الإنسان ليملك الأشياء منذ القدم . قلت ذلك وأنا انظر إليه لأرى ما بداخله فوجدت أمامى إنسانا آخر غير الذى علمته , نعم إنه حطام إنسان لكن شيئا ما جذبنى إليه إلى عينيه , إنه بريق عجيب ..... احساس غريب ساورنى بأن رفيقى به شئ لا أعلمه , فصارحته قائلا : ما حل بك يارفيقى ؟ يبدو أن الدهر ترك أثره عليك . فرد على قائلا : هذا شأن كل حى وتلك سنة الحياة فقلت : نعم هذاصحيح ولكنى ألمح فى عينيك شيئا آخريجذبنى يشندنى إلى زمن سحيق فقال : هذا لأنى اكتشفت متعة أخرى غير كل المتع الدنيوية .... أنها أجل وأسمى .. هى شهوة أبدية لا مثيل لها . فقلت مرتابا : إن المتع كلها فانية فرد غاضبا : بل هى متعة سرمدية تسمو بالإنسان إلى الملائكية – كان يتكلم وعيناه تزداد بريقعا واتساعا وكل قطعة فى جسده تنتفض فقلت له : ما هى لقد شوزقتنى إليها فرد على هامسا : إنها شهوة الموت _ شهوة الفناء الهادئ _ ارتعدت حينما نظرت إليه وسمعت صوته , لقد بدا لى انه عاشق مسحور فقلت مستعجبا : وهل للموت شهوة ؟ فقال : وأى شهوة تعدله فى الحياة زاد عجبى وارتعادى وقلت : وكيف ذلك ؟ فرد على وكل جسده يهتز فرحا : سأخبرك بسر تلك المتعة فلتمنحنى كل جوارحك .... إن الروح حينما تفارق الجسد يارفيقى تبدأ تلك المتعة .. فهى تفارقه جزء جزء ....... تنسحب ببطء شديد يود كل جزء يفقدها أن يهرول ورائها . أن يمسكها ... تحيط به شهوة الحنين إليها .. لأول مرة مزيج من ألم ورغبة تبلغ ذروته حين يأتى الدور على العقل فكل أفكاره تقهر وتنتهى أمام فكرة واحدة أنها فكرة الحياة ولأول مرة يشعر هذا العقل بحلاوة الإستسلام والقهر اللذيذ . تتعلق العينان بمكان الروح .. تود لو تسافر مع هذا الحبيب المهاجر تم تدخل تلك الروح مرحلة أجل وأعظم ...
كان يتكلم وكل جوارحه تتحدث معه _ فوجدتنى اسأله : وهل هناك أعظم من هذا الذى تصفه ؟ فقال : نعم ..... أنها مرحلة التلاشى التى تتحول فيها الأشياء إلى الفناء ....... فيها تدخل الروح إلى عالم آخر . نفق مظلم فى نهايته نور أبدى تتحول إلى ومضة , تشعر لأول مرة بهوان الحياة . تقترب من نهر سرمدى . تعشقه........ تذوب فيه .. تتلاشى .... وتلك هى راحة الروح . انهى كلامه عنذ هذا , أما أنا فقد أصابتنى عدوى جنسى .... فقدت القدرة على الكلام هربت منه حينما عرى أمامى الحياة كلها . شعرت أننى نفسى معرى . وجدت عربتى كما تركتها ولم اشعر بنفسى الا وأنا بالبيت . لقد فقدت احساسى بالزمن . وصار كل ما حولى مبهما . وقفت أمام مرأتى وسألت نفسى : ما الذى حدث للعالم : أكنت أحلم أم أتخيل ..... اعترف أن لى قدرة عظيمة على التخيل ولكن ليس إلى هذا الحد استسلمت لنوم عميق لم اشعر بعده الا باستيقاظ يوم جديد , قمت فاستلقيت على كرسى وأنا مستسلم وكأنى خرجت من معركة حامية الوطيس ولم اصحو توا من نومى , أمسكتى بجرائد الصباح , جذبنى عنوان كتب فيه : ( انتحار أستاذ جامعى فى ظروف غامضة ) سقطت الجرائد من يدى وسقط معها قناعى .........وعدت وأنا عارى مرة أخرى تذكرت حديث الأمس . حاولت الربط بينه وبين هذا العنوان ....... نعم حاولت ولكنى وجهت لنفسى سؤالا هاما : هل اخطأ بالإنتحار ؟ وهل هذا استسلام؟ وجدت مراتى تقول : إن كل منا لا يستطيع اختيار واقعه أما هو فقد اختار , لم يخدع نفسه لكى يعيش فى واقع يكرهه كما نفعل لقد اختار حينما اراد الإختيار ورحل حينما اراد الرحيل , كان صادقا فيما عاش له وفيما مات من أجله ........ فويلا لنا نحن الكذابين .ما الذى فعلناه كى نستحق الموت أو الحياة ؟ نعيش أعمارنا الفقيرة فى تمرد دائم وحينما نموت نتمرد على تمردنا السابق .... لاشئ يرضينا أو يقنعنا ..... إننا نضيع من بين أيدينا متعة الفناء الهادئ ..... نتشبث بأكاذيب صنعناها لنعيش ونحن لا ندرى انه لا قيمة للحياة دون أن نعقد هدنة ولو مؤقتة مع أنفسنا .
فمرحى لك ياصديقى . كم اراك عظيما وأرى من حولك أقزام .. ألتقت أنفاسى ومسحت دمعة فرت على وجهى .. تسرب صوت أذان الظهر ..الله اكبر . تذكرت ......( ومن يقتل نفسه متعمدا .......) تحولت الدمعة إلى دموع ( انتهت )