ون تخطيط مسبق، اخبر عائلته بأن عليهم مغادرة البلد فورا وبدأ بحزم ما خف من امتعتهم، وهو يهم بغلق حقيبة كتبه التي وضع فيها اعز الكتب الى نفسه، التفت الى زوجته وولديه وهو يكمل الحديث الذي بدأه مع نفسه، لقد انتشر الموت بشكل كبير، وصارت الصباحات مليئة بالجثث الملقاة على الطرق وفي مكبات النفايات والتي لا يعرف اصحابها ومن قتلهم ولماذا قتلوا، السير في الشارع اصبح مغامرة خطيرة جدا، الموت يتربص بالجميع، يهجم من الابواب والشبابيك ومن نوافذ السيارات ومن كل الجهات، الموت وحده يتجول في طرقات المدينة كما يشاء، في طريق عودته الى المنزل شاهد ثلاث جثة ملقاة على الرصيف لرجل وامرأة وبينهما طفل في الخامسة من العمر ورجلا كل جثة على صدر الاخرى، في تلك اللحظة قرر مغادرة البلد بعد ان تيقن بأن الموت يتربص بهم وسينقض عليهم في أية لحظة، انه هروب الى مستقبل لا يعرف من ملامحه سوى التفلت من دائرة الموت، حملوا حقائبهم وامسك بيد احد طفليه فيما امسكت زوجته بيد الاخر وساروا بأتجاه مرآب السيارات المتوجهه الى سوريا، حين وصولهم الى المراب استأجر فورا سيارة انطلقت بهم الى حيث الحدود الغربية للعراق، الان سنترك البلد، لا ادري ان كنا سنعود ام لا، اتمنى ان يلطف القدر بنا في الغربة مثلما سمح لنا في التفلت من سهام الموت المندفعة في كل الاتجاهات، كان قلبه مسرعا مثل دواليب السيارة التي اقلتهم واندفعت بسرعة كبيرة وكأنها تنتزعهم من بين مخالب الموت، الصمت يخيم على الجميع، الاطفال يديرون رؤسهم يمنة ويسرة، لم يستوعبوا بعد ما يحصل مثلما استوعبه ابوهم الذي يجلس في المقعد الامامي يعد المسافات المثبتة في لوحات معدنية على جانب الطريق.... الرمادي 60 كم.... الرمادي 50 كم، ما زالت السيارة تندفع بقوة باتجاه الحدود، والهواجس التي تجول في رأسه تتقاطع بشكل معقد مثل زحام السيارات في التقاطعات حين تتعطل الاشارة الضوئية ويختفي شرطي المرور، هل سأجد عملا، هل سيتمكن اطفالي من متابعة الدراسة، وهل سأحصل على علاج يخفف عني الام التهاب المفاصل المزمن، هل سيعود لبلدي السلام وأتمكن من رؤية بيتي ثانية، هوت بضع دمعات على خديه حين تذكر شجرة الزيتون التي تتوسط طرف الحديقة وتمد اغصانها بكل الاتجاهات، كان يحبها كثيرا، في اغلب اوقات الصيف يجلس في ظلالها يكتب بعض القصص والمقالات الادبية، في ظلالها كان قد كتب آخر قصة قصيرة نشرها وحازت على جائزة الدولة للإبداع الثقافي، الوفاء الذي بينه وبين شجرة الزيتون كان متبادلا فهو لا يجلس في ظلالها إلا وجذعها محاط بالماء، لقد احبها حد العشق ويفضل الجلوس في ظلالها على أي مكان اخر، التفت الى جهة اليمين يراقب المسافات التي تقضمها السيارة على الطريق السريع من الرمادي الى الحدود السورية، لا شيء غير الصحراء،كانت الصحراء تبدو هادئة ووديعة رغم ان شمس الصيف الحارقة تلفح وجهها المائل الى الاحمرار، لم يتحدث احد داخل السيارة حتى الان، سائق السيارة يعلم أن كل الذين يركبون معه للذهاب الى سوريا هم هاربون من الموت، مد يده باتجاه الراديو وادار المفتاح، كانت فيروز تغني في فاصل لبرنامج تبثه اذاعة دمشق عن المشهد الثقافي في العراق... بغداد.. والشعراء والصور... ذهب الزمان.. وضوءه العطر، ثمة انفعالات دكت صدره، فتفجرت عيناه بدموع صامته، تذكر بغداد والشعراء، ومهرجان المربد الذي كان يساهم في اعداد بعض محاوره، وحديقة اتحاد الادباء والكتاب في ساحة الاندلس التي كان يجلس فيها يوم الاربعاء مع بعض الشعراء والنقاد متبارين في موضوع أدبي، اخذت زوجته وطفليه اغفاءة طويلة بسبب تعب الطريق، حين اصبحت السيارة على مقربة من الحدود، هدأت نفسه قليلا لكنه لن يشعر أنه بمأمن من الموت حتى يلج الحدود السورية، الجانب العراقي من الحدود كان يعج بالفارين من الموت، لمح بين الطوابير احد زملائه الكتاب فسار باتجاهه، حين اقترب منه وصار خلفه ناداه بصوت منهك.. عبدالجبار.. عبدالجبار.. التفت اليه زميله، تعانقا والدموع تنهمر من عيونهما، لم يستطع أي منهما الحديث بكلمة واحدة حتى هدأت عاصفة البكاء التي جمعتهما، حيدر.. لقد تركت بيتي وكتبي ومسودة الرواية التي كتبتها مؤخرا، نجوت من الموت بأعجوبة فقررت أن اغادر البلد.. وانأ ايضا يا عبدالجبار.. تركت بيتي ووظيفتي وأحبائي وشجرة الزيتون التي كنت تراني اجلس في ظلالها والكلمات تسيل من قلمي بهدوء، آه.. أنا مرعوب يا عبدالجبار ، لكن رعبا اخر ينتظرني، اذا قدر الله ومت في الغربة أين سيكون قبري، فأنا حتى في القبر سأشتاق لأحبتي وأريد ان يزوروني، ولكن كيف اذا كانت الغربة مقبرتي، نعم، أنا اخاف القدر المتعسف الذي ليس من صنع الله، هذا الذي كان وراء كل المصائب والأهوال التي وقعت على الناس المسالمين..