شهور سوداوات وأفواه الوحوش الضارية تنهش عظمى،تعتصر قلبى كشاة مذبوحة،وجدتنى مُبعثراً،مشتت الفكر،شارد الذهن،مُحبط الهمّة،مُمزق الجسد،لا تقوى قدماى على حملى. رأيتنى أُصفع بلا شفقة ولا رحمة ومن كل اتجاه وفي كل مكان، كأنّى مجرم عتيد الاجرام هرب من مصير محتوم، وتلقفته آياد آثمة لم تعرف الرحمة طريقها إلى قلوبهم!.
لتنفّذ بى ما كتبه القدر، رأيتنى مسحوقاً، ضال الطريق بلا هدف، بلا رؤية مُثقل الخطا،لا أدرى إلى أين أذهبّ...؟ وأين أُدُس جسدى المريض..... ؟الذى أضحى أوهن من خيوط العنكبوت! ووجدتنى شاحب الوجه، مطأطأ الرأس، أخذ الشيب يغزو مفرقى، مع إنّى فى نهاية العقد الثانى من العمر! ربيع العمر كما يقولون، بل أنه أضحى ربيع كربيع الثورات العربية، التى أخذت تقتّل أبناءها!، وتسحق شعوبها التى تئن تحت وطأة الظلم والاستبداد، رأيتنى مثل تلك الشعوب البائسة، التى ليس لها ذنب سوى إنها أرادت أن تُكسّر أغلالها، وتفك قيودها لتشتم عبير حريتها، وتقرر حاضرها وتصنع مستقبلها، ولكن أبى السجّان! مزهواً بقوّته،وأخذ يُمعن فى الظلم،ويذيقهم العذاب ألوانا، أخذت أتساءل لماذا كل هذا؟، ولماذا أدفع دائما جريرة ذنوب لم أرتكبها؟.... تأملت نفسى طويلاً، وأخذت أُقلّب كفّى على ما أنفقت فيها، وجدتنى شاخصاً أمام حقيقة نفسى وحقيقة البشر، تساءلت عن سر الحياة....؟، وحقيقة الكون.... ؟، وحقيقة الاقدار....؟، رأيتنى أمام بئر عميق موحش الظلمة، رأيتنى أتساءل كيف أصبحت الحياة تُحكم بشريعة ألغاب؟!، ولماذا...؟ ولماذا........؟ولماذا.........؟، كررتها كثيراً
فلم أستمع لمجيب سوى صوت أنفاسى الباردة، التى أخذت تتهدج تحت آنين الرقّ، ووجدتنى مكبّل اليدين موثوق القدمين، أمام هذف صعب المنال، فرزقى بعيد وطموحى لن يبلّغنى، ماذا أفعل أذن ؟، توقفت الحياة، ولكن أفكارى تتصارع وتسابق الزمن، ولكنّى مقيد القدمين !، كيف لى أن أنطلق بكل فكر داعب خيالى، وكل طموح تسلل إلى عقلى، وهناك قدر شاخص أمام عينى لا يفارقنى، يحد من حركتى يكبّل معصمى، فالقدر للانسان كالرياح للأرض
فالرياح فى العادة لا تسأل الارض التى تلقى عليها أحمالها، أياً كانت تلك الأحمال عن مطلبها او موافقتها أو حتى مجرد شعورها، وإنما تظهر الرياح كقوة هادرة، ترمى بما تملك على أرض رخوة، أرادت أم أبت !، فكيف لى أن أتحرك أذن؟، وتساءلت أين ذهب أبى الذى كان يرقُبُنى من بعيد؟ وكان يمُد إلىّ يد العون من حيث لا أدرى ! أطحنه الدهر بكلكله..... ؟آمزّقه بتطاوله.....؟ أنه هناك يرقد تحت التراب،فتك به السرطان، فنحل عوده ومص دمه، هل سيكون مصيرى كمصيره ؟، أتكون نهايتى كنهايته؟، وعدت أجتّر أحزانى، ووجدتنى أمد يدى إلى السماء،وابتهل بالدعاء فى ليلة ليلاء إلى رب غفور، بيده ملكوت كل شئ.
سألته أن يضئ لى الطريق بنوره، أن يكفينى شر نفسى وشر البشر، أن يلهمنى الصبر كما ألهم أيوب عليه السلام،أن يجعلنى عبداً ربّانياً، أردتها بصدق، ووددت لو أنّى جندي من جنوده كيوسف ابن تاشفين أو الشهيد نور الدين، ووددت لو أنّى اتنقل عبر الزمان فى الفضاء السحيق، وأحلّق كنسر جارح فأقذف الموت على كل من فى الأرض، فلا أُبقى عليها أحداً، أو كطائر حر بلا قيود يهبط على صخرة من عالم سحرى فى جنّة الخلد،أملأ نفسى رحيقها الذكى، أغسل نفسى من ظلم العباد وقسوة الحياة، أضمّد جراح غائرة، أخذت مكانها فى أنحاء جسدى المتفرقة، ووددت لو ولدت من جديد هناك أتنفس عبق الحرية الربّانى، دون أن تلوّثنى أصابع الغدر أو أن تعبث بى يد آثمةً، لا تجرى سوى وراء غرائزها المريضة، ولكن من أين لى بذلك.... ؟وأنا العبد الفقير إلى الله، الباحث عنه، كى يهدينى طريق الرشاد، ولكنّى فى صخب الافكار وتدافعها.
بزغ بصيص النور، وولد الأمل من رحم القنوط، وجدت النور فى قصة ساقها القدر إلى طريقى للدكتور مصطفى محمود: " تحكى عن ذلك الرجل، ذو الرائحة المنتنة " رائحته كانت من ذنوبه، نعم كانت الذنوب لها رائحة هكذا قال العبد الصالح
فأخبره:- بأن رب العزه أحبه وأراد أن يطهره فجعل لذنوبه رائحة
فنصحه: بالتوبة والمغفرة، فتاب وأناب ولكن الرائحة ظلّت تلاصقه بعد التوبة ً، فكان يهرب منه الصديق قبل العدو...! وكانت تعافه الكلاب لنتانة رائحته، فأشتدّ بكائه، وأنعزل فى مقبرة، وأخذته سنة من النوم، فرأى فى المنام: أن الموتى قد هجروا المقابر بأكفانهم من رائحته المنتنة، واستيقظ من نومه ووجد المقابر قد خلت بالفعل، فأشتدّ أبتهاله إلى الله وأشتد نحيبه، وإذا بالعبد الصالح مرة أخرى أمامه
يقول له:- بأن بكائه هذا لايفيد، وستظل رائحته رغم توبته، لأن قلبه ملئ بالاعتراض على عدل الله، وأحساسه بأنه مظلوم دليل على ذلك، وبكاءه ليس أتهاماً لنفسه بالذنوب ولكنه أتهام للعدالة الالهية فى حقه !، فهل المولى عز وجل ظالم "معاذ الله"، وقال العبد الصالح:- لو أطلعت على الغيب، لوجدت نفسك تستحق عذاباً أكبر، كما أن شكّك فى عدالة الله، وعدم رضائك بقضائه وقدره، قد ضاعف ذنوبك من حيث لا تدرى،وليس لك إلا أن تطهّر قلبك، وأن تسلم وجهك، فأنت لست مسلماً "لانك تجادل الله الحساب كل يوم " وكأنك إله مثله، تقول يارب أستغفرتك فلم تغفر لى، دعوتك فلم تستجب لى، وسجدت فلم ترحمنى، وبكيت فلم تشفق علىّ،وصليت وصمت وحججت فلم تسامحني، فأين عدلك.؟، فالتوحيد أن تكون إرادة الله عين ما تهوى، وأن تصدع بالأمر مثل الملائكة، وتقول سمعنا وأطعنا، دون أن تسأل لماذا؟، لأنه " لا إله الا الله" فهو الوجود وأنت العدم، فكيف يجادل العدم الوجود، وأنما يتلقى العدم المدد من الوجود، ساجداً حامداً شاكراً، فبكى الرجل وأدرك أنه ما عاش قط، وما عبد ربه قط، فقال الرجل: لا إله الا الله بصدق، وبيقين، فتضوع الياسمين، وأنتشر العطر وملأ العبير أركان جسده، وتلفّت الناس وقالوا من هناك ؟، من ذلك الملاك الذى تلفه سحابة عطر؟ ! فقال العبد الصالح: أنه رجل عرف ربه.