تَراكَ في الأفق، حيث الظلام ينام متوسدا الليل، إسراءُ المكان إلى الجسد، معراجُ الحقيقة إلى الروح، حيث العدم كل شيء، وكل شيءٍ عدم. تحسبه التيه حيث حييت حياتك الأولى وما بعدها، موتُك الأخير هذا في كوكب الجذب بين الله والشيطان. لم تذهب ولم تجئ، فروحك باقية هناك، جسدكَ يصّاعد إليها صعودا أفقيا كل نومة على جنبك الأيمن، القلب منارتك نحو الارتقاء، الشِّمال الخبيثة تُرفرف تَطهُّرا في الهواء، واليمنى تتوارى خجلا من دنياك.
تسألُ السريرَ الصامت الساخر من جسدك المُهدَّى، مخدتَك المحشوةَ بأسرار البوح عنك، ملائكةَ الطيبة الذين يخشون أن تشي برحلتك، الذين سجدوا لك أول مرة فخذلتهم، الذين يحلقون بك نحوك معصب العينين بالنعاس. تسألُ البحرَ الذي علمك لغة الموج، المطرَ الذي رواك خصبا تحت وقع السير، التربة التي حملتك فوقها لتزرعك تحتها.
للحكمة حكمة وأحكام، طقوسها الحب. تسأل عيونَ ماشيةٍ أويقات عصر، قبلاتِ المساء على رؤوس الأطفال، لذةَ مسام المنية على رؤوس شيوخ أحياء، دمعاتٍ ترقرقت لفراق أموات فعلِقت بأجفانهم هناك، القلوب لا تموت.
تسألُ ضِرعَ أبقار خاضعة لأنامل فلاحات حالبات، ابتسامةَ سقّائي ماء مفلسين في أواني نحاس، حمرةَ حِناء على فرحة راحات جدات، إسفلتا مسلحا باكيا لوداعة أرض، أغصانا مترنحة بحب ريح عاتية، جوعَ فقير لا يسأل الناس درهما ناظرا إلى الله الذي يراه، رعداً مُغنيا عِشقا لفتنةِ سحب مُودعة، شَعرا كثيفا لحلاق حي بمدينة عتيقة، زقزقةَ عصافير تَغزُّلا ًبندى صبح جديد، كتابا في رف اختبأت فيه وردة مهملة تسترق اللمس من وراء غلاف، سجادةً في مسجد تئن من كثرة صلاةٍ دون خشوع.
طعامك اليوم كلمات، ترياق من نفسك الأمارة بكل شيء إلا أنت، أيها البعيد عنك، القريب من كل بعيد عنك. وبين الحلم واليقظة رحلة إلى جزيرة في السماء، فيها صحف من جِلد القدر، ابحث عن صحيفتك التي تحمل اسمك السماوي، افتحها، لكل واقعة صفحتان، في اليمنى سعادة مِن خالقك ملونةٌ بإرادتك، وفي اليسرى شقاء ملون بخوفك وطمعك، كُتِبت لك السعادة فلا تختر الشقاء في اليقظة، الزمن لا يُقرأ سريعا، وحظوظك في التأني. انتهى واقعك، انهض واعمل واملأ حياتك حبا كي لا ينتهي حلمك.
تنفّس عميقا عميقا، الحب في كل مكان، الله في كل مكان. تنطفئ آخر جمرة من دخان البوهالي. انتهى الكلام.