تحت الأرْگانْ جلستُ على جلمود من الدولوميت، وعلى التربة الرملية- الطينية رسمت حرف الكاف، ثم رحتُ أتأمّل واحدةٌ من مغمّدات الأجنحة... أنا أعرف الكثير عن الصخور والمعادن والأحياء؛ لكنّني لا أعرفُ إلا القليل عن نفسي: الأرْگانْ شجرةٌ مستوطنة في منطقة سوسْ المغربية ذات المناخ القاحل، وهي رمزٌ للصبر والمقاومة، والدولوميتْ صخرةٌ أساسُها كاربونات الكالسيوم والمغنيزيوم، والمغمّدةُ حشرة بزوجين من الأجنحة؛ زوجٌ ليِّنٌ للطيران وزوجٌ صلبٌ لحماية الذات؛ والكافُ من الكينونة. فهل أنا كائنٌ أمْ أنَّ كينونتي مجرّد وهم؟
في المدى، رأيتُ المحيط الأطلسي أزرقَ هادئاً، وبعضَ بواخر الصيد تنخرُه. ونظرتُ إلى الفضاء، فرأيتُ السماءً غارقة في الزرقة، وبعضَ طيور النورس ترتفع ثم تهوي على سلطعون يجري مجانبا على الرمل. ونظرتُ إلى أگـادير، فلم أرها؛ كانتْ مختفيةٌ خلفَ جبالِها. وإلى نفسي، فرأيتُها حيرى في مفترق الأسئلة: من يكون ذلك الشرطي الفرنسي ذي الأصل المغربي الذي قُتِل على يد مسلّحين فرنسيين؟ كيف يحدثُ أن تتناقص الغاباتُ المغربية بمئات الهكتارات سنوياً؟ ومتى سيخرج الصحافي رشيد نيني من السجن؟ ولأيّ مصلحة تعارضُ روسيا والصين قرار الأمم المتحدة القاضي بضرب نظام بشار الأسد؟...
لم أقل لهم إنّني ذاهبٌ لخُلوة تأمُّلية. ولمن يمكنني البوحُ بهمومي وإن كانت في صميمها من هموم الناس قاطبة؟ الناسُ لم يعودوا قادرين على تحمُّل هموم الآخرين، وكأن لسانَ حالهم يقول:«نحنُ نفهمُك، ولكنّ لا تثقل علينا رجاءً، تدبّر أمرَك وعِشْ ما استطعتَ إلى أن تموت». ولقد جرّبتُ مثل هذا الموقف السخيف. يسألك أحدُهم: [ كيف الحال؟ وعندما تجيب:« بخير والحمد لله» يتأفّف ويقول:«أنتم دوما هكذا يا عرب، العصا على ظهوركم وتقولون نحن بخير» وإنْ تُجِب:«الحالُ كحال من فُقِئتْ عيناه، وثُقِبَتْ طبلتا أذنيه، وخيط فمُه، وفُرم لحمُه، وهُرس عظمُه...» فيتأفّف ويقول:«آتْفو ويا العيادُ بالله...»
تحت شجرة الأرْگانْ، انتابني الجوع، فأخرجتُ من حقيبتي خبزاً وتَنْكة سردين وقنّينة مشروب غازي. أعرف أن النشا يجلبُ داء الكولسترول المُضرّ، وأن السردين المُصبَّر يحتوي على مواد مُسرطِنة، وأن مشروبَ الكولا عامرٌ بالسموم؛ ومع ذلك تناولتُ وجبة الغذاء الخبيثة هذه... نعم! الجوعُ والقمعُ يبلِّداننا.
من أنا؟ ولماذا أنا في هذه العُزلة؟ هل بسبب تلك المقالة المصرية عن سلبية المثقّف العربي تُجاه الثورة المصرية؟ هل لأنّني شاهدتُ مقتل الشعوب العربية على يد حُكّامها العرب؟ هل لأنّني شاهدتُ مسلسل قتل رؤساء عرب؟ هل لأنّني أشعر بالذلّ لِما لمْ أفعل حُيالَ القضية الفلسطينة؟ هل لأنّني أهِنتُ في مدينة أگـادير المغربية عندما اضطُررتُ إلى السير وسط الطريق لأنّ اليهود حصّنواْ معبدَهم بأصُص إسمنتية على حدِّ الرصيفِ المطليِّ أحمر- أبيض؟
الشمس اتقدتْ. الشمسُ كانت دائما متّقِدة في أگـادير ونواحيها؛ ومع ذلك اصطبرتْ شجرة الأرْگانْ على الجوع والعطش والعراء ملايين السنين. للأرْگانْ أوراق صغيرة تفقدُها متى داهمها الحَرّ، وجذور قويّة تُقدّرها على جلب الماء من أعماق الأرض، وفروع متعرّجة تقيها من سياط الشمس وتمكّنها من التغذي في ظلّ ظلّها... أمّا أنا فلا ظلّ لي سوى ظلّ الظلّ. ومنه أرى معزاً يتسلّق الشجرة الأسطورية ويلتهمُ براعمها الفتية، وامرأة تتبع القطيعَ وتجمِّع روثه في كيس على ظهرها. قريبا ستجني المرأةُ من الروث بذور الأرْگانْ الصلدة لتكسِّرها، لتطحنها، لتستخرج منها زيت الأرْگانْ الشهي... ومن الروث نفسه نور ونار.
تميل الشمسُ فتميل الظلال. وأغفو للحظة، فأحلم بطائر نورس يرتدي سترة جلدية وينتعل حذاءً جلديا ويضع على عينيه نظارتين طبيتين وتحت إبطه كوم من الجرائد. أرى النورس يسقط، يتحوّل إلى ضفدع، إلى سمكة، إلى جسم هلامي شبيه بقنديل البحر، إلى حساء في فضاء مظلم.
أفيق فأرى الشمس آفلة. أقوم لاستقلال حافلة إلى أگـادير. تُقِلّني. أستقللها لأنّها بالية. وأرى من نافذتها المكسورة: بُنياناً عشوائيا على سفوح الجبال المطلّة على الأطلسي، مدينة من أصحاب البيوت السيّارة الأجانب، أكواما من الفوضى والناس الفقراء، وروائح نتنة من باعة أسوأ السمك... وأتساءل:«من جعل البؤسَ في داري؟ من جعلني أغيب عن اختياري؟»