عندما انهمر الليل سهر أهل الحي جميعا داخل بيوتهم وقد أغلقوا الأبواب بإحكام شديد.
تفننوا في سد المنافذ والأسطح.
مضى الوقت ثقيلا والقلوب تدق الصدور مثل الطبول.
الكل يحدق والقليلون يهمسون.
الرءوس تكاد تحترق من التفكير وبركان الظنون.
طلبت الأمهات من أولادهن النوم فلم يستجيبوا.
كانوا يرسمون صورة عملاق أقرع ذي وجه جهم يفوح شرا.
تخطف القلوب عيونه الواسعة جدا.
أنف كبير أفطس وأذنان كبيرتان وشارب كث.
ساقاه طويلتان تختفيان داخل حذاء بني غامق طويل يكاد يبلغ الركبة.
الخناجر في فمه وفي يديه و مدسوسة في عشرة جيوب ومعلق بعضها في كتفيه.
سقط أغلب الناس بعد الفجر بقليل صرعى شراب النوم المسكر.
ظل بعض الرجال مفتوحي العيون .. يد على السلاح ويد تقبض على مطرقة.
يد على فأس ويد على عصا غليظة.
يد تمسك بسكين كبيرة ويد تقبض على خنجر مسنون.
اعتاد أن يهاجم القرية أسبوعيا كل خميس.
اعتادوا أن يُخمسوا قبل مجيئه بكل الخمسات والأخمسة.
لم يعد يوم الخميس عيدا للأزواج والزوجات ولا يوم احتفال للعرسان ولا يوما للولائم التي قد يقيمها المستورون وفاء للنذور.
لأول مرة يخلف موعده ويترك بدلا منه حاضرة بقوة ..شياطين القلق والتوجس والتوقعات المرعبة.
أشرقت شمس الجمعة ولم يظهر عدوهم.
رجل ضخم جبار يأكل لحوم البشر نيئة إذا لم يضع أهل القرية بين يديه الذهب والفضة والأموال كافة ما يملكون مما خف وزنه وغلا ثمنه.
لا يستخدم غير الخناجر التي يصوبها بإتقان غريب.
أشرقت الشمس ولم يظهر.
ظلت الأبواب مغلقة بإحكام والأطفال ممنوعون من الخروج لأي سبب.
توقع الأهالي أن يظهر خلال النهار فلم يظهر.
في المساء عادت القلوب تطرق الصدور كيد ثقيلة تدق طبولا ضخمة.
نفذت في أرواح الجميع أنياب الغضب.. كان يجب أن يظهر بدلا من الانتظار القاتل.
تمتمت العجائز: وقوع القضا ولا انتظاره
إغلاق الأبواب سجن وعدم حضوره قلقٌ وهم.
لم يأت لأيام ثلاثة ..تداعت الأجسام وتعطلت الأعمال وغاب الصغار عن المدارس ولم تخرج النسوة إلى النهر لجلب الماء.
ما عاد هناك بالبيوت طعام غير الخبز الذي أوشك على النفاد.
بينما يراقب الرجال أول الطريق من ناحية الجبل والنهر عبر المزاغل والثقوب الصغيرة.
بدت عالية كبالون كرة كبيرة من الغبار الذي حجب الرؤية.
ظهرت من وراء الأشجار عربة جيب تتقدم بسرعة نحو قلب القرية حيث المسجد والدكاكين المغلقة.
العربة يقودها جندي بينما هناك ضابط يقبض على عصا طويلة مشرعة كساري عَلم تنتهي بكتلة مستديرة.
كانت رأس عدوهم الجبار .. يقطر الدم من ملامحها الشوهاء.
ظلت الأبواب مغلقة لا تصدق أن الرأس المقطوعة رأس من يدفنهم كل يوم أحياء.
أخيرا .. انفتحت الأبواب وارتطمت مصاريعها بالجدران.
هلل الجميع دون استثناء وركضوا كالبلهاء.
مضوا يرقصون حول الرأس المقطوعة التي كانت لا تزال تبث الرعب.
حدّقوا فيها وبصقوا عليها.
حاول فتى أن يدس عصاه في عين العدو . منعه الضابط.
حملوا الضابط على أعناقهم وطافوا به حول المسجد واخترقوا كثيرا من الشوارع والحارات.
سألته النساء عن اسمه ليُسمين به كل مواليدهن طوال العام.
أصر الرجال على إقامة وليمة كبيرة على شرف الضابط.
بعد ساعات وصلت قوة من رجال الشرطة .. قبضوا على الضابط.
صدر الحكم الفوري عليه بالسجن عشر سنوات .أصيب أهل القرية جميعا بالذهول تجمدت الكلاب والقطط والخراف والخيول.
مشهد ثابت لبشر موتي أحياء
بعد لحظات من الغياب مرّت كعام، تراجع الذهول.
حل محله تنهدات وحيرة وعجز، كانوا يعرفون أن عدوهم من أخلص خُدّام الحاكم الأكبر.
لم تستطع القلوب مقاومة الحنق والاستياء، بينما الجنود يضعون بعناية كتلة الرأس بملامحها الأسطورية المتوعدة داخل كيس من الخيش الأبيض.
اندفعت السيارة المتجهمة تحفر الأرض وتهيل التراب على كل شيء.
العيون معلقة بها، بينما الغبار المثار يتحول إلى ركام عال من الأسئلة المبهمة.
ثقلت الرءوس بما يطحنها وانحنت على الأعناق ثم ارتفعت لحظات إلى السماء.
انطلقت فجأة من حناجر الصغار صيحات الفرح.
مضوا يمرحون ويركضون ويتراقصون مع الريح .. بعضهم رسم على الحيطان وجها كبيرا لرجل واسع العينين كث الشارب.
بدءوا يتسابقون في تصويب الحصى إلى عينيه ، والرجال في صمت مريب جلسوا على الأرض يلفهم سهوم، يحدقون في الفضاء كأن عزيزا عليهم فقدوه.