استدلوا على جواز القتال دون الرجوع إلى ولي الأمر بقصة أبي بصير وأبي جندل في صلح الحديبية، فقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش صلح الحديبية -وكان مبعوثهم فيه سهيل بن عمرو رضي الله عنه قبل إسلامه- وجاء في هذه القصة:"فقال سهيل:وعلى أنه لا يأتيك منا رجل-وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليَّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنَّا لم نقض الكتاب بعد" قال: فوالله إذا لم أصالحك على شيء أبدًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فأجزه لي" قال: ما أنا بمجيزه لك .قال:"بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل. قال مِكْرَزٌ(1): بل قد أجزناه لك. قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئت مسلمًا ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله...ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدًا. فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه:"لقد رأى هذا ذُعْرًَا" فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ويل أُمِّهِ مَسْعَرَ حرب لو كان له أحدٌ" فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر. قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لَمَّا أَرْسَلَ، فمن أتاه فهو آمن. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى:{وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }-حتى بلغ-{الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ}[:24-26] وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" وحالوا بينهم وبين البيت"(2). فقالوا: فأبو بصير قد قَتَل من قَتَل أولاً، قَتَل هو ومن معه، ونهبوا الأموال، كل ذلك دون رجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلماذا تنكرون علينا الاقتداء بهؤلاء الصحابة؟!
الرد على الشبهة:
أن أبا بصير ومن لحق به بعد ذلك كانوا غير داخلين في عهده صلى الله عليه وسلم مع قريش، وهذا مُصَرَّحٌ به في القصة، ولذا ردَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بصير وأبا جندل، لما أصر سهيل بن عمرو على إرجاع أبي جندل، ولما أرسلت قريش في طلب أبي بصير حسب صلح الحديبية، وعلى ذلك فليسوا داخلين في صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش، وقد قال الحافظ ابن حجر في فوائد هذه القصة:"ولا يعد ما وقع من أبي بصير غدراً؛ لأنه لم يكن في جملة من دخل في المعاقدة التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش لأنه إذ ذاك كان محبوساً بمكة. وفيه أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية وقد وقع عند ابن إسحاق: أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري- أي الرجل الأول الذي قتله أبو بصير- طالب بديته؛ لأنه من رهطه فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك؛ لأنه وفي بما عليه وأسلمه لرسولكم ولم يقتله بأمره ولا على آل أبي بصير أيضاً شيء؛ لأنه ليس على دينهم"(3).
وقد سئل العلامة الشيخ صالح الفوزان السؤال التالي: ما رأي فضيلتكم فيمن يستدل على عدم إذن الإمام بالجهاد بقصة أبي بصير؟
الجواب: أبو بصير ما هو في قبضة الإمام، أبو بصير في قبضة الكفار في ولايتهم، فهو يريد أن يخلص نفسه من الكفار وليس هو تحت ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول رده لهم بموجب العهد والصلح الذي جرى، أن من جاء من المسلمين فإنه يسلمه للكفار، فالرسول وفىَّ بهذا العهد وردهم والرسول توكل على الله واعتقد أن الله سيجعل لهم فرجًا(4) فأبو بصير كان تحت سلطة الكفار وهو يريد التخلص منهم وليس هو في بلاد المسلمين أو تحت قبضة ولي الأمر(5).
=======================
(1) مِكْرَز هو ابن حفص من بني عامر بن لؤي وكان ممن جاء في الصلح مع سهيل بن عمرو. انظر فتح الباري (5/403، 407).
(2) أخرجه البخاري (2731)، (2732).
(3) فتح الباري (5/351).
(4) يشير إلى حديث أنس عند مسلم (1784)، وفيه أن النبي قال:"إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً".
(5) الجهاد وضوابطه الشرعية (ص/52).