اقترب القطار من المحطة محدثا ضجيجا مدويا. كانت «أمل» تسرع الخطى، لا تلوي على شيء. انقضت على أول درج بعنف غير مقصود، كهارب من العدالة. هوت بجسدها على أول مكان وجدته فارغا وأخذت نفسا عميقا كأنها جرت أميالا. وضعت حقيبتها جانبا ومالت بخدها على راحت يدها تنظر من نافذة القطار تاركة الحرية لعينيها تمسح الأمكنة مسحا. اعتادت «أمل» على هذه الحياة منذ أن حصلت على هذه الوظيفة التي تبعد ساعة كاملة عن بيتها. أيام تذهب وأيام تعود، رتابة استوطنت مسار حياتها التي ليس لها بديل عنها. تستقبل عند كل فجر، يوم جديد، ينتابها حزن داخلي لا تفهمه. تقبل ولديها وتحضن زوجها برفق على أمل اللقاء في المساء. تقفل باب بيتها خلفها وهي حاملة لذلك الحزن الغريب الذي يستوطنها. تستنجد عند وصولها إلى محطة القطار، بكأس قهوة تحضنه بشكل رقيق وتتمتع برائحته وتحمله معها إلى القطار.
سحرتها تلك المروج الخضراء المترامية الأطراف التي ترافقها كل يوم إلى مدخل المدينة. سقط منها سهوا كتاب كانت تحمله بين يديها، سبقتها يد أخرى إليه. أعادته إليها.نظرت إليه، ابتسمت وشكرته. تقول دائما لزوجها"هذه المروج الخضراء تسحرني كأنني أراها لأول مرة". صوت رخيم ينطلق من الميكروفون يعلن عن وصول القطار. كعادتها، تضطرب وتسرع حاملة المحفظة في يد وكأس القهوة في اليد الأخرى. اختفت بين تلك الأمواج البشرية تاركة عينيه تلاحقها عن بعد."أمل"سيدة اعتادت على الجدية في حياتها حتى نسيت أنها أنثى. واستمرت حياتها خط مستقيم كالقطار الذي تركبه. أنيقة بشكل بسيط. لا تثير الانتباه ولا ترغب في ذلك. تحب عائلتها الصغيرة التي تضطر أن تفارقها صباحا ولا ترتمي بين أحضانها إلا في المساء. عادت في تلك الليلة إلى بيتها منهكة. تطلب الراحة والهدوء. وجدت ولديها في الفراش. قبلة قوية على خديهما مع نظرة ممزوجة بالفرح والعتاب. لما استلمت هذه الوظيفة، اعتادت أن تحكي لهما حكايتها مع القطار.أحيانا تجد طفليها بين أحضان النوم وتجلس إلى جانب سريرهما وتحكي. اتخذت لها مكانا قرب زوجها. تكلمت كثيرا رغم العياء البادي على محياها. حكت له حكايتها مع القهوة والكتاب. كان ينظر إليها ويبتسم ويعود إلى حاسوبه. قبلة على خده وسكنت إلى وسادتها. القطار يستعد للرحيل، وأمل تحاول أن تجد لها طريقا بين الأمواج الهائلة من المسافرين، حتى تتمكن من الصعود وأخذ مكانها قرب النافذة التي تجلب إليها إحساسا بليغا بالسعادة. التقت عيناهما على غفلة، ابتسم .
ردت التحية بابتسامة. انبلج صباح جميل على محياها وبدت حالمة كغير عادتها. غير مكانه وجلس إلى جانبها. سألها بصوت منخفض ووديع"هل تعملين بهذه المدينة؟" دون أن تنظر إليه، أجابته والابتسامة الصباحية تغزوكل ملامحها"أعمل بشركة إعلانات." انفرجت أسارير وجهه وقال لها"اسمي ناجي"حاولت تدارك ارتباكها. فهي لم تتعود على هذه اللقاءات المرتجلة والتي تتطلب مهارة كبيرة في الاتصال. جمعت أنفاسها ونظرت إليه بتردد وقالت "وأنا اسمي أمل." وصل القطار.اختفت بسرعة البرق بين المسافرين ونزلت الدرج درجين.أخذت طريقها إلى العمل دون أن تدرك بأنها جد مرحة ومبسوطة كغير عادتها. أطلقت سراح شعرها الذي كان يظل مكبلا حتى يحين وقت النوم. أخذت تدندن في مكتبها. انطلق صوتها خلف الجدران. سمعتها إحدى زميلاتها. قالت لها"أكيد أنه حصل لك شيء جميل هذا الصباح غير مزاجك".نظرات خاطفة ثم تعود إلى أوراقها المتراكمة فوق مكتبها. هاربة من تلميحات زميلتها. عادت إلى البيت وكلها شرارة من الفرح. تكلمت كثيرا مع زوجها . حكت لأطفالها حكاية القطار اليومي. وتاهت روحها مع حدث الصباح . سألت زوجها"لماذا لا نسافر في نهاية عطلة الأسبوع بدل المكوث بالبيت ؟"صاح أحد ولديها"أنا أحب أن نذهب إلى الجبل. كل أصدقائي حكوا لي عنه .انه رائع." التفتت إلى زوجها وقالت والابتهاج يشع من عينيها"ما رأيك؟"تكلم كأن صوته آت من أعماق البحر"بيتنا فسيح وكل أصدقائنا يحبون أن يمضوا نهاية عطلة الأسبوع عندنا... " استحال فرحها إلى انقباض. توجم وجهها. صمتت ثم قالت"حياتنا كلها تمشي كالقطار.لماذا لا نترك القطار ونترجل قليلا.؟"قامت وقبلت ولديها وتمنت ليلة طيبة لزوجها وخلدت إلى النوم. في ذلك الصباح المبتهج كغير عادته، أخذت أمل كامل زينتها التي كانت تتركها جانبا. مشطت شعرها وتركته يستريح على ظهرها. واتجهت صوب المحطة. كأس قهوة في اليد وحقيبة في اليد الأخرى. دون تفكير، جالت بعينيها بين المسافرين تبحث عنه.
لم تجده. صمت مدوي يلف المكان. تركت روحها تنام بين المروج الخضراء . انسلخت عنها والتحمت مع كل نبتة تائهة برية تعشق البراري، ارتوت من أرض صلبة تعج بالماء الصافي الزلال، التحمت بترابها وتلحفت الفضاء. شع نور جميل من وجهها، عادت إليها روحها الهاربة من قبضات الزمن. سألتها"ماذا هناك؟"همست إليها"..حب وجمال.."أخذت نفسا عميقا وسألت "وماذا أيضا؟"همست من جديد"هضاب وسهول ومروج...ليس هناك قطار.."استيقظت على صوت القطار المدوي والابتسامة تكسوملامحها.
قبل أن تلج إلى مقر عملها، أعادت تسريح شعرها واعتقاله كما اعتادت. الجدية والصرامة تستقر بكل جزء من أجزاء وجهها. جاءت زميلتها تخبرها بأن شخصا سأل عنها وهوينتظرها في مكتبها. ذعرت ثم تمالكت وابتسمت. كان هناك يبحث عن جملة تنقده من ورطته هاته . تحية مضطربة وارتباك مزدوج. طلبت له قهوة. سألته دون أن تفكر"لم تستقل القطار هذا الصباح؟"رشف من قهوته وقال لها "اليوم عطلة.لا أعمل. جئت فقط لأطلع على أعمالكم.ربما أحتاج إليكم قريبا." لقاء قصير ودعها وانصرف. ظلت تراقبه بعيون حالمة وبابتسامة أعادت كل الجمال إلى روحها. باغتتها زميلتها وقالت لها "لا تفكري كثيرا.التفكير أحيانا يزعج."وتابعت "هل هومن غير مزاجك؟" لم تجب.انسحبت في صمت وذهول.لما عادت إلى مكتبها، انتبهت إلى دعوة باسمها من أجل الحضور إلى عرض مسرحي. تزلزلت حياتها رأسا على عقب.
أخذت أدرع مكتبها ذهابا وإيابا. قررت في آخر ترددها أن تدعوزوجها إلى هذا العرض المسرحي وتعيد ما سرقه منهما الزمن ولوللحظات. كان اليوم يوم عطلة، نامت حتى طردها النوم من سريرها. كانت تتجول ببيتها كمن يتعلم المشي لأول مرة. فرحة بيوم العطلة كأطفال المدارس. عاد زوجها من جولته الصباحية. فهويفضل المشي كل صباح. تحب أن يجتمع الكل حول المائدة. لحظات تخطفها منها الأيام المتتالية والمزدحمة بشكل رهيب. سألت زوجها بصوت مرح"ما رأيك في المسرح؟"تفاجأ للسؤال. وضع كأس قهوته جانبا وقال" المسرح، جميل وممتع".اقتربت منه أكثر وهمست إليه كأنها تفشي سرا"مار أيك في الذهاب إلى المسرح هذه الليلة؟" وأردفت بانشراح كبير "مفاجأة جميلة، أليس كذلك؟"ابتسامة غامضة وذهول مقتضب. انتظرت، رن الهاتف. أحد يطلبه. اعتذر منها وخرج . انسحبت في صمت تجر أذيال الخيبة وراءها. حسرة مريرة ألحقت الضرر بروحها المرحة. أخذت تذكرة المسرح بين يديها. تأملتها طويلا. خانتها بعض الدموع التائهة من جفونها.أعادتها إلى حقيبتها واستسلمت إلى يومها الذي يتكرر كل يوم. نقرات قوية بالحذاء على الأرض، خطوات واثقة وحازمة. نظراتها ثاقبة وغير رحيمة. كانت في طريقها إلى عملها. جلست قرب النافذة، نظارات سوداء تتوحد مع نظراتها وتسكن إلى روحها التي كانت إلى وقت قريب مرحة كطفلة في يوم العيد.
أشاحت بوجهها عن مروجها الخضراء كأنها أفرغت من الداخل وصارت تتحرك دون هدف كدمية أصابها التلف. كان هناك يراقبها عن بعد ويتردد في الحضور أوالكلام. لا حظ حزنها وسوادها. تحية صامتة وحذرة. ابتسمت له. تحرك من مكانه واقترب منها .قال لها مازحا" اسمي ناجي" ضحكات مخنوقة لكنها كانت كالبلسم على روحها. تحرك القطار بسرعة شديدة، هضاب وسهول في الجانب الآخر تمرق سريعة كأنها في سباق ماراثوني. نظر إليها وقال "هل تستطيعين إحصاء الأشجار التي تمر من هنا؟"لم تجب فقط أومأت بالنفي برأسها. تجرأ أكثر لما اخترق القطار خط الوصول وتربع على عرش محطته، دفع الكلام من فمه دفعا"ما رأيك في المسرح؟" ابتسامة عريضة. كانت تستعد للنزول. قالت" المسرح، ممتع وجميل"استغل لغط المسافرين وضجيجهم وقال لها بسرعة"ما رأيك بمشاهدة عرض مسرحي خلال نهاية الأسبوع؟". علا الضجيج، احتمت بيديها، أزالت نظاراتها السوداء، التفتت تبحث عنه، ابتلعته الأمواج البشرية التي لفظها القطار على محطته.