شتاءٌ جاف، تلفه رائحة الخوف، يخيم على مدينة الموصل التي التصق بها اسم ام الربيعين نسبة الى طول فصل الربيع فيها، وتسمى ايضا مدينة الرماح نسبة الى استبسال اهلها في الدفاع عنها خلال محاولات غزوها عبر التاريخ، حين دخلناها من جهة الجنوب اعتقدت أن لا شيء يتحرك فيها، فكل ما يقع عليه نظري لا يوحي بوجود حياة.. وربما بعض ما شاهدته من خراب ودمار يشي بنهاية غاضبة للحياة العادية، حتى خيوط الشمس كانت تتدلى باستحياء، والأزقة الضيقة بدت كأنها أخاديد مهجورة، تجوبها بعض الكلاب التي يبدو عليها الجوع والتعب، والقطط التي تتوسد اذرعها في بعض الزوايا ، تجولنا بحذر ونحن نتجه الى شارع نينوى الذي يرتبط اسمه بالحضارة الاشورية وهو اسم المدينة في زمن الملك الاشوري سنحاريب، ويسمى ايضا شارع الاطباء نسبة الى كثرة العيادات الطبية الموجودة فيه، ذلك الشارع الذي كان قبل الحرب يعج بالناس الذين يقصدونه من كل المناطق والقرى المحيطة بمدينة الموصل لمراجعة الاطباء واستغلال فرصة زيارتها في التسوق واكل الكباب في مطعم كويسنجق الشهير الواقع في شارع الدواسة، لم يكن فيه حين دخلناه الا بعض بائعي الحمص المسلوق والذي يسمى (اللبلبي) وبعض بائعي الاكسسوارات المتجولين بعرباتهم التي بدت منهكة ايضا مثل المدينة واهلها
تجولنا بسيارتنا في الشارع جيئة وذهابا بحثا عن عيادة الطبيب الذي قيل لنا انه جراح متمكن، رحت أجول بنظري على لوحات اسماء الاطباء المعلقة على واجهات العمارات بحثا عن عيادة الدكتور (رافل)، وبعد محاولات عديدة لم افلح في العثور عليها، توقفنا عند احد بائعي (اللبلبي) في وسط الشارع، كان في الثلاثينات من العمر، ويبدو عليه التأثر باجواء الحرب من خلال ذقنه غير الحليق وايحاءات وجهه المتعب، سألناه عن مكان العيادة التي نبحث عنها فقال أن الطبيب المذكور قد نقل عيادته قبل شهرين الى مستشفى خاص في الشارع العريض غرب المدينة.. ذلك الشارع كما أعرفه كان يعج بالحركة، ولكنه الان يسمى شارع الموت حيث يتداول الناس هذا الاسم كثيرا نسبة الى كثرة الانفجارات والمعارك التي حدثت فيه منذ دخول قوات الاحتلال، فلا يكاد يمر يوم الا وذكرت الاحداث التي تجري فيه بنشرات الاخبار،
تمتمت مع نفسي: الله معنا، دخلنا الشارع من طرفه الشمالي، كنا نسير بسيارتنا التي يقودها شقيقي بحذر وكأننا نسير في حقل مليء بالالغام، لابد أن من نظر الينا استغرب المشهد.. قبل أن نتوغل كثيراً بدأنا نرصد قطعاً متناثرة من الاسفلت وبقايا السيارات الممزقة.. على امتداد الشارع حفر كبيرة وصغيرة بأشكال غير نظامية، كأن شيئاً خرج من باطن الأرض لينزع عن تلك الأماكن غطاءها بعنف.. حاولت أن أكون متماسكاً.. متمنيا أن ما أراه هو نهاية حقبة من زمن الحرب.. كنا نسير لوحدنا تقريبا فالناس يتحاشون المرور في هذا الشارع تجنبا للمفاجات، وصلنا المستشفى بوقت قصير، وبعد أن ركن شقيقي سيارتنا الى الرصيف، خرجت من السيارة بتثاقل ودلفت الى المستشفى اسير ببطء متكئا على كتف شقيقي.. لم نجد زحاماً أو حركة كما هي العادة في المستشفيات.. تجولت بنظري أقرأ الأسماء المثبتة على اللوحات الخشبية المعلقة في زوايا الأبواب المطلة على باحة المستشفى بحثاً عن اسم الدكتور (رافل)..
قصدنا غرفته فوجدنا الباب مقفلاً، اعتقدت أنه قد غادر المستشفى أو ربما لم يأت أصلاً.. سالت رجلاً عجوزاً يجلس وراء جدار من الزجاج في وسط الباحة ويعض بين شفتيه بسيكارة من صنع يدوي فأخبرنا أن الطبيب قد وصل توا وهو الان جالس مع زميل له في الغرفة المجاورة لغرفته.. ذهبنا الى تلك الغرفة، كان الباب مفتوحا فدخلت وسلمت عليهما.. نظرا الي باستغراب.. قلت أبحث عن الدكتور رافل.. أقربهم الي قال تفضل، فشرحت له ما أعانيه، اصطحبني الى غرفته وبعد أن كشف علي اتفقنا على إجراء العملية فوراً.. وفي صالة العمليات الصغرى أجرى لي العملية تحت التخدير الموضعي.. اثناء اجراء العمليه كان يتصرف بهدوء وكأن الوضع طبيعي وان لا حرب ولا انفجارات ولا خوف، حتى أني نسيت الحرب وأجوائها، كنت اراقب تصرفاته من خلال حديثه مع مساعديه وحركاته الهادئه التي تنم عن ثقة بالنفس وخبرة كبيرة، لم تدم العملية اكثر من نصف ساعة، شكرته على جهده وقبل أن أودعه قلت هل لي بسؤال؟ وبعد أن أومأ برأسه مرحبا بأبتسامة عريضة، قلت: ما الذي يجعلك تبدو غير آبه بما يدور حولك في اجواء الحرب والعنف والموت الذي شل الحركة في المدينة، وتستمر بعملك وكأن الحياة طبيعية؟.. إبتسم.. وترادفت الكلمات من فمه بهدوء.. أنا طبيب وعلي أن أبحث عن الحياة حتى ولو كانت وسط الموت، الموت شيء طارىء ولابد أن ينتهي، لا توجد حياة يستمر الموت فيها الى ما لا نهاية، انا لا امنح الحياة للمريض أو المصاب، ولكن أساهم في أن تستمر هذه الحياة لكي يتراجع الموت.