«اللا منتمي يرى الحياة بشكل أعمق»
كان عليهم أن يقولوا أنه ينظر إلى الحياة بشكل أوجع، لأن الذي يندس بين المارة لا يرى غير أجساد تتحرك في اتجاهات مختلفة، بينما الذي ينظر إلى الشارع من ثقب صغير في بيته يرى الخيبة التي تفضح وجوههم ... الفرحة التي تخون خطواتهم ... الأمل الذي يهتز في صدورهم كأشرعة تعبث بها رياح الحلم الكاذب ويرى أرجلهم وهي تتشابك مع بعضها البعض فلا تميزها. "عندما تكون رقما في فوضى الآخرين تغرق في صخبهم ... في ملامحهم ...في أحلامهم المؤجلة ، وعندما تنفصل عنهم، وتنظر إليهم من فتحة صغيرة في جدار غرفتك تغرق في انكسارهم الذي يبدو أكثر وضوحا ..."
كم كنتُ عظيما وأنا أمشي في الشارع..!!
كم كنتُ إنسانا وأنا أمارس طقوس حياتي العادية..!!
أجلس مع أصدقائي في مقهى "نجمة"... يتشعب بنا الحديث الذي تغلب عليه السياسة، فهي كما يقول عنها " سمير " رغيف الشعوب الفقيرة التي لا تجد ما تقتاته، فتمضغ حديث السياسة الذي سرعان ما يتحول إلى مادة سامة تهلكهم... مراد كان أكثرنا حزنا، وصدقا وتورطا... كان يشرق كل صباح على أصدقائه وهو يهرّب في جيبه قصيدة غزل لامرأة تتجدد في حياته وتختصر صورة مدينة تأكل أبناءها ليلا وتلفظهم نهارا... كنت أعلق على قصائده المهربة بابتسامة عريضة: "ما هذا الظلام الذي تغرق فيه ؟!! افتح الأبواب، أشرع النوافذ ودَع الشمس تدخل إلى هذه الممرات الباردة في قلبك..." فيبتسم الجميع لتعليقي... وحدي كنت أغرقهم في فرح دائم، أتحدث عن الحياة بأمل يتمدد على حروفي.
"نجمة" كانت تجمع أجسامنا إلى طاولة تصفعك برائحة القهوة التي نسي النادل أن يمحو أثرها ليلا... نفتح جرائد الصباح ونرحل في آخر القراءة إلى عروض الزواج، كنا نسخر من هذه الفتاة التي تملك عملا محترما، وشقة فاخرة وتبحث عن زوج فقط !! كنا نأسف للزواج الذي فقد قدسيته وتحول إلى عروض مغرية تقدمها المرأة للرجل وهو جالس في مقهى يرتشف قهوة الصباح... ما لون هذا الزواج الذي يقدمه النادل على صينية يعلوها الصدأ ... !! كم كنتُ كبيرا وأنا أمارس هذه التفاصيل الصغيرة!!
اليوم... أجلس هاهنا وحيدا... عاريا من أصدقائي ... من تفاصيل يومياتنا الصغيرة وعاريا من أحلامي التي كانت تسبق ظلي... وحيدا أطل على الشارع الكبير من نافذة صغيرة في غرفتي ... أرقب المارة: هذا يهرول كأنما يريد أن يلحق شيئا ضاع منه، وذاك يتأنى في مشيته وكأنه ينتظر أملا سيلحق به، والآخر يصافح صاحبه بحرارة ويمضي ..الكل يمشي ... يجري ... يتجدد، ويعيد بناء أحلام انهارت، إلا أنا... ستظل أحلامي، بل حياتي حبيسة كرسي متحرك بخيبتي وانكساري، وبقايا ذكريات تأبى أن تغادرني...
كان عامي الأخير في الجامعة عندما رأيتها في قاعة المحاضرات تحضر أمسية شعرية أقامتها الجامعة... كانت صامتة تتابع قراءات الشعراء باهتمام بالغ وكأنها كتبت لها... ثم رأيتها في حديقة الجامعة تعبث أناملها بأوراق شجرة تقف شامخة... ورأيتها أيضا في المكتبة تدرس باجتهاد. لست أدري ما الذي جعلني أترقب خطواتها بعناد... قلت لها صامتا: "إنك الجوهرة المفقودة من حياتي، والحلم الذي لم أحققه بعد..." وعندما التقينا حدثتها بصوت مسموع: "سأخطبك من أبيك"
ردت دون حماس:
ـ أنا ريفية، وفقيرة جدا، ولولا عمتي التي تسكن في المدينة ما دخلت الجامعة... أنا أسكن قرية جبلية نائية، قد لا تصل إليها إلا بمشقة كبيرة... المرأة ـ في قريتي ـ تحلم بمشقة ، ثم تدفع ضريبة أحلامها.
ابتسمت وأنا أرد عليها بثقة:
ـ ستكونين أول فتاة في قريتكم تحلم بيسر ولا تدفع ضريبة أحلامها.
فاتحت أمي في أمر زواجي من هذه الفتاة ،فعارضت في البداية... وأمام إلحاحي الشديد نزلت عند رغبتي... كل شيء تمّ بسرعة، كأنما الأحداث تسابق بعضها لترسم بداية النهاية... كنت أعانق سعادة كبيرة وأنا أقود سيارتي قاصدا محل صديقي عمار لشراء هدية تليق بمقامها الذي كنت أراه رفيعا... أردت أن أتجاوز سيارة كانت أمامي في منعرج خطير فوجدت نفسي أمام شاحنة كبيرة لنقل البضائع... حاولت أن أعود إلى الوراء، أن أغير الاتجاه ، أن ... ولم أفق إلا وأنا أنام على سرير في المستشفى ... أحسست أن بعضي انفصل عن بعضي، وضاع منه... حاولت أن أتحسس قدمي فإذا بيدي تغرق في فراغ قاتل... حينها عرفت أني مبتور الساقين ....
عندما زارتني "آمال" في المستشفى كانت تبكي بحرقة، حتى أغمي عليها، وأكدت لي في مرات عديدة أنها لن تتخلى عني، لأني قدرها !! وعرفت فيما بعد أنها لم تكن تبكيني بقدر ما كانت تبكي حظها السيئ... زياراتها باتت قليلة، ثم انعدمت، وانقطعت عني أخبارها. عندما خرجت من المستشفى، سالت أخي عنها، فتغيرت ملامحه، ولم يجبني... لكن بعد شهور ، وأمام إلحاحي أخبرني أن صديقي عمار خطبها وقد رآها معه مرات عديدة... ساعتها تأكدت أني سأهوي إلى نهر العدم وأن الشمس استقالت من حياتي وسأظل حبيس هذا الكرسي المتحرك.